في الأسبوعين اللذين انقضيا قبل إجازة عيد الأضحى كنت في زيارة استطلاعية إلى اليابان في أقصى الشرق، وهي زيارة نقلتني إلى عدة مناطق ومدن بعضها لغرض مشاهدة بعض المنشآت الثقافية وأخرى للحديث مع المختصين حول شؤون اليابان وشجونها. الإنسان الياباني كثيراً ما يوصف بأنه حيوان اقتصادي، لذا فإن الوضع الاقتصادي هو أول ما يبادر الزائر في اليابان، وهو يواجه أزمة متعددة الجوانب، ففي الوقت الذي يزدهر فيه الاقتصاد الأميركي تواجه بقية السوق العالمية أزمة اقتصادية طال مداها. في اللغة اليابانية - والتي تطورت منذ آلاف السنين عن اللغة الصينية - يرمز إلى الأزمة بإشارتين، الأولى تعني الخطر والثانية تعني الفرصة. واليابان المعروفة لدينا في الشرق بأنها قد حققت المعجزة الاقتصادية هي واقعياً اليوم في أزمة اقتصادية يسميها اليابانيون الركود الطويل، بعد أن تبين ان تسخين الاقتصاد الذي وصفه المتخصصون في الثمانينات باقتصاد الفقاعات، قد وصل إلى درجة الغليان. ولأنها أزمة، فإنها تشتمل على الخطر حيث أنه قائم ومشاهد يشير إليه اليابانيون بارتفاع في نسبة البطالة في اليد العاملة، الأمر الذي لم يعرفه الاقتصاد الياباني من قبل، ومن ثم يجدُّ في البحث عن فرص متاحة للخروج من هذا الخطر، تلك الفرص لا يزال اليابانيون يبحثون عنها، ووجد بعضهم بعض الأمل للعثور على هذه الفرص عن طريق النظر إلى الجغرافيا السياسية المحيطة باليابان. ينظر اليابانيون اليوم إلى منطقة جنوب شرق آسيا والمنطقة الآسيوية الأوروبية المحيطة ببلادهم بعين استراتيجية بعيدة الهدف، فهم يرون أن ما يحيط بهم يتغير بسرعة، فالعمالة الأوروبية الموحدة التي دخلت التداول مع مطلع السنة الجارية، تعني في ما تعنيه دخول أوروبا فترة تاريخية جديدة، فترة تنفض عنها غبار الحروب التي تمت في هذا القرن، ومنها حربان عالميتان لم تكن اليابان بعيدة عنهما، بينما ظل شاغلها أن تتوحد اقتصادياً ومن ثم سياسياً، كما ينظرون إلى انتهاء الحرب الباردة وكأنها وداع عصر بكل ما له وما عليه، واستقبال عصر آخر جديد في العلاقات الدولية، كما ينظرون إلى الوضع الاقتصادي المأزوم في جنوب شرق آسيا وكأنه نذير خطر حقيقي لما تجلبه العولمة من شرور، فقد فقدت اليابان الكثير من استثماراتها هناك بسبب سيل العولمة الاقتصادية وهي عولمة لا يستطيع اليابانيون ولا غيرهم أن يدفعوا بلادهم بعيداً عنها، أو يتجنبوا شرها، عليهم فقط أن يتعايشوا معها، وربما يساعدون في ترويضها، من أجل تحسين "الوجه القبيح للعولمة". كما ينظر اليابانيون بقلق إلى القوة النووية النامية في الهند وباكستان على حافة آسيا الغربية وقريباً من بلادهم التي تعرف وحدها دون غيرها ماذا يعني استخدام هذا السلاح الفتاك، انهم ينظرون إلى ذلك بريبة وخوف لا يخفيانه. أما مشكلات كوريا الشمالية المستعصية، والتحالف الصعب مع الولاياتالمتحدة، فإن لهما وزناً آخر في السياسة الخارجية اليابانية، ينظر إليهما اليابانيون كالقدر الذي لا راد له ولا دواء يشفيه. تلك بعض المشكلات التي تواجه متخذ القرار الياباني، بجانب ما يواجهه من وضع اقتصادي يزداد صعوبة كل يوم. مع ذلك، فإن اليابانيين يعتقدون ان هذه الأزمات تشكل بعض الفرص، تبدأ بفرص سياسية وتنتهي بفرص اقتصادية، فمع انتهاء الحرب الباردة فإن آسيا الأوروبية تفتح أمام اليابان باباً لفرص التعاون كما لم ينفتح من قبل، فمع نهاية هذه الحرب وسقوط الاتحاد السوفياتي، بدأت قطاعات كثيرة في الرأي العام العالمي تقتنع بتبديل تنظيم العلاقات الدولية من علاقات تقوم على توازن القوى مدعومة بالقوة العسكرية، كما كان يحدث في مجمل القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى علاقات دولية تقوم على التعاون بين الدول بغض النظر عن اصطفافها بين الشمال أو الجنوب أو بين الشرق أو الغرب، وهي أفكار تناسب الوضع الياباني الذي حرم عليه - مع نهاية الحرب العالمية الثانية - أي تسلح ثقيل. المسالمة أصبحت سياسة ثابتة لدى اليابانيين، ولم تعد خياراً مفروضاً، فقد استمتعوا بثمراتها الايجابية لسنين طويلة، وقد جوبهت سياسة عسكرة المجتمع الياباني - التي حاولها في بعض الوقت حزب الأحرار الياباني الذي حكم معظم سني ما بعد الحرب - بنقد ورفض عنيف من قطاعات المجتمع المختلفة. ويمكن القول بشيء من التحفظ إن الإنسان الياباني بجانب كونه حيواناً اقتصادياً، فهو أيضاً إلى حد ما حيوان مسالم. تسعى اليابان في سياستها الخارجية - خصوصاً في مجال الجغرافيا السياسية المحيطة بها - إلى تشجيع قيام تجمع دولي من أجل الأمن والتنمية في القرن الواحد والعشرين وتتطلع إلى دور قائد فيه. وقد قامت بخطوات عملية من أجل تحقيق ذلك الهدف، فلأول مرة منذ ربع قرن يقوم رئيس وزراء ياباني بزيارة روسيا الاتحادية، في العام الماضي، على أساس أن يصل الطرفان إلى اتفاقية سلام سنة ألفين، أما الصين فهي بلاد واسعة تحدث فيها تطورات اقتصادية مثيرة لشهيرة الاستثمار الياباني، وهي بلاد كانت دائماً في موقع الخلاف السياسي التاريخي، وفي العام الماضي أيضاً وصل أول رئيس صيني إلى اليابان في أول زيارة رسمية على هذا المستوى في تاريخ البلدين الطويل. شراكة الأهداف والتعاون التي تريد اليابان أن تبنيها في المنطقة وعلى مستوى العالم ليست دون منغصات، ففي شبه الجزيرة الكورية هناك بقايا من الحرب الباردة، كما هي البقايا في كوبا القريبة من الولاياتالمتحدة، ففي كوريا الشمالية لا يزال النظام الاشتراكي هناك يعاني من المشكلات الداخلية ويحاول تصديرها إلى الخارج، خصوصاً في موضوع صنع الأسلحة ذات التدمير الشامل، هذه المرة السلاح النووي، والبحث عن السلام والاستقرار يبدأ عن طريق نزع فتيل هذا الخلاف الذي يبدو نزعه مستعصياً، لأنه ايديولوجي، رغم استعداد اليابان لتقديم ما تعرفه جيداً وهو المساعدات الاقتصادية لتشغيل الطاقة في كوريا الشمالية بطرق بعيدة عن الماء الثقيل، ولكن هذا الأمر لا يزال يراوح مكانه. تتوجه اليابان في تحقيق هدفها لإقامة تعاون من أجل الأمن والتنمية لما تسميه بعض أدبياتها بديبلوماسية طريق الحرير، وهو التوجه إلى وسط آسيا، البلدان والقوميات التي انفك عقدها من الاتحاد السوفياتي السابق، فهناك الكثير من المصادر والثروة الاقتصادية، وكذلك الكثير من اليد العاملة الرخيصة والأسواق الجديدة، وفي العام الماضي أيضاً عقد في اذربيجان لقاء مهم لإعادة الحياة إلى طريق الحرير التاريخي من أجل التجارة الحديثة، وفتح طرق اتصال جديدة، وأرسلت اليابان وفداً ذا مستوى عال للاشتراك في ذاك المؤتمر. وللتدليل على اهتمام اليابان بهذه المنطقة، فإنها تساهم بأفراد يابانيين يشغلون مناصب عليا في هيئة الأممالمتحدة في العديد من التنظيمات التي تتابع السلم في هذه المنطقة، فرئيس فريق المراقبة الدولي في طاجاكستان ياباني، كما هي رئيسة الفريق الدولي في البلقان، كما تسعى اليابان بكل قوة إلى أن يحتل سفيرها في فرنسا أعلى منصب ثقافي دولي وهو مدير عام اليونيسكو، والذي ينافسه العربي السفير غازي القصيبي سفير المملكة العربية السعودية لدى بلاط سانت جيمس. ولعل الهدف الأسمى الذي تسعى إليه اليابان في التكوين الجديد للعلاقات الدولية، والذي يحل التعاون بدلاً من توازن القوى المعتمدة على قوة السلاح، هو أن تكون عضواً في مجلس الأمن، وهو هدف يحقق من جهة وصول اليابان سلماً إلى قيادة دولية مرموقة، ويحقق من جهة أخرى بعض ما هدفت إليه اليابان إبان انتشار الروح العسكرية قبل خمسين سنة أو يزيد. إنها مفارقة مسيرة التاريخ، فقد تفرغت اليابان في الفترة الطويلة السابقة لكسب السباق الاقتصادي، متخففة من كل الأعباء التي تفرضها سباقات التسلح الثقيل، فبنت السدود والطرق والانفاق والسكك الحديدية، بل والمدن، وها هي تعود - عندما اختلفت تحالفات العالم - إلى الصدارة. * كاتب كويتي.