عقدت الجمعية المصرية للدراسات التاريخية مؤتمرها السنوي اخيراً، في مكتبة القاهرة الكبرى، حول موضوع "مصر في عصر محمد علي.. إصلاح ام تحديث؟"، وذلك لمناسبة مرور 150 عاماً على وفاة محمد علي باشا الذي حكم البلاد هو وخلفاؤه. ويذكر أن "الجمعية التاريخية" هي المؤسسة المصرية الوحيدة التي احتفلت بهذه المناسبة، لكن سبق ان احتفلت "مصر الملكية" قبل 50 سنة بمرور مئة عام على رحيل محمد علي على نطاق واسع. وفي بداية مؤتمر الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، والذي استمر ثلاثة أيام، قدم الدكتور رؤوف عباس، بوصفه مرثر المؤتمر، رؤية تقويمية لعصر محمد علي، معتبراً أن الاخير استطاع بناء دولة حديثة لعبت دوراً فاعلاً على الساحة الدولية. وارتبط ذلك بنهضة زراعية وصناعية، وتكوين جيش حديث. غير ان هذه الانجازات - كما يرى رؤوف عباس - جاءت على حساب الشعب الكادح، الذي عانى بشدة خلال حكم محمد علي، ولم يتمكن من قطف ثمارها الا في مرحلة لاحقة، فتحسنت اوضاعه نسبياً. وقدم الصحافي كامل زهيري بحثاً حول سيرة محمد مظهر باشا، احد الذين ابتعثهم محمد علي الى فرنسا، ليلتحق بمدرسة الهندسة في باريس، وعاد الى مصر ليقود العديد من المشاريع، خصوصاً في مجال الري، وعلى رأسها القناطر الخيرية. واشار الى ان "مكتبة القاهر" قامت بجمع تراث محمد مظهر باشا، ومنها خطابات منه الى أصدقائه، وكذلك صور نادرة من وثائق خاصة به. وعاد الدكتور سيد عشماوي اتلى اوائل القرن الحالي، حينما اخذ الاحتفال بالعيد المئوي لولاية محمد علي مظهراً سياسياً، عكس الصراع بين مختلف القوى السياسية في مصر. وكانت صحيفة "اللواء" تبنت الدعوة الى هذا الاحتفال العام 1901 ففتحت باب الجدل حول حكم محمد علي، ما بين مادح وقادح. ولوحظ في ذلك الوقت ان الصحف الوطنية احتفت بتلك الدعوة بينما رفضتها الصحف الموالية للانكليز، اما الشعب نفسه فقابلها بفتور. وتناول الدكتور علي كورخان من تركيا صورة محمد علي، كما رسمها كلوت بك، في تحليل نقدي غير مسبوق. اذ قدم كلوت بك، طبيب محمد علي الخاص، في كتابه "لمحة عامة عن مصر"، وصفاً لملامح الباشا، إضافة الى المواقف السياسية التي ميّزت فترة حكمه. ويتوافق الوصف الجسمي الذي شرحه كلوت بك الى حد كبير، مع ما ذهب اليه كثير من الرحالة والديبلوماسيين في هذا الصدد. إلا ان الصورة التي وضعها لأخلاق الباشا حملت كثيراً من المراجعات والتصويبات، لما كان شائعاً عنه، في تلك الآونة، في اوروبا. فالرسام هوراس فيرناي، مثلاً، كان رسم لوحته الشهيرة التي تبين مدى "فظاظة" محمد علي اثناء تنفيذه لمذبحة المماليك. إلا ان كلوت بك يصف لنا، على النقيض، مدى التأثير الذي انتاب محمد علي في اعقاب تلك "الجريمة السياسية". اكثر من ذلك يقدم لنا كلوت بك صورة تبرز السمات الاخلاقية لباشا مصر داخل عائلته كرب أسرة وأب يتسم بالبساطة الشديدة داخل نطاق المنزل. وتلك نقطة مهمة اذا وضعنا في الاعتبار استعارة هذه السمة، من صورة ملك الفرنسيين لويس فيليب الذي أراد ايضاً ان يكسب الشعب الفرنسي بإعطاء صورة عن حياته الخاصة المتسمة بالسعادة داخل العائلة. وفي ما يتعلق بصورة محمد علي كسياسي، فإن وصف كلوت بك لها يعتبر غاية في الأهمية فانطلاقاً من تأثره بفلسفة التنوير، يصور كلوت بك الوالي محمد علي، باعتباره "مستبداً مستنيراً". وهي صورة قريبة مما ورد عن فريدريك الثاني ملك بروسيا، في كتابه "ضدميكا فيلي". وطرح الدكتور سيد البحراوي أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة، رؤية جديدة تحت عنوان "محمد علي مؤسس الحداثة التابعة"، إذ تساءل حول ما تبقى من إنجازاته بعد نهاية عصره مباشرة؟، ورأى "انه للأسف لم يبق الكثير"، وان مسؤولية ذلك يتحملها محمد علي نفسه، لجهة أن مشروعه قام بصفة على أساس التطلع الى الخارج، تحالفاً او صراعاً، من دون الانتباه الى الشعب المصري، ليكون القوة الاساسية التي كانت تستطيع الدفاع عن هذا المشروع باعتباره مشروعها، وليس مجرد توجه فرض من أعلى ولم يصل الى أعماق المجتمع الحقيقية. لقد أراد محمد علي ان يبني دولة حديثة، بالمفهوم الاوروبي للحداثة، ولم يبذل جهداً حقيقياً على إمكانات التحديث، الحقيقية التي كانت متاحة، ولو على نحو جنيني قابل للتطور والنضوج. بل يمكن القول إن محمد علي فعل العكس وقضى على هذه الامكانات، مثلما قضى على دور العلماء والتجار والأشراف كما هو معروف. وهو ايضاً حوّل النظام الاقتصادي الذي كان ينبئ، عبر صراعاته، بإمكانات تطور، الى احتكار شخصي له، قبل ان يلحقه بالنظام الاقتصادي الرأسمالي الاوروبي، او الذي يسمى بالعالمي. ولم يأت هذا الإلحاق من منطلق الندية، بل من باب التبعية، لأن محمد علي حاول أن يبني مصر الرأسمالية بأدوات الرأسمالية الاوروبية، وليس بأدوات وقيم مصرية، يقال إنها كانت مؤهلة لتحقيق ذلك، لو سُمح لها بالتطور والنضج. ومن يتابع كيفية بناء هذه الحداثة يستطيع أن يتأكد أنها تمت من خارج المجتمع المصري، او على قمته، وبعيداً عن قاعدته العريضة. وناقش الدكتور محمدي عبدالحافظ من جامعة الزقازيق، استغلال محمد علي للحضارة المصرية القديمة، مشيراً الى ان الأخير كسب في اوروبا سمعة طيبة باعتباره "حاكماً شرقياً مستنيراً يأخذ بأسباب التقدم العلمي والتكنولوجي الغربي الحديث"، إلا ان حرب المورة جعلته يفقد هذه السمعة، وبالتالي المكانة التي احتلها. إن العلاقة مع الغرب الاوروبي في المجالات العلمية كانت الشعل الشاغل لمحمد علي الذي اعتمد في بناء الدولة الحديثة على الغرب كنموذج يحتذى به، بل أرسل اليه بعثاته العلمية، فاستعان بالسان سيمونيين، وهم اصحاب مذهب فلسفي في فرنسا، في مشروعاته الكبرى، ومن ثم اصبحت محاولة إعادة الاعتبار لباشا مصر مهمة اساسية، بل وحيوية للحكومة المصرية، ترافقت مع حرب المورة والكشف المذهل لشامبليون للأبجدية المصرية القديمة. استوعب محمد علي أهمية هذا السبق العلمي لمصر وللحضارة الإنسانية على السواء، ومن ثم حاول استثمار هذا الحدث المهم في تحسين صورته في الغرب، وللترويج الدعائي لمشروعه الحضاري لبناء دولة حديثة واستمرار المساعدة التقنية والعلمية لمشروعاته الإنشائية والصناعية. ومن هنا يبين الباحث مدى تغير النظرة والسلوك في التعامل مع آثار الحضارة المصرية القديمة، والتي لم يكن ينظمها قانون او لائحة ما، اكثر من ذلك لم تلق الاهتمام والاحترام الواجبين، إلا من قبل الاهالي، ولا من قبل السلطات الحاكمة التي لم تتورع عن هدم المعابد والمسلات الفرعونية القديمة لاستخدامها في بناء الجسور والقصور والمساجد. بل وكانت تجارة العاديات القديمة، وخصوصا المومياوات، تجارة رائجة داخل مصر وخارجها. كل ذلك يتضارب مع أوامر محمد علي باشا التي تحذر وتمنع الاتجار في الآثار، وتحظر التنقيب عنها إلا بتعليمات منه، وهي اوامر تهدف الى الدعاية للدولة المصرية ولوالي مصر المستنير في اوروبا. ولعل لقب "محيي الدولة المصرية" الذي اطلقه كاتب فرنسي على محمد علي كان وليد هذا الاهتمام الجديد. وكشف الدكتور غيناي غوريا تشكن من روسيا النقاب عن رحلة لمهندسين مصريين أوفدهما محمد علي الى ما وراء الاورال في سيبيريا حيث يستخرج الذهب، ورافقهما في هذه الرحلة إيفور كوفاليفسكي، وهو مهندس التعدين الذي اصبح في ما بعد نائباً لوزير الخارجية الروسي. وزار كوفاليفسكي مصر لكي يساعد تلميذيه السابقين، علي محمد وايليا داشوري، في بناء مصنع غسل الرمال الحاملة للذهب في اثيوبيا، وحصل محمد علي باشا على الذهب نتيجة لذلك. وفي التقرير الرسمي عن هذه البعثة نبه كوفاليفسكي الى اهمية إقامة العلاقات الديبلوماسية والتجارية بين روسيا وبلدان افريقيا، وحدّد انواع البضائع المرشحة للتبادل التجاري. واقترح تنظيم رحلات البواخر على خط أوديسا - القسطنطينية - الاسكندرية، باشتراك الحكومة. وتم تنفيذ اقتراح كوفاليفسكي هذا، إثر انتهاء حرب القرم التي عجّلت بتحقيق ذلك المشروع في شكل إنشاء شركة الملاحة والتجارة الروسية، ومنحه والي مصر، إبراهيم باشا، نيشان الاستحقاق لجهوده في تنمية العلاقات المصرية - الروسية. وفي الخلاصة فإنه يحسب للمؤتمر استضافته باحثين غربيين، ما أقام حواراً افتقدته الساحة التاريخية المصرية منذ عقود، إذ اعطى تضارب وجهات النظر طابعاً حيوياً للجلسات، ومن ذلك ما طرحه بيترغران، الباحث الاميركي حول ان مصر كانت على وشك النهوض في اوائل القرن الماضي بغض النظر عن صعود محمد علي الى السلطة من عدمه، وذلك بعد ان سأم المصريون فساد النظام المملوكي. وهذه الرؤية تختلف كثيراً عن الرؤية الشائعة لتفسير الاحداث في مصر، والتي روج لها خلال العقود الماضية، وهي تعتمد على ان الحملة الفرنسية كانت الحد الفاصل في نهضة مصر المعاصرة، وتحرك المصريين نحو تحديث بلدهم. ومن الملفت للنظر، خلال جلسات المؤتمر، تعدد المدارس التاريخية، فعبدالكريم مدون الباحث المغربي اعتمد على التحليل الاجتماعي والنفسي للأحداث التاريخية، وهو متأثر بالمدرسة الفرنسية، بينما غلب على الباحثين المصريين الطابع السردي للأحداث، وان تميز بعضهم بدرجة عالية من التحليل والربط، مثل الدكتور أحمد الشربيني، الذي قدم دراسة ربط فيها بين الأحداث في مصر وعُمان في فترة محمد علي، ومدى تأثرها بالعلاقات والصراعات الدولية.