يشكل ترشيح عزمي بشارة، زعيم التجمع الوطني الديموقراطي، وعضو الكنيست الاسرائىلي، لرئاسة الحكومة الاسرائىلية، سابقة تاريخية هي الأولى من نوعها منذ قيام الدولة العبرية. وتأتي هذه الخطوة في ظروف اسرائيلية معقدة وصاخبة، فالمعركة الانتخابية محتدمة بين المرشحين لهذا المنصب، بخاصة بين بنيامين نتانياهو الرئيس الحالي للحكومة الاسرائيلية، الذي يدافع عن نهجه وعن مستقبله السياسي، وبين خصميه الحقيقيين ايهود باراك زعيم حزب العمل، واسحق مردخاي زعيم حزب الوسط، اللذين يعملان من اجل اسقاط نتانياهو، وربما شطبه من الحياة السياسية الاسرائىلية. أما من جهة الاحزاب الصهيونية، فهي بدورها تخوض صراعاً شرساً لحصد أكبر عدد من اصوات الناخبين لتعزيز وضعها في الكنيست الاسرائىلي. وتبدو المعركة الانتخابية الاسرائىلية الحالية، على غاية في الاهمية بالنسبة لمستقبل كل حزب من الاحزاب، بخاصة بالنسبة للحزبين الرئيسيين العمل والليكود، وبالنسبة للتيار الديني. فكل هذه القوى تخوض الانتخابات، هذه المرة، على أساس انها ستساهم اكثر من أية مرة سابقة، في تقرير هوية اسرائيل، كما ستساهم والى حد كبير في رسم حدودها البشرية والجغرافية، بدفع من المتغيرات الدولية والاقليمية الحاصلة، وبتأثير من مسارات العولمة وعملية التسوية، بانعكاساتهما السياسية والاقتصادية والثقافية. في هذه الظروف يأتي ترشيح بشارة ليساهم في تعزيز طرح سؤال الهوية على المجتمع الاسرائيلي، ويضع اسرائيل مجدداً امام احد تناقضاتها بين كونها دولة يهودية، وبين كونها دولة ديموقراطية، ويفضح الطابع العنصري للدولة العبرية، التي لا زالت تصنف المواطنين العرب فيها على انهم مجرد أقليات أو طوائف دينية، وليس على اعتبارهم مجموعة قومية لها حقوق مدنية وسياسية، في اطار رؤية مستقبلية تفترض تحويل هذه الدولة الى دولة لمواطنيها اليهود والعرب، بدلا من كونها دولة لليهود أكانوا من مواطنيها أم لم يكونوا!!. مع اتخاذ هذه الخطوة الجريئة، أكد عزمي بشارة انه في دولة من هذه الطبيعة، من المستحيل على عربي ان يحلم بالفوز بمنصب رئاسة الحكومة، حتى ان الحكومات الاسرائىلية، لم تسمح لعربي ان يكون عضواً فيها، على رغم ان العرب يشكلون 20 في المئة من المجتمع الاسرائىلي!، ولكنه أكد بالمقابل على أهمية الدخول في معترك التنافس على هذا المنصب للاستفادة من هذا المنبر لطرح مطالب الاقلية العربية في اسرائيل، من منطلق انها أقلية قومية. وتكتسب خطوة بشارة أهميتها هذه من انها تضع العرب في موقع التكافؤ مع اطراف "الموزاييك" الذي يتشكل منه المجتمع الاسرائيلي، فطالما انه ثمة مرشحاً لكل من اليمين واليسار والوسط واليمين المتطرف نتانياهو، باراك، مردخاي، بيغن، فمن الضروري ان يكون هناك مرشح يمثل الاقلية العربية ويتقدم بمطالبها، بغض النظر عن من يكون هذا المرشح. ويعتبر بشارة ان المعركة الانتخابية كل لا يتجزأ، وطالما ان العرب يشاركون في انتخابات الكنيست، فمن الطبيعي ايضاً ان يشاركوا في المعركة على رئاسة الوزراء، للمساومة من موقع أفضل مع الاحزاب الصهيونية، وحتى تفهم هذه الاحزاب ان الوسط العربي ليس ورقة في جيب أحد. من الواضح ان خطوة ترشيح عربي لرئاسة الحكومة، تحمل توظيفات سياسية وتعبوية، بالنسبة للوسط العربي في اسرائيل، إن لجهة تفعيل مشاركة الجماهير العربية في المعركة السياسية الانتخابية، او من جهة تعميق مسارات فك الارتباط بالاحزاب الصهيونية، لصالح تبلور قوة انتخابية وسياسية عربية، كذلك فان هذه الخطوة تفتح ملف الاحزاب السياسية العربية الناشطة في الوسط العربي في اسرائىل، ببنيتها البطركية، وبحواملها العائلية، كما تفتح ملف الافق السياسي لهذه الاحزاب، التي ظلت على الارجح أسيرة القيودات الاسرائىلية المباشرة وغير المباشرة، والتي اكتفت بطرح المطالب العربية باعتبارها قضايا ميزانيات ومصالح مناطقية، وفي أحسن الاحوال تبنت شعار السلام والمساواة، بأفقه المحدود، كصيغة تواطئية لحل أزمة الانتماء الوطني القومي، مع الاندماج بمعنى ما في مسارات الأسرلة. في اطار هذه التداعيات يمكن فهم الهجمة التي تعرّض لها بشارة من قبل بعض الاحزاب والشخصيات الصهيونية والعربية، فبالنسبة للاحزاب الصهيونية، خرق بشارة قدس الاقداس للدولة العبرية اكثر من مرة، وشكك في شرعيتها التاريخية والاخلاقية، وبجدوى وجودها كدولة يهودية، وهو بخطوته هذه يشكك بهوية الدولة وبديموقراطيتها، ويدخل "الأغيار" الى قلب المعادلات السياسية الاسرائىلية، ويربك الحسابات الانتخابية، باحتمال حجب الاصوات العربية عن مرشح اليسار الى الوسط، في خطوة تبدو للوهلة الاولى لصالح نتانياهو، لكن بشارة أكد انه سيسحب ترشيحه في حال شعر ان هذه المبادرة، بظروفها وأبعادها الحالية، ستكون لصالح نتانياهو، مؤكداً بان الترشيح لن يضر بمعركة اسقاط نتانياهو لان اي من المرشحين لن يجتاز نسبة الحسم لهذا المنصب من الجولة الانتخابية الاولى، حيث ستجري دورة ثانية لانتخاب رئيس للوزراء. اما بالنسبة للاحزاب العربية، فمن المؤسف انها وقفت ضد خطوة بشارة، بحجة انه لم يستشرها، وبحجة انه خرق الاجماع الوطني، برغم من ان بشارة كان قد طرح هذه الفكرة منذ اكثر من سنتين على الساحة السياسية العربية، ولكن هذه القوى التي تنتمي في معظمها الى الماضي اكثر من انتمائها للحاضر والمستقبل، والتي تخشى التغيير والتجديد لم تجد متسعاً من الوقت لمناقشة هذه الفكرة، وظلت ترسم سياساتها بناء على رؤى سياسية آنية ومصلحية ضيقة، ومن الطبيعي ان هذه القوى رأت في ترشيح بشارة كسراً لاجماعها هي، أي لاحتكارها الهيمنة على الوسط العربي، كما رأت في ديناميته وفي طروحاته الفكرية والسياسية الاستراتيجية تهديداً لمكانتها وتقويضاً لصورتها السياسية. مشكلة عزمي بشارة هي مشكلة الصراع بين القديم والجديد، بين قوى التغيّر والقوى المحافظة، بين القوى التي تدمج بين الرؤية الاستراتيجية والعملية، وبين القوى التي تغلب المصالح المباشرة، وهي مشكلة السياسة في الساحة الفلسطينية والساحة العربية عموماً، فقد استطاع هذا الشاب الذي يتمتع بميزات المفكر والسياسي، وبفترة زمنية قصيرة ان يحظى على شعبية واسعة في الوسط العربي في اسرائيل، زعزعت مكانة القوى والشخصيات التقليدية، وكشفت ضيق أفق اطروحاتها السياسية والمطلبية، وقد امتدت شعبية عزمي بشارة، الى الساحة العربية، وعقد صداقات متميزة مع نخبة المثقفين والقادة العرب، باعتباره مفكراً فلسطينياً وعربياً، برغم هويته الاسرائىلية، كما ان نفوذه الفكري شمل أوساطاً واسعة من المثقفين اليهود في اسرائيل، وبات خصومه يحسبون له ألف حساب، يقول الصحافي الاسرائىلي آري شافيط "من المشكوك جداً فيه إن كان بالوسع اليوم العثور في مجلس النواب الاسرائىلي على اربعة أو خمسة اعضاء كنيست ذوي رؤية مرتبة وفكر فصيح اكثر من عزمي بشارة. فالفيلسوف السياسي الذي بلور بشكل لا بأس به السجال العام في اسرائيل عندما ابتكر عبارة "دولة كل مواطنيها"، والزعيم العربي - الاسرائيلي الذي طالب بالاعتراف بالفلسطينيين مواطني دولة اسرائيل كأقلية قومية تستحق حكماً ذاتياً ثقافياً خاصاً، هو صاحب قدرة تحليلية نكاد لا نجدها اليوم في الحلبة السياسية الاسرائىلية. وبشكل دؤوب ومتواصل، وبمنهجيه وأهلية كبيرتين ينهمك بشارة منذ اكثر من عقد من الزمان في الكشف الانتقادي للتناقضات الكامنة من وجهة نظره في اساس وجود دولة اسرائيل، وفي تفكيك الايديولوجيا الصهيونية الى عوامل. وباستخدام ترسانة غنية من أدوات الحرب المفهومية ينجح في تعزيز خطوتين متوازنتين سياسيتين - ثقافيتين بعيدتي المدى: الخطوة المعدة لهدم القومية اليهودية القديمة - الصهيونية - والخطوة المعدة لاعادة تركيب نوع جديد حديث، من القومية العربية"، "هآرتس" في 29-5-98 اخيراً، وبغض النظر عن اشكاليات الترشيح بتوقيته وملابساته، والمسؤولية التي قد يتحملها بشارة، أو غيره من القوى العربية، بالنسبة لايجاد مناخ أفضل لطرح هذه الخطوة والتوافق عليها، يمكن القول ان هذه المبادرة السياسية الجريئة هي خطوة في الاتجاه الصحيح ينبغي البناء عليها مستقبلاً لتعزيز وضع الاقلية العربية في اسرائيل، وفي مجال تحويل هذه الدولة الى دولة لمواطنيها، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح ايضاً باتجاه تجديد الحياة السياسية للعرب في اسرائيل، في اطار السياق العام للتحولات المطلوبة لتجديد الحياة السياسية على الساحتين الفلسطينية والعربية. * كاتب سياسي فلسطيني.