يمثّل الشعر العربيّ مخزونَ الثقافة وينبوع الفكر، إذ إنَّ "ديوان العرب"، يضم تراثهم وتقاليدهم، وهو مصدر إلهامهم وفخرهم. الشعراء هم ذلك الجنس البشري الذي يقارب الحياة من منطلقات جمالية. والأدب العربي غنيٌّ بقصص الشعراء وتجاربهم الحياتية. إلا أن هذا المقال يحاول الإضاءة على هزائم الشعراء في مغامراتهم العاطفية. تتبلور مشاعر الشعراء، في محاولتهم خلْقَ صورةٍ ماضوية عبرتْ في خلجات حياتهم، وأضاءت كوامنها، ومايزالون يحترقون في مجامر الشوق لها، لانهم غالباً ما يتحالفون مع الأمل لحماية الروح من انكساراتها. الشاعر يرفض السكون والعيش في حياة راكدة. وإنّك لَتجدُه يهيم في أطياف من المشاعر والأحاسيس والانفعالات العاطفية. ان الوجع والمعاناة والافتتان هي ما يشحذ ملكة الشعر لديه، ويؤجّج مشاعره. ما علق بالوجدان عند الشعراء من لحظات جميلة وحب عاصف يجعلهم دائماً يأْملون أن تُستعاد وتتجدد. وهذه عادة تألفها النفس الانسانية، وتأنس لها. إن الحب الذي يعمر قلبَ الشاعر يجسد وحي القلب، لا الرغبة في الامتلاك. وتتباينُ البواعث التي تخلق هذا الواقع الذي يمثل عاطفة قد تبلغ التضحيةَ بالنفس في سبيل المحبوبة. ان آلامهم وعذاباتم هي ما نتغنى به ونستلهم أحلى الأفكار به ، فنعبِّر عما يدور في خلجات نفوسنا تجاه من نحب. إن تمزُّقهم العاطفي يُكسِب تجربتَنا غنًى، فنروح ننهل من دنان تجاربهم .. "عنترة وعبلة" كم منّا ردّد مع عنترة بن شداد العبسي البيتَين الخالدين اللذين عمرا قلوب الأجيال: ولقد ذكرتُك والرماح نواهلٌ مني وبيضُ الهند تقطر من دمي فوددتُ تقبيل السيوف لأنها لمعتْ كبارق ثغرك المتبسمِ جمع في هذين البيتَين بين الحبّ والحرب، ومزج بين دماء جسده المجرَّح بالسيوف والنصال ودماء قلبه المجرَّح بسهام حبِّ عبلة. وتذكّر حبيبتَه في أَقسى وأَحرَج الظروف، إذ كان يرى ثغرَها في التماع السيوف، ويُطلّ عليه وجهُها من خلَل الصهيل والقتام. وبرغم ما يمتلكه هذا الشاعر المغوار من جسارة فقد كانت هزيمته بالحب مدوّية وصاعقة: هذه نار عبلةٍ يا نديمي قد جلَتْ ظلمةَ الظلام البهيمِ تتلظَّى ومثلُها في فؤادي نارُ شوقٍ تزدادُ في التضريمِ ويبث شكواه شعرا حين يقول: إلى كم أُداري من تريد مذلّتي وأبذل جهدي في رضاها وتغضبُ "جميل وبثينة" ولعلَّ من بين أسباب هزائم الشعراء عادةً تعارفتْ عليها القبائل العربية تقضي بحرمان المحبّ من محبوبته، إذا جاهر بحبه لها؛ فكيف للشاعر أن يخفي معاناتَه، ويكتم ما يعتلج في صدره من الهوى والجوى! وهذا ما حلّ بجميل بن معمر العُذري، وسبّب هزيمتَه أمام بثينة التي احبها حتى أمست قصائده عنوانا للحب. توجّه بأبياتٍ عذبة لم يسبقْه إليها أحد: خليليَّ، في ما عشتما هل رأيتما قتيلاً بكى من حبّ قاتله قبلي؟! ويتقي عذابات الملامة قائلا: لقد لامني فيها أخٌ ذو قرابةٍ حبيبٌ إليه في ملامته رشدي فقال: أفِقْ حتى متى أنت هائمٌ ببثينةَ فيها لا تُعيد ولا تُبدي وقوله: اذا قلتُ: ما بي يا بثينة قاتلي من الوجد، قالت: ثابت ويزيدُ "قيس وليلى" وانظر إلى قيس بن الملوح الملقب بمجنون ليلى العامرية وفيها يقول: كأنَّ فؤادي في مخالب طائرٍ إذا ذُكرتْ ليلى يشدُّ به قَبْضا ويقول: أمرُّ على الديار ديارِ ليلى أقبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا وما حبُّ الديار شغَفْنَ قلبي ولكنْ حبُّ مَن سكن الديارا وهذا قيس بن ذريح الكناني؛ هو الآخر جُنّ بمحبوبته لبنى حتى قال فيها: لقد فُضِّلتْ لبنى على الناس مثلما على ألفِ شهرٍ فُضِّلتْ ليلةُ القَدْرِ وابن زيدون ومعاناته مع ولاّدة بنت المستكفي التي قال فيها قصيدته النونية الشهيرة : أضحى التنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيبِ لُقيانا تجافينا كذلك قصيدته الرائعة التي مطلعُها: إني ذكرتكِ بالزّهراء مشتاقا والأفق طلقٌ ومرأَى الأرض قد راقا هذه المكابدة والحرمان لعبا دوراً كبيراً في إثارة قريحة الشاعر، واستدرار منابع ملَكته للفيض والإبداع. فالشاعر مخلوق يجمع في فؤاده، عِبَر الأزل، واضاءات الأبد، وتوهج الواقع، وتتجسد المرأة له سِراً من أسرار الحياة، تمنحها جمالا، وروحا، وألقا.