كان رد الفعل الروسي على عملية "ثعلب الصحراء" مثيراً، وان لم يكن مفاجئاً. موطن الإثارة فيه أنه ذهب الى حد ارسال اشارات دالة الى الولاياتالمتحدة الأميركية كالتهديد بوقف الحوار مع "منظمة حلف شمال الأطلسي" وبعدم توقيع معاهدة الحد من الأسلحة، ثم من جنس استدعاء السفيرين الروسيين في واشنطن ولندن: وهو ما لم تقم به موسكو منذ الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن عنف عبارات الاحتجاج والاستنكار التي وردت في تصريحات الرئيس يلتسين، ورئيس الحكومة بريماكوف، ووزير الخارجية ايفانوف. وإذا أضيف الى ذلك كله التحرك الواسع الذي قام به "مجلس الدوما"، وقراره القاضي برفع روسيا الحصار عن العراق من جانب واحد، وموجة الهجوم الإعلامي على الادارة الأميركية والحكومة البريطانية في الصحافة الروسية: الرسمية والمستقلة، اجتمعت الأسباب كافة للقول بأن ردود الفعل تلك كانت مثيرة للغاية. ومع عامل الإثارة فيها، فهي لم تكن مفاجئة، ولا هي كانت خارج التوقع. وقد يصح - هنا - أن يقال ان الحامل عليها كان تجاهل الولاياتالمتحدة لمجلس الأمن، وتجاهلها - على نحو خاص - لروسيا ولتحذيراتها المتكررة من الإقدام على الخيار العسكري واستعمال القوة. وهذا صحيح، لكنه ليس سوى القشرة التي تغطي المخزون الهائل من الاحتجاج الروسي على السياسة العالمية للولايات المتحدة، أو قل انه النقطة التي أفاضت كأس ذلك الاحتجاج. إذ الأصح القول ان موقف روسيا الاحتجاجي يتغذى من تجربة مريرة من خيبات موسكو في السياسة الدولية، و - بالذات - في ما يتصل بعلاقاتها مع واشنطن: داخل مجلس الأمن، وخارجه. ان أسباباً ثلاثة - على الأقل - ترفع عن رد الفعل الروسي طابع المفاجأة، وتمنحه شرعيته بمقدار ما تضفي عليه صفة الموقف السياسي المحسوب، ولس مجرد رد الفعل الانفعالي الموقوت: أ - أول تلك الأسباب التهميش الأميركي المتزايد لروسيا، في كل ما يتصل بالشؤون الدولية والصراعات الاقليمية. ففي حين، كانت روسيا الفيديرالية تتطلع الى وراثة مركز ونفوذ الاتحاد السوفياتي السابق، وفي حين كانت السياسة الأميركية توحي باستعداد واشنطن لحفظ حقوق موسكو في الادارة المتوازنة للشؤون الدولية، والتعاطي الايجابي معها بوصفها شريكاً دولياً في ذلك، كانت الوقائع المتلاحقة تجذّف عكس التيار، وتكرس الاعتقاد بأن الإدارة الأميركية تنزع نحو تصفية الدور الدولي لروسيا، على خلفية وعيها بالفارق بين موسكو السوفياتية وبين موسكو الروسية، ثم على خلفية عملها الدؤوب لاستثمار نتائج انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراط معسكره الأوروبي الشرقي: مزيداً من تعظيم تفوقها الدولي وانفرادها بإدارة النظام العالمي! ولقد وقفت روسيا على حقيقة هذا التهميش في مناسبات عدة، كانت مدعوة فيها - نظرياً وعملياً - الى أن تكون شريكاً للولايات المتحدة في ادارة شؤون العالم، بوصفها ثاني قوة عظمى، ثم بوصفها عضواً دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي. ومن هذه المناسبات، تلك التي طُرحت فيها قضايا الأمن الأوروبي، أو التي عرض فيها بعض الصراعات الاقليمية على التسوية السياسية، مثل الصراع العربي - الصهيوني، ومسألة البوسنة، أو التي طرحت فيها مسألة التدخل الدولي لإنهاء النزاع المسلح، كما حدث في الصومال، وفي هاييتي، وفي رواندا، أو التي نشأت فيها "أزمة" بين الأممالمتحدة وبين دولة من دولها، على نحو ما حصل في حالة العراق. كانت روسيا قد بدأت شريكاً في التسوية السياسية للصراع العربي - الصهيوني، التي انطلقت في "مؤتمر مدريد"، بوصفها راعياً لعملية المفاوضات. غير أن انتقال المفاوضات الى واشنطن، وما أعقب ذلك من تطورات: كتوقيع "اتفاق اعلان المبادئ"، و"اتفاقية وادي عربة"، ثم سيل الاتفاقيات الجزئية "اتفاق طابا"، "اتفاق القاهرة"، "اتفاق واي ريفر"، وضع حداً لعلاقة روسيا الفعلية بالموضوع، فلم يبق لها من علاقة سوى التسمية البروتوكولية الصورية: راعي عملية التسوية! فيما كان عليها أن تتجرع مرغمة كأس التفرد الأميركي المطلق في ادارة فصول التسوية، بل وأن تصدّق على نوع الحلول الأميركية لأزمة "الشرق الأوسط"! وكانت روسيا دخلت رهانها الدولي والاقليمي - الجديد - بوصفها دولة أوروبية بعد أن زالت أسباب التوجس والخوف منها، وخاصة بعد إعادة توحيد ألمانيا، وحل "حلف وارسو". غير أن الولاياتالمتحدة سعت، بقوة، الى وقف اندفاعة روسيا باتجاه أوروبا، والى محاولة عزلها في اطار حدودها القومية، على خلفية هاجس أميركي حاد بخطورة قيام حالة من الاقتراف بين القوة الاقتصادية الضاربة للقطب الاقتصادي الدولي الجديد الاتحاد الأوروبي، وبين القوة العسكرية الضاربة لروسيا. وفي سياق هذا التطويق الأميركي وجدت نفسها مدفوعة الى الانكفاء مجدداً الى آسيا! ثم كانت روسيا طرفاً دولياً في معالجة ملف نتائج حرب الخليج الثانية، ومنها إزالة أسلحة الدمار الشامل العراقية، ومتابعة عمل لجنة "أونسكوم" المؤلفة لهذا الغرض، قصد تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، للانتقال - بعد ذلك - نحو فك الحصار ورفع العقوبات الاقتصادية عن العراق. غير أنها ستواجه بحقيقة الانفراد الأميركي الكامل بملف العراق، على حساب روسيا ومجلس الأمن الدولي معاً. والشيء نفسه يصدق على أزمة البلقان. فعلى الرغم من وجود علاقات سياسية لروسيا مع يوغوسلافيا، ومصالح اقتصادية وأمنية في منطقة البلقان، إلا أن الولاياتالمتحدة تجاهلت روسيا تماماً في الموضوع، وهمَّشتها - من ضمن تهميشها للأمم المتحدة - في ادارة الأزمة، وعهدت للحلف الأطلسي بالتعامل معها، وصولاً الى اشرافها على حل سياسي رأى النور في "اتفاق دايتون" على النحو الذي استجاب لمصالحها ولمصالح حلفائها في أوروبا. ب - وثاني تلك الأسباب مشاكلها الاقتصادية المزمنة، التي باتت تفرض عليها - موضوعياً - الخروج من عزلتها، وتنشيط دورها الدولي. لقد تخلت روسيا عن النموذج الاقتصادي، الذي عاشت عليه منذ ثورتها البلشفية: المعتمد على القطاع العام ملكية الدولة، وعلى التخطيط المركزي، والنظام التعاوني. واستعاضت عنه، تحت تأثير صعود فئات اقتصادية جديدة خرجت من رحم "النومنكلاتورا"، وتحت تأثير وعود الدعم الغربية، باقتصاد ليبرالي يعتمد على تفويت ممتلكات الدولة الى الخواص، وعلى المبادرة الحرة للمستثمرين، وعلى رفع الدعم الرسمي عن المواد الأساسية، وأتبعت ذلك بتحويل صناعتها العسكرية الى صناعة مدنية، مع فتح أسواقها أمام السلع الأجنبية، وتعريض منتوجاتها الى منافسة صعبة. وفي هذا التحول الدراماتيكي في خياراتها الاقتصادية، وجدت نفسها عرضة لتصدّع هائل في توازناتها المالية، والاقتصادية، والاجتماعية: انهيار مروّع في قيمة الروبل وفي أسعار صرفه، كساد وتضخم، تدهور في معدلات الانتاج وفي نسبة النمو، بطالة متزايدة تفوق كل توقع. وبالنتيجة، وجدت نفسها أمام مخاطر هزات اجتماعية وسياسية داخلية لا تقل فداحة عن زلزال الانفصال القومي. وليس من شك في أن ضغط الأزمة الاقتصادية، المشفوع بتخلي دول الغرب عن دعم روسيا، وصعود اليسار، فالتغيير الحكومي الأخير، يدفع - جميعه - نحو موقف سياسي روسي أكثر حدة تجاه الغرب والولاياتالمتحدة بخاصة. إذ لم يعد لدى روسيا ما تخسره: لا مساعدات، ولا استثمارات أجنبية، ولا هم يحزنون! يتلازم مع هذا، ميل روسي متزايد نحو الخروج من حالة الانكفاء، المديدة، نحو أداء دور دولي أكثر فاعلية، قد تكون غاية هذا الدور استعادة بعض مواقع نفوذ روسيا الضائعة، وقد تكون غايته الرهان على تحصيل عائدات ذلك الدور من دول كثيرة في العالم تحتاج - اليوم - إليه، كما قد تكون غايته التلويح بالقوة، لمن يهمه الأمر، وابتزاز من يحتاج الى ابتزاز... الخ. في كل حال، أدركت روسيا أنها لم تعد تستطيع مداواة جروحها الاقتصادية بمزيد من الإمعان في الانسحاب من الساحة الدولية والانكفاء الى حدودها. فهي ما زالت قوة عظمى عسكرياً، وتستطيع أن تستثمر رأسمال قوتها لانعاش وضعها الاقتصادي المتهالك. ج - أما ثالث تلك الأسباب، فيكمن في الضغوط الداخلية على مركز القرار في روسيا، من قبل المؤسسة العسكرية، كما من قبل الأحزاب السياسية والرأي العام. أما وجهة هذا الضغط، فهي حمل روسيا على إعادة النظر في اختياراتها الاستراتيجية، وفي علاقتها بالغرب، كما في علاقتها بالقوى الاقليمية الكثيرة - في منظومة الجنوب - التي كانت حليفاً استراتيجياً للاتحاد السوفياتي. وسيكون من سوء التقدير الاستهانة بتأثيرات هذه الضغوط مستقبلاً، أو استصغار احتمالاتها، وخاصة أنها تجري في ظل إفلاس كامل للاختيار الاقتصادي الليبرالي، وفي مناخ اجتماعي ملتهب وقابل للانفجار. هذه الأسباب ترفع أي استفهام عن حدة ردود الفعل الروسية حيال عملية "ثعلب الصحراء"، وتبررها على نحو لا غبار عليه. غير أن الأهم، في ذلك كله، أن روسيا، الرافضة لتهميش يفاقمه ضغط جيشها ورأيها العام، وضغط أزمتها الاقتصادية الطاحنة، عبرت المسافة الضرورية بين عتبة الانكماش والانكفاء وبين عتبة الحراك الاستراتيجي الفعال على نحو قوي وسريع. اذ انتقلت من لحظة التمرد على الهيمنة والتفرد الأميركيين، الى لحظة الرد على ذلك ببدائل استراتيجية جديدة. ومن ذلك ما شهدناه في أثناء عملية "ثعلب الصحراء" من تحركات روسية سريعة في اتجاه الصين والهند، وانطلاق حديث صريح عن "مثلث استراتيجي" في أعقاب ذلك. وسيكون من سوء التقدير قراءة مشروع "المثلث الاستراتيجي"، الذي طرحه بريماكوف في سياق تحركه في الصين والهند، بوصفه ردة فعل على الضربة العسكرية الأميركية - البريطانية، حتى وإن أوحى توقيته بذلك. فالثابت أن مثل هذه الخيارات - ذات الطابع الاستراتيجي - لا ينشأ في أيام معدودات، بل ثمرة مفاوضات وإعداد يستغرقان وقتاً طويلاً، خصوصاً حينما يكون على مثل تلك الخيارات أن يحدث نشوؤها، أو العمل بها، دوياً سياسياً هائلاً في الوضع الدولي وتوازناته، كما يتوقع أن يكون عليه الحال في خيار "المثلث الاستراتيجي" هذا. مع ذلك، فمن المؤكد أن اختيار هذه الظرفية - بالذات - توقيتا للاعلان عنه، ليس عبثاً، بل قصد لأمرين على الأقل: لاستثمار لحظة نادرة من لحظات تغوّل القوة لدى الولاياتالمتحدة والاستهانة بالمجتمع الدولي، لإسباغ الشرعية على حلف دولي جديد لن ينظر إليه - عالمياً - بوصفه محوراً يهدد السلم والاستقرار، بل بوصفه فعلاً يحاول تصحيح الاختلال وإعادة التوازن الى النظام الدولي. مثلما قصد لتوجيه رسالة سياسية صريحة الى الولاياتالمتحدة، والغرب، والحلف الأطلسي، تفيد أن صبر روسيا - والصين - بدأ ينفد من معاينة تراكم أفعال الاستهانة، والتفرد، والتهميش! لا معلومات دقيقة ومفصّلة عن طبيعة التفاهم بين القيادات الروسية، والصينية، والهندية، على اقامة حلف ثلاثي استراتيجي، ولا عن طبيعة الاتفاقات التي ستنشأ بينها، ولا المجالات التي ستشملها. ما نعرفه - على وجه التحديد - أن شروط هذا "المثلث الاستراتيجي" باتت ممكنة، وأن قيامه سوف يعيد النظر في الكثير من مظاهر الخلل الذي دبّ في التوازنات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. ولعله من النافل القول إن مثل هذا "المثلث الاستراتيجي" هو أول محاولة - منذ انهيار الاتحاد السوفياتي - لبناء محور عالمي وازن في مواجهة هيمنة القطب الدولي الواحد. نعم، ثمة تمحور أوروبي ناجح عَبَرَ المسافة الصعبة بين الدولة القومية الشريكة مع جاراتها في السوق الاقتصادية، الى الاندماج الاقتصادي والنقدي الكامل. غير أن أوروبا الموحدة ليست معنية بالدفاع عن دور دولي مسروق من أميركا، فهما شريكان كاملان في عائدات مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وهي ليست تحت تأثير الهاجس الأمني، بل محمية بمظلة الحلف الأطلسي. وهذا ما لا ينطبق على دول "المثلث": المهزومة في الحرب الباردة، والمستبعدة من مستحقات النظام العالمي الجديد، والمهددة بمزيد من التهميش والتطويق! إن مشروع "المثلث الاستراتيجي" يملك من الموارد والمقومات الذاتية ما يستطيع به - في حال قيامه - أن يتحول الى لاعب كبير في ساحة العلاقات الدولية، والى قوة قادرة على تصويب مسار هذه العلاقات، وتصحيح الخلل في توازناتها. وليس تفصيلاً - هنا - التذكير بأنه يقوم بين ثلاث دول نووية، ذات قدرة عسكرية استراتيجية هائلة، وأنه يستند الى قاعدة بشرية تتجاوز المليارين ونصف المليار نسمة أكثر من ثلث البشرية، وأنه يشمل جغرافياً ما يزيد على نصف القارة الآسيوية. فهذه - وغيرها كثير - من عناصر الامتياز التي ستزوده بأسباب الصيرورة مشروعاً لتمحور سياسي واستراتيجي ذي أبعاد وتأثيرات كبرى على خريطة القوة في العالم. أما في حال نجاح انطلاقته، فقد يتحول الى قوة جذب دولية من شأنها توسعة رقعة المنضمين إليه من الدول الاقليمية الكبرى في الجنوب. * كاتب مغربي