رغم بُعد التشبيه بالمعاني جميعاً، يمكن القول إن اليابان طبّقت منذ الحرب الثانية نظرية الناقد العربي الجرجاني: "من سرق واسترقّ، فقد استحق". وهذا يصح في سلسلة تبدأ بالتقنية ولا تنتهي بموسيقى الجاز. ففي هذه المجالات جميعاً سرقت اليابان من الغرب فاسترقّت واستحقت. شيء واحد رفض اليابانيون أن "يسرقوه" من الغرب هو الأساس الذي تنهض عليه التقنية كما ينهض عالم الجاز، إن لم يكن الجاز نفسه. ودائماً لعبت الطبقة السياسية، وهي هنا "الحزب الديموقراطي الليبرالي" الحاكم منذ نصف قرن، دوراً رديئاً في هذا المجال. والدور هذا، الذي مكّنتها منه ظروف الحرب الباردة، مصدره عدم انفصال السياسي عن المعلّم والمربي في اليابان. فالسياسي هو الذي يقول للناس أن يستحموا ويهتموا بالنظافة، كما يقول لهم بأن عليهم تعليم أبنائهم، لكنه هو أيضاً من يقول لهم إن عليهم أن يعملوا بكدّ وأن يصونوا مدّخراتهم فلا يبالغون في الانفاق. وما يقوله الحاكم - المعلم قد يكون أحياناً محكوماً بشيء من الحس السليم، لكنه غالباً محكوم بالرغبة في الدفاع عن الموروث والتقليدي. فاليابان، شأنها شأن بلدان كثيرة خارج نطاق الحضارة الأوروبية - الأميركية، لم تبارح خوفها من وفادة الجديد القادم من الشمال والغرب. واليابانيون، بعد كل حساب، هم الذين لجأوا الى حيلة فريدة من نوعها للحفاظ على مألوفهم بعد الحرب الثانية: صحيحٌ أنهم اضطروا الى الأخذ بدستور ماك آرثر، غير أنهم قبل أن يفعلوا أقاموا "مراكز ترفيه" في طوكيو جمعوا فيها المومسات كي يقمن بامتصاص كل أثر يمكن أن يترتب على وصول الجنود الغربيين الى بلادهم. هكذا يمكن صون "الأمهات والأخوات" اليابانيات مما حل بمثيلاتهن في الصين وجنوب شرق آسيا على أيدي الجنود اليابانيين! مناسبة الكلام هو الأزمة الأخيرة التي تعرضت لها اليابان وتم "حلّها" بالتدخل الأميركي السريع لانقاذ الين. لقد نجمت الأزمة مأخوذةً بإجمالها عن سبب أساسي كامن في الثقافة اليابانية التي كرّسها السياسيون - المعلمون: انكماش الانفاق وسيادة الادخار والتوفير، ومن ثم بناء وتبلور المؤسسات والتقنيات الملحقة بما يلبي الغرضين هذين. لهذا رأينا وزير الخزانة الأميركي روبرت روبين يشترط اقتران التدخل بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد الياباني، وضمناً في الثقافة التي ينهض عليها. لكن رئيس الحكومة رايوتارو هاشيموتو الذي وعد بالتلبية، انما فعل بشيء من الغمغمة، اذ بلاده موشكة على انتخابات في 12 تموز يوليو المقبل، فيما هو وحزبه لا يريدان اغضاب الناس! و"الناس" بدورهم لا يريدون تغييرات كبيرة ونوعية عما اعتادوه وألفوه. فاليابان مريحة هكذا. لقد طوّرت سلسلة موسعة ومكلفة من شبكة الأمان الاجتماعي تقيهم أثر الركود توقف النمو ما دام أنه لم يصل الى كساد تراجع النمو. والعمل في اليابان لم يسؤ وضعه بعد: صحيح أن البطالة بلغت نسبتها 1،4 في المئة الا انها جيدة جداً بالقياسات الدولية، والدليل أن النسبة الأميركية هي 3،4 علماً بأن الاقتصاد الأميركي موضع حسد الأوروبيين. وهناك في اليابان ضمانات اجتماعية تعزز الاستقرار المبني على استبعاد التسريح من العمل. وأخطر من هذا كله شيوع نظرة محلية الى أزمة قابلة لأن تتحول أزمة بالغة الكونية. فأغلبية اليابانيين مقتنعة بأن الحل قادم فلماذا التهويل، وبأن المشكلة تخضع لتضخيم غربي مصدره رغبة واشنطن في اضعاف طوكيو! ولم تعدم هذه النظريات حججها الاقتصادية كالقول ان ضعف قيمة الين تساعد الصادرات اليابانية، مع نسيان تأثيراته على سعر النفط الذي تتوقف من دونه عجلة الاقتصاد الياباني "المستورد" بالكامل. بيد ان هذه المشكلة، البادئة في 1990، قد تفضي الى مضاعفات أبعد لا تحوج أحداً الى التضخيم: فانهيار العملة اليابانية قد يفضي الى تدهور قيمة العملة الصينية حيث يعتمد النمو الاقتصادي للصين على التصدير أساساً، فيما 20 في المئة من صادراتها تذهب الى اليابان. وهذا ما سوف يترتب عليه عدم استقرار مالي يطول عملات العالم جميعاً. فالحمائية لا بد ان تعم وتنتشر في واشنطن، والقيود ستتوالى على العملات الآسيوية الأخرى التي تعرضت أصلاً لخفوضات كبرى في قيمتها. في المقابل فالتلكوء عن الاصلاح، ومن ثم عن اقناع أصحاب الرساميل بعدم تحويل مدخراتهم الى العملات الأجنبية، قد يعيد المشكلة الى الواجهة برغم الانقاذ الأميركي، وقد يضفي عليها حدة أكبر من ذي قبل: فالمطلوب اليوم، بحسب اجماع اقتصادي واسع خارج طوكيو، فتح الأسواق اليابانية المريضة للعالم الخارجي وعليه، واعتماد نظام ضريبي أكثر مرونة، واصلاح النظام المصرفي بدمج المصارف الضعيفة واغلاق المنهارة. وقد يكفي للتأكد من حجم المشكلة هذه التذكير بأن القروض اليابانية السيئة، اي غير القابلة للسداد، حجمها ستة أضعاف حجم الاقتصاد الياباني. ان الأزمة الحالية ليست دورية كما أزمات الماضي، بل بنيوية جداً لا يكفي معها الاكتفاء بانشاء وكالة اشراف مالية، أو الايحاء بأن الاصلاحات الحقيقية لن تبدأ الا بعد الانتخابات. والراهن انه سبق لهاشيموتو ان تعهد بالاصلاح الذي جاء غثّه أكثر بكثير من سمينه. فالسياسيون الصغار والثقافات المحلية لن تسلك في زمن العولمة هذا، والمعلمون كيما يصبحوا معلمين حقيقيين عليهم التوقف عن التلمذة على جماهيرهم في اللحظات العصيبة. أما المومسات فلن يكن مستعدات دائماً للتضحية بأنفسهن من أجل "شرف" الأمة. ولهذا كله يسود الغربَ اليوم ميلٌ باد الى معاملة الطبقة السياسية اليابانية والثقافة التي ترسو عليها بما لا نبالغ حين نصفه بالاحتقار. وقد عبّر عن هذا اقتراح ادوارد لينكولن من معهد بروكنغز، في "فورين أفيرز"، اذ رأى ان تتخذ واشنطن اجراءات لا تقل عن عدم لقاء الرسميين اليابانيين وعدم الاجابة عن اتصالات زعمائهم ومكالماتهم. أما كلينتون نفسه الذي يحزم حقائبه متوجهاً الى بكين فلن يمر في الحليفة التاريخية طوكيو. هذا كله ليس، بطبيعة الحال، تعبيراً عن أي حب حيال الشعب الياباني ومصالحه، بدليل أن زيارة بكين ليست تعبيراً عن أي حب للشعب الصيني. فالمطروح مسؤولية الجميع عن أمن اقتصادي بات يهم الجميع. ومن يتلكأ عن هذه المسؤولية، ويعتصم بعقلية القرية واعتباراتها، يصعب معاملته بغير الاحتقار