بحكم العادة وقلة الحيلة ينشغل العرب المعنيون بعملية السلام بمتابعة ما يجري في اسرائيل وهي متجهة الى انتخابات جديدة لكل من برلمانها الكنيست ورئيس حكومتها في أيار مايو المقبل. وفي هذه المتابعة قد يكتشف هؤلاء أو بعضهم ان من العبث المفاضلة بين الأحزاب الصهيونية واليهودية التي ستخوض تلك الانتخابات، كما المفاضلة بين المرشحين لرئاسة الحكومة، فليس بين هؤلاء وما يستندون اليه من أحزاب خلاف يصل الى حد التمايز حول ما تريده اسرائيل من عملية السلام. فالخلاف، حيث يوجد لا يتعلق بجوهر ما تريده اسرائيل من تلك العملية، انما بطريقة تحقيقه. على سبيل المثال لا خلاف بين اليسار، ايهود باراك وحزبه، وبين اليمين، بنيامين نتانياهو وحزبه وائتلافه الحاكم، على مجموعة الاتفاقات التي أبرمت مع الفلسطينيين، وآخرها اتفاق واي بلانتيشن، ولا على التزام اسرائيل تنفيذها في نهاية المطاف، انما الخلاف على أسلوب نتانياهو في عرقلة تنفيذ كل خطوة فيها، قبل أن ينفذها بالفعل. وعلى سبيل المثال أيضاً، في ما يخص ما أصبح معروفاً بعنوان "الوضع النهائي" للفلسطينيين تغلب ساحة الاتفاق على "ظلال الاختلاف". فهم متفقون على أن "القدس يجب أن تبقى موحدة وعاصمة أبدية لاسرائيل"، وعلى بقاء المستوطنات أو غالبيتها العظمى، وعلى التمسك بأن لهذه المستوطنات حق التوسع "تلبية لاحتياجات النمو الطبيعي" وعلى تفسير "النمو الطبيعي" على نحو يتجاوز الزيادة الطبيعية للسكان بالتوالد، ليشمل رغبة أي يهودي في الانتقال الى المستوطنات بذرائع ايديولوجية أو دينية. وهم متفقون على ان "لا حق للاجئين الفلسطينيين في العودة" ومتفقون على أنه حتى اذا انتهت مفاوضات الوضع النهائي الى اعتراف اسرائيل بوجود دولة فلسطينية، فإن تلك الدولة يجب أن تكون مجردة من العناصر الجوهرية للسيادة: السيطرة على الموارد الطبيعية والمجال الجوي والمياه الاقليمية، وأن تكون منزوعة السلاح ومحرومة من الحق في اقامة علاقات عسكرية مع دول أخرى. "ظلال الاختلاف" حيث توجد، ليست عديمة الأهمية، لكنها ثانوية وتتناول أموراً مثل حق الدولة الفلسطينية المفترضة في أن "يكون اقليمها وحدة جغرافية واحدة" والتضحية بعدد قليل من المستوطنات تأميناً لهذا الشرط. وعلى هذا النحو، إذا اكتشف العرب المعنيون بعملية السلام عبث المفاضلة بين الأطراف الصهيونية واليهودية في الانتخابات الاسرائيلية المقبلة، فإن من الخطأ أن ينصرف هؤلاء العرب عن تلك الانتخابات التي تجرى قبل موعدها المقرر بعام كامل. فقرار اجرائها كان تجلياً لظواهر استجدت على المؤسسة السياسية الصهيونية التي تداولت أحزابها الحكم وتداولتها الائتلافات والتحالفات والانشقاقات الحزبية على مدى نصف القرن الذي مضى من عمر الدولة، ونصف القرن الذي سبق منذ تبلورت الحركة الصهيونية السياسية حول هدف اقامة الدولة اليهودية. صورة تلك المؤسسة كما تبدو في بدايات الحملة الانتخابية، يتصدرها مرشحون ثلاثة لرئاسة الحكومة يتقدمون صفوف قوائم حزبية رئيسية ثلاث، ما هي الا صورة من أمام، وراءها عمق حافل بالقوى والبرامج والمطالب. *** وفي محاولة لامعان النظر في عمق هذه الصورة، لا تصعب ملاحظة أن وجود مرشحين ثلاثة وقوائم حزبية رئيسية ثلاث، تتنافس على رئاسة الحكومة واستطراداً على طبيعة الائتلاف الذي سيحكم، هو بحد ذاته من معالم التغير الذي لحق بالمركّب السياسي الاسرائيلي. فحتى الانتخابات الأخيرة في 1996، كان ذلك المركب مبنياً على التنافس بين كتلتين حزبيتين رئيسيتين توصف إحداهما باليسار والأخرى باليمين، ويحدد فوز احداهما طبيعة الائتلاف الذي يحكم بعد الانتخابات وتقوده. أما في الانتخابات المقبلة، فهناك للمرة الأولى يمين ووسط ويسار، وقد يبدو ظهور هذا الوسط ودخوله حلبة المنافسة البرلمانية علامة على تفتت المؤسسة السياسية، انما قد يتبين انه محاولة لانقاذها من التفتت الذي أخذت ملامحه في البروز في نتائج انتخابات 1996، إذ حصلت الأحزاب الدينية وأحزاب أقصى اليمين القومي على وزن برلماني جعلها العنصر ذا المساهمة الأكبر في صوغ الملامح السياسية للائتلاف الذي رأسه بنيامين نتانياهو بعد تلك الانتخابات، ومكّنها - في النهاية - من تقويض هذا الائتلاف وإملاء قرار حل الكنيست. وفي الانتخابات الأخيرة أيضاً، ظهرت كتلة انتخابية جديدة لم يسبق أن عرفت الدولة الصهيونية نظيراً لها ولا شبيهاً. فحزب "اسرائيل بعاليا"، حزب المهاجرين من الاتحاد السوفياتي السابق يختلف عن كل ما عرفت اسرائيل من أحزاب، وهذه، كبيرها وصغيرها، قامت على مرتكزات ايديولوجية محورها مصير اليهود، وعقائد سياسية محورها مصير الدولة. اما الحزب المستجد فليست له دعاوى ايديولوجية أو ادعاءات سياسية تتعلق بهاتين المسألتين. هو ببساطة معني بمصالح هؤلاء المهاجرين الجدد. وحصل هذا الحزب في أول انتخابات يخوضها على 9 مقاعد في برلمان من 120 مقعداً، في بيئة سياسية مفتتة، الأمر الذي أعطاه وزناً ملحوظاً في التشكيل الحكومي وفي التوازن البرلماني معاً. *** الخطوة التالية نحو إمعان النظر في عمق هذه الصورة، هي ربطها بأثر رجعي، بوجهة التحرك في الحياة السياسية الاسرائيلية على مدى نصف قرن مضى. كانت وجهة ذلك التحرك هي من اليسار نحو اليمين، وهو ما وصل الى قمة أولى في انتخابات 1977 التي حملت تحالف ليكود الى الحكم وأبقته فيه حتى 1992، باستثناء دورة حكمت فيها حكومة تعايش بين اليسار واليمين. أما عودة اليسار الى الحكم في 1992 فتبدو الآن حالة عرضية، ربما أثراً مباشراً للانتفاضة الفلسطينية، فلم يلبث اليسار أن خسر الانتخابات في 1996. لكن قصر عمر ارتداد التوازن السياسي الاسرائيلي نحو اليسار، لم يكن هو الملمح المميز الوحيد لذلك الارتداد. فلم يعد سراً أن من عناصر ذلك التوازن الاتفاق غير المعلن بين اسحق رابين وبين الكتلة البرلمانية العربية برعاية منظمة التحرير الفلسطينية، والذي مكنه من تشكيل الحكومة. وكان هذا "التحالف"، ان جاز وصفه على هذا النحو، أهم العناصر التي أدت الى توقيع اتفاق أوسلو في 1993. *** وهنا بيت القصيد، لأنه يفتح الباب لخطوة أخرى على طريق امعان النظر في عمق الصورة السياسية لاسرائيل على أبواب الانتخابات. أي: هل ان هذه الصورة تتسع لدور للناخبين العرب في تشكيل صيغة الحكم الذي ستؤدي اليه تلك الانتخابات؟ وما هي طبيعة هذا الدور إن وجد؟ لعل أول ما يخطر على البال انه تمكن مساومة واحد من المرشحين وحزبه، بالوزن الانتخابي العربي في اسرائيل، لتحقيق تعديل في موقفهم لمصلحة الفلسطينيين في المفاوضات، أي تكرار ما حدث في 1992. ألن يكون هذا خوضاً للحرب الآتية باستراتيجية الحرب السابقة؟ أليس من دلالات خريطة التصويت في انتخاب رئيس الحكومة في 1996، ان من أهم الآثار التي ترتبت على دخول الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي الى درب التفاوض باتجاه السلام، ان أصبح أي رئيس حكومة لاسرائيل يعتبر انه يستمد تفويضاً في شأن هذه المفاوضات من الناخبين اليهود وليس من جملة الناخبين؟ فانتخاب نتانياهو لرئاسة الحكومة تحقق بتفوقه على شمعون بيريز بما نسبته نصف واحد في المئة من جملة الناخبين، لكنه تفوق عليه بما نسبته حوالى 10 في المئة من الناخبين اليهود، وكان هذا العامل الأخير هو الذي حدد له سياسة المفاوض، ومن شأنه أن يحدد سياسات الحكومات الاسرائيلية في هذا الشأن حتى نهاية المفاوضات. ومن هنا يكون السؤال حول وجهة التصويت العربي في الانتخابات الاسرائيلية المقبلة متعلقاً بانتخاب رئيس الحكومة أكثر منه بانتخابات الكنيست. ويعيد هذا الى الذهن تصريحات للنائب العربي عزمي بشارة، لعلها كانت من باب التفكير بصوت مسموع، حيث قال انه قد يرشح نفسه لرئاسة الحكومة الاسرائيلية، بالطبع ليس تعلقاً بالفوز وانما للتأثير في التوازنات على نحو يفتح باب امكانية ان لا يفوز أي من المرشحين الصهيونيين في الدورة الأولى للانتخابات، مما من شأنه أن يجعل الاسرائيليين عموماً يدركون تأثير التصويت العربي ومعاملته بما يستحق من احترام. وحين أبدى النائب بشارة تفكيره على هذا النحو لم يكن في الوارد أن يخوض انتخابات رئاسة الحكومة ثلاثة من المرشحين الصهاينة، وهو ما قد يحقق احتمال ان لا يفوز أي منهم في الدورة الأولى من الانتخابات. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن ينصرف بشارة أو غيره عن فكرة الترشيح لرئاسة الحكومة، فهدف اشعار الاسرائيليين بوزن التصويت العربي والنظر اليه باحترام يبقى قائماً وجديراً بالتوخي. اضافة الى أنه في المناخ السياسي الاسرائيلي الذي زاد اندفاعاً نحو اليمين منذ انتخابات 1996، يكون التصويت لمرشح عربي لرئاسة الحكومة رسالة عقاب لا تخطئها القراءة لجميع المرشحين الصهاينة الذين يجمع بينهم موقف متقارب من مفاوضات السلام مع الفلسطينيين. ومع ذلك فإن هذا النوع من التصويت العقابي لا يخلو من مشاكل، لأنه إذا كان من شأنه أن يخرج مرشحاً من الجولة الثانية، فالأرجح أن يكون ايهود باراك، مرشح حزب العمل، أي النكوص عن التحالف العربي الضمني مع ذلك الحزب في انتخابات 1992. وما يترتب على اخراج باراك في الجولة الأولى، أن تجري الجولة الثانية حصراً بين اسحق موردخاي مرشح "الوسط" وبين بنيامين نتانياهو كما نعرفه. عندئذ يكون السؤال: أي وجهة يتخذ التصويت العربي في تلك الجولة الثانية؟ وليس هناك جواب سهل على هذا السؤال. قد يكون الامتناع الجماعي عن التصويت هو الامتداد المنطقي للتصويت للمرشح العربي وللغرض منه. لكن هذا أيضاً قد يعني تحرير رئيس الحكومة الذي سينتخب من الحاجة لمراعاة المواطنين العرب في سياساته، وقد لا يقتصر هذا على سلوكه حيال عملية السلام، انما ينسحب أيضاً على الشؤون الداخلية التي تتناول حياة هؤلاء المواطنين ومصالحهم. البديل عن الامتناع الجماعي عن التصويت هو العودة الى المفاضلة بين موردخاي ونتانياهو، وفي هذه الحالة يمكن تصور أن يكون الترجيح لموردخاي، فهو كان "المعتدل" في حكومة نتانياهو خصوصاً بالنسبة الى سياسة الاستيطان وهو الذي افتتح حملته الانتخابية بتنبيه المستوطنين الى أنه في التسوية النهائية مع الفلسطينيين لن تستطيع اسرائيل الاحتفاظ بكل المستوطنات. وفي حالة هذا الترجيح يكون السؤال الذي يجب البحث عن جواب له هو: في هذه الفرضية، هل يمكن أن يكون التصويت العربي لموردخاي، في حال فوزه، شرطاً على سياساته، أو، بالأحرى، هل يمكن أن يكون هذا التصويت أساساً لصفقة سياسية تعقد معه؟ *** إمعاناً في النظر في عمق الصورة السياسية الاسرائيلية، ترتاد الخطوة التالية الوضع بعد الانتخابات. وهي تطرح سؤالها من ناحية على السلطة الفلسطينية التي ستتفاوض على الوضع النهائي، كما تطرحه على النواب العرب في الكنيست، وتطرحه اجمالاً على السياسات العربية تجاه عملية السلام. والمتوقع ان تسفر الانتخابات البرلمانية عن كنيست أكثر تفتتاً من الكنيست السابقة، وهو ما يشير الى رئيس حكومة يصعب أن يحكم والى برلمان محدود القدرة على البقاء. فهل يستطيع العرب أن يتضافروا لكي يوضحوا لكل من يعنيه الأمر، وأولا وقبل كل شيء للاسرائيليين، ان ثمن التشدد الاسرائيلي في عملية السلام هو فقدان الاستقرار السياسي في اسرائيل؟ * كاتب سياسي مصري، لندن.