عزيزي أشعر بداية اني مدين لك باعتذار او بتوضيح على الاقل. فلا استذكر حقاً اني خاطبتك او كتبت اليك، او جعلتك محوراً لما كتبته من اقاصيص او نصوص. فقد واظبت على استعادة الطفولة ومحاولة ابتعاثها والوقوف امام مرآتها. كما دأبت على مخاطبة الطرف الآخر من الخيط الموت. ولم اقف وقفة اذكرها لمخاطبتك والسلام على الفتى الذي كنته يوما في اريحا "اقدم مدينة في قلبي". وفي مدرسة هشام بن عبدالملك الثانوية التي اسعدني التخرج والخروج منها. واتساءل الآن مع ذات نفسي: لماذا أدمت الاشاحة بابصاري، بانتباهي ومشاعري عما يسميه المتأدبون بپ"ربيع العمر" و"شرخ الشباب" فيما اطلت الوقوف وانعمت النظر في سني العمر الاولى. هل كنت اتفادى مواجهة ما؟ هل كان في الامر ما يبعث الشجى او الحرج؟ ألم يكن ذلك الفتى عنواناً واسماً لي؟ ام انه كان مجرد حالة عمرية وانتقالية وقنطرة وبرزخا بين عمرين، هما الاكثر توطنا في النفس والمزاج: الطفولة والكهولة؟ لا أود الخوض في اجابة فورية، على اني اشحذ الذهن المكدود، لتذكيرك بأن اصدقاء ومعارف السابعة عشرة كانوا في الغالب اكبر منك سناً، من يحيى يخلف الى خليل السواحري الى امين شنار وفايز محمود. وجميعهم لا يقيمون في مدينتك. كان هؤلاء يكبرونك سنا وتجربة و.... لقد كنت انت مشدوداً الى من يكبرونك وتجد نفسك معهم، بل انك قبل ذلك وفي اول المراهقة صادقت ثلاثة معلمين كانوا جيرانا للعائلة في الطبقة الارضية، حيث كنت تشاطرهم لعب الورق، وتتحدث مع احدهم عن كتاب لمحيي الدين محمد يتناول الفكر العربي بجرأة الهبت خيالك وحركت سواكن مداركك. القراءة او الاهتمام، خاصة وانك بدأت تتأخر في تحصيل العلامات المدرسية في الصفوف الثانوية، وكنت قبل ذلك في مقدم المتفوقين. في تلك الايام، في تلك السنة في سنك... سن السابعة عشرة، بدأت تستشعر شفاء عقليا: ان القراءة الحرة التي تقبل عليها بشغف جسدي وتطير معها، تسبب لك المشكلات، فلا أنت واجد الوقت الكافي ولا الكتب ولا النقود. وتفكيرك بدأ يذهب بعيداً في الافتراق عن المدرسة ومناهجها. والفتى الذي كان تبدو عليه مخايل الفطنة والاجتهاد، شرع يتخبط في اخطائه "فالقراءة الحرة حق غير منكور وهي امارة عن نباهة مؤكدة، لكن نتائجها غير مسرة على الطالب الذي اخذ يجنح اكثر فاكثر للانعزال، واهمال دروسه، ولم يعد يأبه كما يتسرب من اشاراته وتعليقاته، لأي تفكير مألوف مما درجنا عليه". وكنت في تلك الاثناء تحتمي ببراءتك الباقية من جهة، وبالوعد الذي تمحضه لنفسك من الجهة الثانية بأنك ارتقيت الى سن الرشد، وانك في السنة التالية سوف تتخلص الى الابد من المدرسة اللعينة، وتعيش ملء حياتك على ما تشتهي وتؤمن. ولكم كنت نزقاً متعجلاً، فقد بدأت بتجربة السجائر منذ ذلك الحين. وكنت تخصص أقل الوقت لأداء واجباتك المدرسية، ولا تجد من سبيل للتفريج عن كربك سوى بالمشي لمسافات طويلة، وهي هواية تستهويني حتى الآن، وقلما ازاولها؟ وعلى الجملة فقد كنت فتى جاداً. لا وقت لديك سوى للقراءة والكتابة المنتظمة في الصحف المقدسية: "الجهاد"، "فلسطين"، "المنار" ولعب الورق، وهو سلوك اراه الآن، شبيها بسلوك الموظفين المتقاعدين. كنت انت بداية "مشروع"، لم يحقق في اي من محطاته، سوى التفرغ الكلي ثم الجزئي للكتابة والقراءة، وتلك الشهوة الوحيدة التي ما زالت تقطر وتقود حياتي. علماً بأن متعة القراءة اكبر واعمق، فيتم التوقف عنها احيانا لغايات الكتابة، وهي مهنة اليمة، تشبه مهنة ثرثار يتفرغ للحديث عن مزايا الصمت. هل عرفت الآن، لماذا لم يأت ذكرك في ما كتبت؟ ومغزى التذكير بأنك وقد بلغت السابعة عشرة، كنت تستحث عمرك للتقدم الى الامام ونهب المسافات، وبهذا فإنك انت من بدأت الهرب من عمرك الذي يجعلك فاقداً الحيلة والسيطرة على حياتك و"تحقيق ذاتك" بلغة تلك الايام. لم اهرب او اتهرب منك. بل حملتك معي في قلبي وضميري، كيما يتاح لك ان تتحرر من قيود العمر وفقدان الاهلية. في ايام اريحا تلك كنت من دون اصدقاء خلص قريبين، ممن يجايلونك. وكان حسبك من زملاء الصف في المدرسة، او رفاق حي "كتف الواد" ان تقضي معهم اوقاتا في لعب الورق وفي الثرثرة الساخرة. لم يكن احد منهم يعرف اسم مجلة "الآداب" او "حوار" او "الأفق الجديد"، وغالبا ما كنت تخفي عنهم هذه المجلات، حتى لا تثور احاديث سمجة ومفرطة في السذاجة، تتجنب الخوض العابث فيها. اذن، أنت من بدأت الهرب الكبير. صحيح ان ذلك النزوع الغلاب الطاغي، كان الديدن والرائد منذ سني الطفولة، حيث كان يتم دفع سنوات العمر دفعا كمدحلة يكتبونها محدلة ايضا للتخلص من الضعف والتبعية. وصحيح ان الهرب كان يدب كالسوسة في العظام وفي الرأس، الا ان ما كان نزوعا غريزيا وصبيانيا اخذ ينحو بعدئذ معك، منحى القصدية الواعية كسجين يخطط للهرب من سجنه، مع انه لم تكن هناك قضبان منظورة ولا قيود محسوسة ولا سقف واطئ ولا نافذة علوية صغيرة ومفردة. وكان الجو العائلي هادئا سلسا ولا يخلو من اشباع الحاجات اليومية العاطفية. فقد كانت هناك منذ وقت مبكر الصحيفة اليومية والراديو والتلفزيون اما الكتب فهي الغائب الاكبر، والتزود بها عسير، وليس هناك ميزانية لها في حساب البيت الذي ينوء بنفقاته، مع العائلة ذات الابناء الثمانية نصف ذكور ونصف اناث. كانت الحياة الحقة التي تستحق ان تعاش هي تلك التي تكثر فيها الكتب، وبعد ان قرأت كتب جرجي زيدان وجبران خليل جبران وعبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي من مكتبة المدرسة، كان يشقيك ان لا يكون بمكنتك اقتناء الكتب التي يكتبون عنها في المجلات الادبية، كنت تنتظر العيد حتى تشتري كتابا مثل "اعطنا حباً" لفدوى طوقان او "صهيل الجواد الابيض" لزكريا تامر او "المتمرد" لألبير كامو. ولم يكن احد يشاركك. أراك تهز رأسك موافقاً، ولكن دون كبير اقتناع، ولك الحق في ذلك. فلم تكن انت فتى بين فتيان، ولا كنت انا في اي يوم شاباً "يؤمن" بهذه المرحلة العمرية او ينتظر منها تحقيق وعود جزيلة وردية. كأنما جبلت قبل سنك ومعه وبعده على المراوحة بين الطفولة والكهولة. كنت غريباً منقطعاً عن الفتيان والشبان وحماقاتهم ومغامراتهم، ولن تدهش اذا عرفت اني بعدما صادقت في سنك من يكبرونك، ها انا الآن في سن الخمسين، يسعدني قضاء ما يتيسر من وقت مع من يصغرونني سناً، وفي الحالين، فإني اجد نفسي وتطيب لي السخرية. ابحث في قطار العمر عن جيران لي في قاطرات مجاورة، واتفلت ممن يجاورونني وأراوغ الزمن وانكره، لكأنها لعبة العمر تتمظهر في مظاهر شتى يختلط فيها الحنين الى المجهول بخلط اوراق العمر. على ان الامانة تقتضي القول، ان العمر لم يكن مجرد اضغاث احلام ولا تصريف وقت. واصدقك اني تخليت عن اثيريتك وبالوصف اليومي عن هوائيتك. عن تلك الحساسية المفرطة وعن ايديولوجية الخجل، وعن احتساب الحياة سيجارة وكتاباً. لقد ارتكبت ما يكفي من اخطاء، في مغالبتي لتلك المثالية الرومانتيكية ذات الايقاع العدمي التي كانت عنوانا وخصيصة لك. ولست هنا في موضع اللوم والتقريع لك. فلقد كانت هناك رياح هوج تنبعث من جوانحك واعماقك، ولا قبل لك بالوقوف ضدها او الصمود امام غوايتها. وكانت تقذف بك بعيدا عن الحياة الحسية الممتتلئة بالحس... عن كرة القدم والسباحة، عن السينما والاغاني والرحلات الجماعية والاقبال على الطعام والتأنق في اللباس الذي يسم تلك السن. اما ما تبقى منك ولك، في ذات نفسي فوافر كثير: الشعور العميق الكياني بالوحدة، الاحساس بأني مثلك ضيف عابر على هذا العالم لا على الحياة فقط. التعفف عن شهوة النجاح والزهد بها، لكن مع احتساب الخسارة والفشل هذه المرة وتفاديهما والخوض في موضوعات لا تشغلني حقيقة. اطالة السهر ثم ذلك المرض الذي لا فكاك ولا شفاء منه وهو الانتظار. هناك دائماً اسباب جديدة لشحن حس الانتظار وتأجيحه. فما ان اصبحت شيئاً فشيئاً ممسوساً بالسياسة والتي سحرتني لاول مرة، حين بدأت تقرأ مقالات سياسية جذابة في ملحق "النهار" الذي وقع بين يدي في اثناء زيارات متقطعة للقدس. والتي داهمتني بعدئذ مع الخروج الكبير الى عمّان 7 حزيران/ يونيو 1967 ومفارقة البيت وكل ما هو منتظم ومألوف، حتى اصبح الانتظار عقيدة جديدة تأسرني وتوجه تفكيري وجهاز اعصابي "اني اتداعى من مرتفعات لكني رازح في مكاني. وفي الاثناء استطيع تزجية الوقت وتزكية الانتظار على هذا النحو تقريباً: اعكف الليل على استدراج وطني الوحيد الى خلوتي. اعانقه وألثمه وأقاسمه الخبزة والماء والنجوى. ولا يخلو الامر من عتاب واستذكار وملاسنة. نتباسط في الشعب المشعث تحت الوية الحماسة واللجاجة وتحت طائلة الرخاوة وعقر التجربة. اغسل وطني من الظلال والغبار والاوشاب. ارسم صورته ومثاله: احذف واضيف الى الصورة قبل تظهيرها ثم اطلقه. في كل صباح تجدون لدي آخر صورة لوطني الحر السعيد. صورة مطابقة لآخر الرغبات والاحوال والاهوال. وطن صحيح انتزعته من الفك المفترس. وعلى رقعته المنهكة وتحت سمائه العالية اصالح جمعا من الانبياء والضحايا والشهداء والسابلة. لا التفت الى وراء: هكذا اصوب مشاعري. فكل وراء ماض، وفي كل ماض قبر وعوسجة. ابصاري مفتوحة على دبيب الغد وغد الغد والغد الذي يليه. ودائما اهتف: ما زال وقت. ما زال وقت يا اخي". هكذا كتبت لاهثاً في عام 1982. لا، لم ابلغ بعد مرحلة استسلم فيها للقناعة بأن مستقبلي بات ورائي. فحتى الوطن الاول وصورته الاولى لم يعودا يثيران خاطري. وقد جربت ذلك مع عودتي اواخر العام 1996 الى اريحا. وبالمناسبة لم اجدك هناك، ولم ابحث عنك، لاني احملك كما قلت قبلا في اهابي واعطافي. احرس براءتك واتدفا بنارك الصغيرة. وابدد اوهامك الجذلى. فلا يكفي ان يطير المرء بقلبه واشواقه اذ ينبغي له قبلا ان يعرف اين مواطئ قدميه، وان يعيش بحواسه جميعا، وان يسعد بالتعرف الى عوالم اخرى لبشر يعبرون دائرة حياته في الحل والترحال. ولقد جاء زمن يا اخي، بت اوصف فيه بأني شديد الواقعية في معاشي وتفكيري، وذلك الحكم لا يخلو من صحة. غير اني على قناعة به، فلم اعد اسير الاوهام والوعود الكبرى في الادب والفكر او نمط الحياة اليومية. بعد ان قذفتني الشعارات في تلك السن ولنحو عشر سنوات في لجة من الاوهام والانقطاع عن بداهات الحياة، دون التضحية بذلك الوعي الشقي الذي يفيد بأن الشقاء هو الاصل والخميرة، وتزداد الحياة كربا اذا ما انبرى لبلوغ ما يسمى السعادة... واجمل التسريات نشدان الصفاء وان يصبح الشقاء ذاته مادة للسخرية وذريعة للتفكهة، كما يستطيب المرء من الطعام والشراب ما هو مرّ ولاذع. الى جانب الملذات الاخرى. هل تيقنت الآن انك ما زلت معي ولي وبي، وانني لم اقس عليك، ولكن الحياة هي ذات السطوة حتى اننا نتخلق فيها دون ان ندري غير مرة؟ كاتب اردني