كان نمو القوة الاقتصادية لبلدان جنوب شرق آسيا، خلال حقبتي السبعينات والثمانينات، حدثاً ذا تداعيات مهمة على مجمل الاقتصاد الدولي، من حيث إعادة توزيع خريطة الانتاج العالمي وتغير نمط المبادلات التجارية الدولية، وتوجهات حركة رؤوس الاموال. وكثرت الكتابات التي تتحدث عن تدهور المركز النسبي للقوة الاقتصادية الاميركية في مواجهة الصعود الاقتصادي لآسيا ومنطقة المحيط الهادي، ولا سيما في ظل التقدم التكنولوجي لليابان ودخول الصين دائرة التنافسية الدولية وعودة هونغ كونغ احد النمور القدامى الى حضن الصين الدولة الأم. بل لقد تحدث العديد من المحللين عن ان القرن المقبل سيكون "قرناً آسيوياً". لذا كان هناك شعور متنامٍ لدى بلدان العالم الاول المتقدم، بأن النمو غير المحدود لبلدان آسيا الصاعدة يشكل مصدر تهديد القوة الاقتصادية الاميركية والرأسمالية الغربية عموماً، ولا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة. ومن ثم كان من المطلوب استراتيجياً تحجيم أو وضع حدود، لعمليات النمو في البلدان الاسيوية الصاعدة. ولا يعني ذلك الأخذ بنظرية المؤامرة على نحو ما يذهب بعض المحللين، بل يعتبر ذلك نتاجاً طبيعياً لتعدد وتنافس المراكز الاقتصادية الرأسمالية المتقدمة على الصعيد العالمي. فلقد شهد تاريخ النمو والتوسع الرأسمالي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تناقضات وتنافساً حاداً بين المراكز والامبراطوريات الاقتصادية للسيطرة على طرق ومسارات وتدفقات التجارة. وما نشهده الآن ما هو إلا استمرار لهذه الظاهرة بأشكال وآليات جديدة. ولعل الاستنتاج الرئيسي الذي يفضي إليه هذا النوع من التحليل هو استشعار الولاياتالمتحدة الاميركية بضرورة وضع حدود للقوة الاقتصادية الاسيوية، إذ لا بأس من بقاء البلدان الاسيوية الصاعدة في ساحة الاقتصاد العالمي كنمور جريحة، ولكن لن يسمح لها بأن تنمو كي تصبح "أسوداً" تنازع ملك الغابة سطوته وسيطرته. كذلك يجب ألا يغيب عن بالنا ان هناك قيوداً تواجه الغرب والولاياتالمتحدة في محاولتهما لإضعاف آسيا البازغة اقتصادياً، لأن الإمعان في الإضعاف سوف ينعكس سلباً على الاداء الاقتصادي في اوروبا والولاياتالمتحدة ذاتها، نتيجة اهمية الصادرات الاوروبية والاميركية والاستثمارات المتجهة نحو البلدان والاسواق الاسيوية نتيجة التداخل والتشابك الشديدين بين اقتصاديات واسواق بلدان العالم المختلفة منذ بداية الثمانيات. فلقد بلغت الاستثمارات الاسيوية في الولاياتالمتحدة الاميركية نحو 95 بليون دولار مقابل 61 بليون دولار هي مجمل الاستثمارات الاميركية في منطقة اسيا والباسفيك في اوائل التسعينات. وعلى الصعيد الأمني، يرتكز البنيان المعماري الاميركي "التقليدي" منطقة آسيا والباسفيك على اليابان وكوريا الجنوبية ورابطة جنوب شرق اسيا التي تضم الفلبين وتايلاند واستراليا بهدف "الحفاظ على منافذ تجارية ومنع صعود اي قوة مهيمنة وحيدة، أو قيام تحالف معادٍ للولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها في هذه المنطقة"، على نحو ما أكده جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي السابق، في مقال مهم منشور في مجلة FOREIGN AFFAIRS. بيد ان هذا المعمار "الامني - الاقتصادي"، بدأت تهتز ركائزه اخيراً في ظل التململ الياباني من الضغوط الاميركية، وفي ظل التقارب "الصيني - الياباني"، اذ تعتبر زيارة الرئيس الصيني لليابان في شهر تشرين الثاني نوفمبر 1998 الزيارة الاولى من نوعها، وتفتح بدورها صفحة جديدة في العلاقات الصينية - اليابانية. ولقد وصف الرئيس الصيني جيانج تسه خمين الإعلان الصيني - الياباني المشترك، الذي صدر، في نهاية هذه الزيارة، على انه اهم انجاز لزيارته التاريخية الى اليابان، وانه سوف يسهم في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين وانتقالها الى آفاق جديدة. ولا شك ان تطوير العلاقات اليابانية - الصينية، رغم استمرار الخلافات السياسية حول بعض القضايا والملفات المهمة بين البلدين، سيساهم في الإقلال من قدرة الولاياتالمتحدة الاميركية على اللعب على التناقضات بينهما... وضرب كل منهما بالآخر. والامر الجدير بالاعتبار، هو انه رغم الحجم الاقتصادي العملاق لكل من الصينواليابان، فإنهما لم يصلا بعد الى مستوى التحدي السياسي السافر للولايات المتحدة الاميركية. فبينما تدافع الصين عن مصالحها الاقتصادية ومواقفها المتشددة المتعلقة برفض "مبدأ استقلال تايوان"، فإنها حريصة كل الحرص على عدم الدخول في مواجهات حادة مع الولاياتالمتحدة الاميركية في المرحلة الحالية، سواء على صعيد القارة الاسيوية او على صعيد المسرح السياسي العالمي. ومن ناحية اخرى، فقد إزداد حجم التوترات التي شابت العلاقات اليابانية - الاميركية في الفترة الاخيرة، نتيجة الضغوط الاقتصادية والمالية المتزايدة على اليابان، وإجهاض الولاياتالمتحدة للمشروع الياباني بإنشاء "صندوق نقد اسيوي"، ينافس صندوق النقد الدولي في توفير السيولة اللازمة للبلدان الاسيوية، من دون المشروطية المتشددة التي يمارسها الصندوق الدولي. اذ رأت اليابان ان المقصود من هذا الرفض الاميركي، هو عدم إعطاء اليابان حرية الحركة المالية اللازمة، لحل الازمة الاقتصادية في اسيا، بمعزل عن "الدور الاميركي" ودور صندوق النقد الدولي، ولكن رغم هذا الجرح للكرامة اليابانية، فإن "اليابان" لم تصل بعد الى مرحلة "قول لا"، بشكل واضح وصريح، ومازالت "تكظم غيظها" في الوقت الراهن. وعلى صعيد معركة "العلم والتكنولوجيا"، ذكرت صحيفة "لوس انغليس تايمز" ان الحكومة الصينية قد تصنع سلاحاً بالليزر يمكنه إطلاق اشعة قوية في الفضاء ليعوق اقمارا اصطناعية اميركية. وذكرت الصحيفة نفسها - مستندة الى مصادر في وزارة الدفاع الاميركية - الى ان الصينيين يطوّرون السلاح بمساعدة علماء من الاتحاد السوفياتي السابق. ويعود ذلك "التوجس الصيني" الى ان المسؤولين الصينيين إنزعجوا من المعلومات التي قدمتها الاقمار الاصطناعية للقوات الاميركية اثناء حرب الخليج العام 1991، وانهم في حال قلق مستمر من ان هذه الميزة ربما تستخدم ضدهم اذا نشبت حرب بين الصين واي من جيرانها، في المستقبل. واذا ما نظرنا "نظرة كونية" الى موازين القوى المتحركة في العالم مع بدايات القرن الواحد والعشرزين، نجد ان ريتشارد نيكسون في كتابه "اقتناص الفرصة السانحة"، الصادر العام 1992، اشار الى ان التحدي الجديد الذي تواجهه الولاياتالمتحدة في المستقبل هو إمكان نشوء محور جديد للقوة NEW AXIS OF POWER يمتد من الصين شمالاً مروراً بجمهوريات اسيا الوسطى الاسلامية حتى ايران، ثم وصولاً الى بلدان المشرق العربي والخليج. وتكمن عناصر قوة هذا المحور، في تقديره، في كونه يمثل "متصلاً جغرافياً"، ويحوي بين جنباته كتلة بشرية هائلة وموارد واحتياطات غزيرة للطاقة، كما يضم طاقات تكنولوجية وقدرات نووية عالية. ولعل "هاجس نيكسون" هذا لم يكن من قبيل الوهم او المغالاة، فنحن سوف نشهد خلال السنوات المقبلة، تكون عناصر هذا المحور الجديد للقوة ليصل الى حافة المنطقة العربية. وضمن هذه الرؤية الاستراتيجية، تمثل "العراق" و"منطقة الخليج" بوابة العرب المستقبلية نحو "اسيا الجديدة" في كل تحولاتها وتشكيلاتها، فإذا فشلنا، نحن العرب، في الارتفاع فوق جراح ومآسي "حرب الخليج"، ولم ننجح في اعادة اللحمة بين منطقة الخليج والعراق، من ناحية، وبين بقية اجزاء الوطن العربي من ناحية اخرى، فسوف نفقد البوابات والقنوات الرئيسية التي تصلنا باتجاه اسيا الجديدة الصاعدة. وتتحول "منطقة الخليج"، و"العراق" الى "مناطق عازلة" بدلاً من "مناطق وصل"، تقطع الطريق على لقاء العرب "عرب المشرق والمغرب" مع خطوط القوة الجديدة في اسيا. وليس سراً ان اسرائيل تسعى الآن جاهدة لكي تكون هي بوابة اليابانوالصين الى منطقة "الشرق الاوسط الجديد"، حيث يلعب العرب دور "الكومبارس".. وليس دور اللاعبين الرئيسيين في خريطة العالم الجديدة. فعلينا ان ننفتح شرقا، كما انفتحنا غرباً، قبل ان تدهمنا ريح التغيير فلا نستفيد من موازين القوى الجديدة التي تتحرك في العالم. * رئيس قسم الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة.