تظهر الولاياتالمتحدة أمامنا الآن كالثور الهائج، يقفز من مكان إلى مكان، يقتل ويدمر من دون رادع يوقفه عند حده، تستخدم المنظمات الدولية أحيانا وتتجاهلها بعد ذلك في أغلب الأحيان. ففي أثناء عملية "عاصفة الصحراء" استخدمت الشرعية الدولية لطرد العراق من الكويت، ثم بعد ذلك تجاهلتها عند فرضها منطقتي الأمن شمال الخط 36 وجنوب خط العرض 32، وبعد ذلك وجهت ضرباتها إلى أفغانستان ثم السودان غير آبهة بالمنظمات الدولية أو احتجاجات الرأي العام، ثم نجدها تقوم بعملية "ثعلب الصحراء" ضد النظام العراقي مستخدمة الشرعية الدولية في أول الأمر حتى صدر قرار وقف النيران، ثم استأنفت عملية "ثعلب الصحراء" بعد ذلك وحتى الآن باستخدام القوات الجوية بطريقة حرب العصابات خارج الشرعية الدولية "لتفعلها وحدها"، ثم نجدها تقوم الآن بمساعدة وموافقة الخمسة الكبار باستخدام قوات "حلف الأطلسي" لإعادة رسم الخرائط لمصلحتها في البلقان والبقية تأتي!! هذه الظاهرة تحتاج إلى تمعنٍ ودراسة من القوى المحبة للسلام والمتطلعة إلى فرض سلام واقعي مبني على توازن المصالح وحل المنازعات باستخدام الوسائل كافة عدا القوات المسلحة. ولكن تحول دون ذلك أسباب عدة، أهمها اتجاهات السياسة الخارجية الاميركية وتطلعاتها للهيمنة على العالم، إذ أنه بعد توقف الحرب الباردة لسنوات عدة بعد مبادرة غورباتشوف وإجراءاته والتي أدت إلى تحلل الاتحاد السوفياتي وتراجع الشيوعية، وجدت الولاياتالمتحدة نفسها تواجه ثلاثة بدائل. وحدة القوى، أي وحدة الجهود العالمية ضد المعتدي، كما حدث أيام عملية "عاصفة الصحراء"، إما الاستمرار في إستراتيجية توازن القوى، كما كانت عليه الحال قبل انتهاء الحرب الباردة، إما الهيمنة لفرض مفهومها للسلام باستخدام القوة سواء للردع أو القتال. ويلاحظ انها في الأحوال كافة لا تهدف إلى حل الأزمات بنزع فتائلها ولكنها تعمل على إدارة الأزمات لتشكيل الخرائط بما يناسب مصالحها الإستراتيجية أو الاقتصادية. واستخدام القوة في ممارسة السياسة الأميركية ليس شيئاً جديدًا، بل يتم ذلك على أسس عقائدية، فالرئيس بيل كلينتون يطبق في نهاية القرن العشرين ما كان ينادي به الرئيس تيودور روزفلت في بدايته، حينما حدد دور الولاياتالمتحدة في السياسة العالمية، إذ كان يرى أن على العالم أن يشعر بالنفوذ الأميركي، لأن الأمن القومي الأميركي لن يتحقق إلا بذلك، فإذا تعارضت مصالحها مع مصالح الغير فعلى القوة الاميركية التدخل لإعادة تصحيح الأوضاع. وكان روزفلت أعلن في 6/12/1904 "أن الولاياتالمتحدة لها الحق في التدخل، وأن الديبلوماسية العضلية - أي التي لها عضلات - هي جزء من الدور العالمي الاميركي، فلم يعد اتساع المحيطين بكافٍ لعزلها عن العالم، فالولاياتالمتحدة لاعب أساسي على المسرح العالمي، فقد حتم زيادة التعاون المتبادل بين الأمم والتعقيدات المتزايدة التي تكتنف العلاقات السياسية والاقتصادية بينها على الدول المتحضرة أن تتدخل لصوغ السياسة العالمية الصحيحة". ويرى هنري كيسنغر في كتابه "الديبلوماسية" أن تيود دور روزفلت كان أول رئيس اميركي عدّد الدور العالمي للسياسة الاميركية وكان "تفكيره أقرب إلى بالمرستون ودزرائيلي منه إلى توماس ُي÷رسون، فالرئيس العظيم هو الذي يقوم بدور المعلم الذي يجسِّر الفجوة بين مستقبل شعبه وتجاربه، فإذا كان الشعب الاميركي يعتقد في سياسة السلام والفضيلة، فإن روزفلت كان يؤمن بعكس ذلك، لأن العالم في صراع مستمر، وأن نظرية داروين في البقاء للأصلح هي قاعدة أصح للتاريخ من الاعتماد على الفضائل، فما يتعذر على الأمة أن تؤمنه بنفسها تستحيل المحافظة عليه بواسطة الأسرة الدولية، وترتيباً على ذلك كان يعارض نزع السلاح ولا يؤمن بالاتفاقيات، فهي مجرد أوراق مادامت لا تساندها القوة، فأداء فردريك الأكبر وبسمارك في السياسة الخارجية أفضل من سياسة وودرو ويلسون التي اعتمدت على السلام والمبادئ الاخلاقية، وارتباط تحقيق المصالح بالقانون، فسياسة الحديد أفضل من سياسة الحليب كما رأى". بل نرى أن هنري كسينغر، الذي عمل مع كل من الرئيسين نيكسون وفورد أثناء إدارتهما للصراع العالمي أيام اشتغال الحرب الباردة، كان يؤمن بالاتجاه نفسه، إذ كان يعيب على السياسة الاميركية - كما ذكر في كتابه "الأسلحة الذرية والسياسة الخارجية" - تراخي نيتها في استخدام الاسلحة الذرية وقت احتكارها لملكيتها وقبل وصول الاتحاد السوفياتي إلى مرحلة التعادل النووي معها في أواخر الأربعينات، مما تسبب عنه وجود ما يعرف "بقوة الردع" بين امتلاك القوة والتردد في استخدامها، إذ عندما كانت الولاياتالمتحدة تتمتع بالاحتكار النووي كانت قادرة على القيام بالردع الشامل في المكان الذي تختاره والوقت الذي تريده، وبذلك "كانت قادرة على منع الاتحاد السوفياتي من العدوان"، ثم لا ننسى أنه كتب كثيراً عن أن إدارة الصراع تعتمد على عقيدة "كلام كلام - قتال قتال"، بمعنى أن الكلام مع الآخر لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن القتال لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، إذ أن القتال ليس غرضاً في حد ذاته بل هو وسيلة لتليين إرادة الآخر حتى يرضى ويقبل. وواضح أن ما نلمسه الآن في الاستخدام الكثيف للقوة الاميركية سواء وحدها أو مع غيرها في إدارة الأزمات الدولية في عهد الرئيس بيل كلينتون في نهاية القرن العشرين هي العقيدة نفسها التي نادى بها الرئيس تيودور روزفلت في أوله، وهذا يفسر الحقائق الآتية التي تعتبر الإطار الذي يعمل داخله النظام العالمي القائم: - الاعتماد الجزئي أو المرحلي للولايات المتحدة على المنظمات الدولية، ثم الإنفراد بالعمل بعد ذلك، إذا رأت أن مصلحتها تقتضي ذلك تماماً، كما تفعل بعض الأحزاب في وصولها إلى السلطة، فهي حزب مشارك مع غيرها وهي تسعى إلى الاستيلاء عليها ثم تصبح الحزب القائد عند تحقيق الغرض في المراحل الاولى للحكم، ثم بعد ذلك تنادي بالحزب الواحد للانفراد به. - نقل إدارة الأزمات من المسارح الدولية إلى خارجها لتتولى إدارتها بنفسها من دون العمل على حلها، وبذلك تضمن احتكار العمل السياسي على المسرح العالمي لتعيد رسم خرائط العلاقات الإقليمية بما يحقق سياستها الكوكبية باتباع استراتيجية الترابط linkage أي النظرة الشاملة للأزمات والتحكم في إدارتها بطريقة مترابطة. - توفر القوة اللازمة لتحقيق ذلك سواء كانت قوتها الذاتية التي تجعلها تزيد من موازنات الدفاع وتكثف من صناعاتها الحربية وتركز على تفوقها التكنولوجي، أو بالقوة الجماعية مع غيرها، كما يحدث في استخدامها لقوات حلف الأطلسي، ولا بد أن نعترف لها ببعد النظر، حينما أبقت على الحلف حتى بعد حل حلف وارسو لنفسه، وحتى بعد اختفاء نظرية "العدو" ولو نظرياً بعد ما أسمته بنهاية الحرب الباردة. - السيطرة على أسواق السلاح العالمية، فهي الدولة الأكثر بيعاً للأسلحة في العالم، رغم من مناداتها بالحد من التسليح، مع وضع قيود على استخدام هذه الأسلحة في النزاعات الإقليمية، وفرض توازنات قوى معينة تخدم تنفيذ سياساتها والحفاظ على مصالحها بالوكالة عن طريق التلاعب بمهارة في نقل السلاح والتكنولوجيا، وذلك لبناء "قوى إقليمية عظمى" تؤمن مصالحها. - في الوقت الذي تعبد فيه الطريق لقوتها للإنطلاق في الوقت والمكان وبالطريقة التي تريدها، تفرض سيطرتها على الشرعية الدولية باستخدام حق الفيتو، وبذلك فإنها توقع الشعوب في حركة كماشة، ذراعها الأمينى القوة العسكرية الماحقة، وذراعها اليسرى القوة السياسية المتحكمة. والولاياتالمتحدة الآن مشتبكة بقواتها الجوية منفردة ومعها بريطانيا وخارج الشرعية الدولية لتدمير قدرات العراق لتغيير الحكم هناك، وكأن في هذا العلاج الشافي للمنطقة، وكذلك فهي مشتبكة في البلقان وتحت مظلة الخمسة الكبار باستخدام قوات حلف الأطلنطي لتقويض حكم الجزار ميلوشوفيتش وإعادة رسم القوى في المنطقة، إما عن طريق سلخ كوسوفو من يوغوسلافيا أو تقسيمها، وضم الجزء الشمالي الغني إليها وإبقاء الجزء الجنوبي الفقير تحت الوصاية أو إعطاء الحكم الذاتي إلى الإقليم، كما كان الحال من قبل، ولكن ما يجري الآن في البلقان عبارة عن رسالة غير مباشرة، أودعتها الولاياتالمتحدة الأميركية في صناديق بريد من يهمهم الأمر، تحتوي على إنذار واضح باستخدام القوة لو أن أحداً فكر في أن يطير خارج السرب، لدرجة أقلقت إرييل شارون فتردد أنه قال "من المحتمل أن يحل الدور علينا في يوم من الايام"، وأنا شخصياً أدعو الله أن يتم ذلك، خصوصاً أنه لا فرق بين بنيامين نتانياهو أو شارون أو ميلوشوفيتش فكلهم إرهابيون يستحقون العقاب. وفي البلاد العربية أماكن عدة مرشحة للمصائر المجهولة في ظل تفكك عربي واضح يلعب فيه الاخوة الأشقاء على بعضهم البعض، وليس مع بعضهم البعض، الأمر الذي لا يجوز أن يستمر مما يحتم جمع الشمل وتوحيد الصفوف قبل فوات الأوان للاتفاق على الاتجاه الاستراتيجي العام بما يتناسب مع الإمكانات المتاحة. والفيصل في تحديد هذا الاتجاه هو الاتفاق على الوسيلة المتاحة، فهل قوتنا تسمح بالتصدي سواء عن طريق الردع أو القتال؟، أم أن استخدام قدراتنا الشاملة التي تؤدي إلى حوار عاقل هي الوسيلة الأنسب؟، هل ترك النقاط الساخنة من دون تبريدها أمر جائز، أم العمل على عودة الهدوء اليها هو الأمر الواجب؟، المهم أن ندرك تماماً ما يدور حولنا من تغير في الأهداف والأساليب، اهمها التغيير الهائل في إدارة الأزمات باستخدام القوة المحسوبة، والمهم أيضاً أن نعيد حساباتنا بطريقة دقيقة واقعية، والأهم من هذا وذاك أن نعرف ماذا نريد وكيف نحققه بآليات رشيدة مع إدراك عامل الزمن حتى نسير بحكمة في الغابة المليئة بالذئاب الكاسرة والثعالب الماكرة مع توزيع الأدوار وتوحيد الأهداف. وهذا يحتاج إلي أدمغة باردة وعواطف هادئة تسمح بالحسابات الواقعية، لأن الخطأ في الحساب، أو الاستمرار في حال التفكك والضعف، أو البقاء على ما نحن عليه سيغري الذئاب المتعطشة للدماء، وقد أصبح بعضها وسط الدار، والبعض الآخر يعوي خارجها في أرض الجيران. * كاتب، وزير دفاع مصري أسبق.