ازدهرت بيننا في السنوات الاخيرة دراسات وكتابات تؤكد أن الغرب رأس حضارة العصر هو العدوّ الذي يعيقنا عن النهوض بمشروع حضاري خاص بنا. ولم يكن هذا التوجه الفكري لاستطلاع العدوّ أمراً جديداً في حركة الفكر والكتابة عندنا، إذ اننا قضينا سنوات الحربين العالميتين ونحن نلقي على عاتق الاستعمار الغربي، حتى بعد خلاصنا منه، تبعة تخلفنا، وفي هذا الشأن لم تحتكر الزعامات السياسية لنفسها مهّمة ذلك الإلقاء بل اشركت فيها معظم الذين تعمّدت أن تسمح لهم بالتفكير والكتابة. وبعد ان قضينا معظم سنوات ما بين الحربين العالميتين انفقنا كلّ سنوات ما بعد الحرب الثانية. ونحن نسرف في تبرئة انفسنا من تبعة تخلفنا متشجعين على ذلك بالتغذية المتواصلة التي قدمها المعسكر الماركسي حينما سوّغ لنا ممارسة النضال الوهمي ضد الغرب، وأعاننا لكي نجعل منه العدو الاوحد الذي يقف في طريق كل ما نتطلع اليه. لكن مفاجأة سقوط الانظمة الماركسية الاوروبية وزوال الاتحاد السوفياتي في اوائل التسعينات، أدى الى إرباكنا وإرباك بعض من حكامنا الذين فقدوا في الكتلة الشرقية سند مغامراتهم، خصوصا وقد استغنى الغرب عن خطب ودهم بعد ان لم يعد بحاجة الى اسمتالتهم لابعادهم عن فلك كتلة زالت وزال نفوذها من الوجود. هكذا ايقظتنا نهاية الحرب الباردة على فراغ في خانة العدو، إذ لم يعد للاستعمار وجود عندنا كما غاب المحرض لنا على الكفاح ضد الغرب، وكان من الضروري ان تمضي بضع سنوات قبل ان نوفق في بحثنا عن عدوّ نعلق على مشجبه متاعبنا وننصرف الى مناضلته بالكلمات، والى تضييق الخناق عليه بالخطب، ولم يتجاوز رواد بيننا عن فرصة ظهور مقالة صمويل هنتغتون الشهيرة عن صراع الحضارات، فتعسفوا في تأويل ما كتبه الرجل لدرجة ان حمّلوه دعوة للغربيين الى اعتبار الاسلام، بعد زوال الشيوعية، عدوهم الجديد الذي عليهم ان يعدوا العدة لمحاربته. ومع ان الرجل تحدث عن صراع محتمل بين حضارة الغرب وحضارات أخرى من بينها الحضارة الاسلامية، وتصوره على انه صراع احتكاك من دون ان يدعو الى حرب أو عداء، فقد التقط الرواد مقالته وكيفوها على انها إفصاح عن مؤامرة غربية لاصطناع عدو لها يتمثل في المسلمين واسلامهم وبالغوا في الانشغال بالامر لدرجة ان بدونا وكأننا فرحى بأن نصبح العدو المطلوب. لقد بدونا وكأننا نحن الذين في حاجة الى عدو يشحذ همة الكفاح فينا، خصوصا وقد انتهت الحرب الباردة وأقبل بعضنا على سلام مع اسرائيل التي مثلت عندنا طليعة العد والغربي زمناً غير قصير، كما تخلى حتى المعارضون منا للصلح معها، عن فكرة الحرب معلنين ان استراتيجيتهم هي السلام، ولم تطل بنا الحيرة بين الاختيارات، فسرعان ما وجدنا في الغرب من جديد كائنا نستدعيه في خانة العدوّ ونفتح معه معارك شفهية تبرر كتمان صوت الحرية عندنا وتسوغ لنا التخلص من المسؤولية عن مناقصنا. حقا، إن كثيرا من حكومات الغرب تجد لها مكانا في خانة الخصم ازاء بعض مصالحنا، لكن هناك فرقا بين الخصم والعدو فنحن نعرف أن ما يضيع من مصالحنا لفائدة الغرب لا يتم الا نتيجة جهل أو تهاون ذوي المسؤولية عندنا، وأن لا شيء يفرض اليوم علينا بقوة السلاح، وأن ما تفرضه انظمة على شعوبها هو اقسى مما يجرؤ الغرب على فرضه. ونحن نعرف ان ما نسميه بالغزو الثقافي الغربي هو فيض علم أكثره نافع وقليله ضار. وهو فيض لا تفيضه علينا حشود الاساطيل. اما ما نقتنيه من المنجزات المادية لحضارة الغرب فهو خير يعيدنا الحرمان منه الى ما قبل عصر الورق والبارود. إنه لامصلحة لنا في ان نتخذ من الغرب عدواً نكافحه، ونحن ان فعلنا نخطئ خطأ الذي يقدم على حرب لا يملك سلاحا لخوضها، واذا كان في واقعنا ما يقنعنا بأن في الغرب خصوصا تتعارض لنامعهم مصالح، فإن مواجهة الخصوم يجب ان تكون بالتعامل معهم والاحتكاك بهم ومداومة اكتساب المؤهلات التي تجعل منا ندا لهم حتى ولو كانوا هم مصدر تلك المؤهلات. اما تصنيف الغرب عدوا تجب محاربته فهو موقف خيالي يحرمنا الاستفادة من منجزات حضارته ومن اكتساب مؤهلات التساوي معه، فضلا عن انه يلهينا عن الجهد المطلوب لإصلاح عيوبنا. وإن تصنيف الغرب في خانة العدو يمنح بعض الحكام المغامرين ذريعة كتم الحريات تحت ذريعة الاستعداد لخوض معارك الانتصار الوهمية، وهو يوفر لدعوات التخلف والانغلاق وظيفة الحراسة على ابواب المعرفة العصرية، فيمنع عنا أنوار حضارة العصر بدعوى الحفاظ على العقيدة احيانا وبحجة حماية الخصوصية القومية احيانا اخرى. نحن عاجزون في حالنا التي نحن عليها، عن الدخول في أي صراع، وما استعجال الضعيف لصراع مع القوي إلا استعجال للهزيمة، وخير لنا أن نتعامل مع الواقع العالمي بالرغبة في الاستفادة والتقدم، مع الحرص ما أمكن على حماية مصالحنا، من ان نبحث في الغرب عن عدو نحاربه ويحاربنا، وما لم نفعل نكون استسلمنا لما في سريرتنا من حاجة دفينة الى عدو نوهم انفسنا عند الانصراف الى حربه بأننا مناضلون. إن علينا ألا نغفل عن ازدهار دعوات بيننا الى استدامة عداوة لنا مع الغرب بذريعة ان الغرب يعدنا لأن نلعب امامه دور العدو حتى يشحذ بعدائنا همته ويستنفر عروقه. إن في تلك الدعوات من الغضب اكثر مما فيها من الفهم والتحليل. ويكاد المرء يتخيل مطلقيها وهم يفتشون في سوابق التاريخ وفي كل مواضع الاختلاف وبانتقائية ساذجة عن براهين لإثبات صحتها وجدواها، وهم لا يدخرون جهدا في التعسف في تأويل ما يكتب في الغرب عنا، بل ويذهب بعضهم الى حد اصطناع تصريحات للسياسيين. نحن لسنا بحاجة الى عدوّ يشحذ ارادتنا لانجاز التقدم أو للحفاظ على مصالحنا. ولن يمضي بنا افتعال العدوّ إلا إلى معارك وهمية نخوضها بغير مؤهلات، ونحن فيها بالتأكيد من الخاسرين. ولن يسعفنا إلا إقرارنا بأن ضعفنا وتشتتنا عائد في هذا العصر بالذات الى شعوبنا والى انظمتنا السياسية كما هو عائد الى صبغتنا الثقافية الجامدة. إن وضعنا للغرب في خانة العدو سيحرمنا - كما ذكرت - من الاحتكاك به والاستفادة من انجازات حضارته التي هي حضارات العصر والانسان، كما يدفعنا هذا الموقف الى التقاعس عن كسب مؤهلات الانداد. وهو بلا جدال ألهانا ويلهينا عن الالتفات الى مافينا من مناقص وعيوب ويقنعنا بأن ما نعترف به منها عائد الى مؤامرات العدو الغربي وخارج عن نطاق مسؤوليتنا. وسيؤدي بنا افتعال العدو الى الدخول في معارك انفعال لا نحقق من ورائها سوى تشويه صورتنا، معارك من مثل تفجير الطائرات ووضع القنابل في السفارات وإطلاق الرصاص على رؤوس الأبرياء، معارك تزيد من عدد خصومنا ويفقد العالم ثقته في حكمتنا، وإن ظل يزهو بخوضها المغامرون عندنا ويتفاخرون. إنني، وأنا لا ارغب في الظهور بمظهر المحامي المدافع عن الغرب، أود أن الفت الأنظار الى اننا صرنا نبدو وكأننا قوم عطشى الى عدو كبير لم نعثر عليه في غير الغرب، وأن أنبه الى ان الاعتقاد بأن حكومات الغرب الديموقراطية تحتاج الى افتعال عدو فينا حتى يلتف حولها مواطنوها هو اعتقاد خاطئ لا يجد له فرصة في التطبيق إلا في ساحات دكتاتوريات المتخلفين، وهو اعتقاد يوفر للانظمة الحاكمة ذريعة لكتم الأفواه وإهدار حقوق الانسان، ويجعل من مرتكبي حوادث التفجير غير المجدية، ابطال نضال نفرج بأفعالهم عن كربتنا ونخفف بها من شحنات غضب العاجزين التي تغلي بها صدورنا. وأخيرا فإن اعداءنا كامنون فينا بين الضعف المكابر ومواهب الغرور الساذج وتحت كثير من خصال الخوف والتسلط والغفلة والجمود، وفي العالم جوالون يصطادون في مواطن الضعف اينما تكون، ترى ننحى عليهم باللائمة أن ننحى بها على أنفسنا؟. وهل من الأصوب أن نعترف بما في حاضرنا من ثقوب ثم نُقبل على سدّها أم أن شهوة البحث عن عدو نصب عليه جام شتمائنا خير لنا وأبقى؟. * كاتب، رئيس وزراء ليبي سابق.