يوجد نوع من "تعايش الأمر الواقع" مع الوضع الراهن للسياسة الاميركية نحو العراق بما يجعل الكل شريكاً في عملية شراء الوقت الى حين وضوح معالم نتيجة سياسة القصف لاستبدال النظام في بغداد. مجلس الأمن في حال انتظار، ودول المنطقة تراقب ما يحدث بمزيج من التطلع والقلق، أما في الأوساط الاميركية فيحتد النقاش بعدما خرج الكلام عن تفكيك العراق، بموجب سياسة معتمدة، من طابع الهمس والغمز ودخل مرحلة "اللوبي" المنظم بهدف تسويقه سياسة للإدارة الاميركية. فبين المصطلحات العديدة والمتناقضة التي تميز القاموس السياسي المعني بملف العراق يبرز في هذه الآونة مصطلح "الحكم الذاتي" ليس لأكراد العراق فحسب وانما لشيعة العراق، أولاً. واللافت ان بعض المنظمات والمؤسسات الفكرية الموالية لاسرائيل تضغط على الادارة الاميركية لتتبنى ما يسمى "تحالفاً تكتيكياً" بين الولاياتالمتحدة وشيعة العراق، وهي الأوساط ذاتها التي سبق لها وتبنت أكراد العراق قضية لها. في الأممالمتحدة، هناك ابتعاد متعمد من قبل الأمانة العامة ومجلس الأمن عن أية مواجهة للسياسة الاميركية، التي تشارك بريطانيا في تنفيذ جزء منها. روسيا وفرنسا طرحتا مبادرتهما، ثم دخلتا "شريكاً" مع مجلس الأمن في إمهال الولاياتالمتحدة لاختبار سياستها على الأقل حتى منتصف الشهر المقبل، وذلك بذريعة انتظار نتائج تقويم اللجان الثلاث المكلفة النظر في قضايا نزع السلاح، والحال الانسانية، ومصير الأسرى والمفقودين في العراق. فواشنطن أبلغت كل من يعنيه الأمر بأنها تدرك تماماً ان مجلس الأمن لم يقر "الأرضية القانونية" لمنطقتي حظر الطيران في شمال العراق وجنوبه، وان استخدام القوة العسكرية لاستبدال النظام في بغداد ليس هدفاً من أهداف قرارات المجلس. وعلى رغم هذا، أوضحت واشنطن انها ماضية في حرب الاستنزاف والاحتواء الدموي... لأن هذه سياستها. أعضاء مجلس الأمن، بمن فيهم الصينوروسيا وفرنسا، ليسوا في وارد احراج الولاياتالمتحدة باجراءات فاعلة داخل المجلس، بل ان الكل يتجنب التعبير العلني أو الرسمي عن الاستياء من تقارير استخدام الولاياتالمتحدة اللجنة الخاصة المكلفة إزالة اسلحة الدمار الشامل العراقية أونسكوم لغايات استخبارية قوضت أهداف نزع السلاح. بعض أعضاء المجلس يرى ان الوضع الراهن سيستمر الى زمن طويل، لأن الولاياتالمتحدة ليست في وارد التفكير برفع العقوبات ومن دون الالتزام بفكرة رفع العقوبات، لا مجال لعودة المفتشين الدوليين أو برنامج الرقابة البعيدة المدى للأسلحة العراقية، الأمر الذي يتطلب تعاون الحكومة العراقية. وعليه، ليس في وسع مجلس الأمن سوى الاطلاع على ما يحدث من دون الانخراط في الملف العراقي مجدداً، ولفترة طويلة. البعض الآخر يجد فرصة منتصف الشهر المقبل حينما يتقدم رئيس اللجان الثلاثة، سفير البرازيل سلسو اموريم، بتوصيات اللجان الى المجلس التي يفتر ض ان تتضمن هيكلة بديلة لپ"أونسكوم" برئاسة جديدة، ربما تكون لاموريم نفسه قد تشكل حافزاً للعراق، للموافقة على البديل، الذي ربما جاء على نسق مضمون المبادرة الفرنسية، أي حافز رفع العقوبات. منطق المبادرة الفرنسية القائم على حافز رفع العقوبات مقابل عملية رقابة ورصد مستمرة لبرامج التسلح العراقي يصطدم مع منطق السياسة الاميركية الحالية القائم على استنزاف النظام كي يصبح في الامكان استبداله. الأوساط الأميركية المعنية بالسياسة الخارجية منقسمة في آرائها حول المنطقين وضمنهما: هناك من يدعم المبادرة الفرنسية لأن منطق العقوبات بات مفلساً ولأن الأولوية يجب ان تكون لمنع العراق من إحياء برامج أسلحة الدمار الشامل واستمرار الحظر العسكري عليه. وهؤلاء ينتمون الى فريق "الاحتواء الضيق"، لأن الإطاحة بالنظام غير ممكنة. فريق آخر يوافق على ان لا مجال لتحقيق هدف الإطاحة عبر المعارضة العراقية والقصف الجوي، لا سيما وان الولاياتالمتحدة غير مستعدة لتوريط قواتها في العراق. انما تجب - في رأيه - العودة الى سياسة الاحتواء الواسع، أي العزل بلا حوافز مع بقاء العقوبات. هناك فريق ثالث يعتبر السياسة الاميركية للشهرين الماضيين ممتازة لأنها قائمة على الانهاك بما يحقق هدف الهلاك البطيء للقيادة العراقية، فمع استمرار العقوبات الاقتصادية يضيق الاحتواء الدموي الخناق على النظام ويشله. حسناً، يرد فريق آخر، ماذا عن غياب الرقابة لبرامج التسلح؟ سهلاً، يقول البعض، ماذا عن أخطار زج القيادة العراقية في زاوية لا خلاص لها منها سوى باستخدام أسلحة الدمار الشامل؟ ففي رأي هؤلاء ان أخطار السياسة الحالية تفوق حسناتها، لأن الأولوية لديهم هي مسألة الأسلحة المحظورة واستمرار تدجين العراق في الموازين العسكرية الاقليمية. أولوية الفريق الداعي الى اسقاط النظام هي تحقيق هدف الاطاحة بغير الوسائل التي تتبناها الادارة الاميركية، باعتبارها فاشلة من الناحية العملية. وهذا الفريق يعارض الرأي القائل بأن تفكيك العراق اسوأ من بقاء الرئيس صدام حسين في السلطة، وهو يقترح اقامة تحالف تكتيكي بين الولاياتالمتحدة وشيعة العراق بشراكة مع ايران، يؤدي الى زعزعة النظام واسقاطه، والى اقامة منطقة حكم ذاتي للاكثرية الشيعية في العراق مع تعزيز منطقة الحكم الذاتي للاكراد في الشمال. وهذا الفريق يدعو الى تجاهل ردود فعل دول المنطقة وتحفظاتها، تركيا كانت أو دول الخليج العربية، وهو يدعو الادارة الاميركية الى اتخاذ هذا القرار بغض النظر عن آراء تلك الدول، مع العمل على اجتذاب ايران. فإذا كان تفكيك العراق ثمناً لتحقيق هدف الولاياتالمتحدة، فعلى واشنطن ان تكون مستعدة لتسديده. في رأي هذا الفريق الذي يفترض، خطأ، ان شيعة العراق يوافقون على تفكيكه وتقسيمه. الإدارة الاميركية لا توافق على "رفع" تفكيك العراق هدفاً لها، وان كانت أقل حماسة وتمسكاً بمبدأ وحدة أراضي العراق من السابق. فهي بدورها منقسمة في صفوفها، غير واضحة في تكتيكها أو استراتيجيتها، وتفتش عن أفكار خلاقة للتعامل مع الملف العراقي. وبما ان موضوع العراق بات اليوم مسألة محلية اميركياً. فإن صياغة سياسة نحوه تتأثر جذرياً بالاعتبارات الانتخابية، كما ببرامج مؤسسات وتنظيمات و"لوبي" هذا الفريق أو ذاك. مثال ما حدث، ولا يزال، في اطار لجنة "أونسكوم" يعطي فكرة عن معركة الجمهوريين المحافظين مع الديموقراطيين في السلطة. فالمفتش الاميركي المستقيل، سكوت ريتر، هاجم الادارة الاميركية وفضح عمليات التجسس التي قامت بها عبر اللجنة الخاصة وعلى حسابها. وفي اطار الرد والانتقام، سربت أوساط الادارة الاميركية المعلومات عن تورط جمهوري متطرف بعمليات التجسس، نائب الرئيس التنفيذي لپ"أونسكوم"، شارلز دولفر، بهدف حرقه لتلقين المحافظين المتشددين من أمثاله وأمثال ريتر درساً في الانتقام. فحتى "أونسكوم" تحولت الى مسألة داخلية، ما ساهم في تحولها الى المشكلة الرئيسية بين العراق والامم المتحدة. بتدمير لجنة "أونسكوم"، وبالخروج عن قرارات مجلس الأمن في شأن العراق، تركت الإدارة الاميركية بعض الاصدقاء في المنطقة مكشوفين من الغطاء الضروري لتسويق سياساتهم نحو العراق. بعض المسؤولين العرب صارح المسؤولين الاميركيين بأن نسف غطاء الشرعية الدولية يجعله عاجزاً عن تبرير مواقف الدعم للسياسة الاميركية، ودعا الى ضرورة الالتزام بقرارات مجلس الأمن واستعادة وحدة اعضائه والتراجع عن السياسة الانفرادية القائمة على القصف والاطاحة. مسؤولون آخرون بدأوا يتخوفون من افرازات السياسة الاميركية الحالية، لا سيما لجهة تفكك العراق وتداعيات ذلك على دول الخليج العربية، فباشروا بالاستدراك، انما ببطء وبكثير من التردد، ذلك ان وزارة الدفاع الاميركية، التي تضع السياسة نحو العراق وتنفذها، ليست أصيلة في صنع السياسات المدنية. وبالتالي، فإن اسلوبها يقوم على وضع تصور عسكري وتنفيذه. وهي تعتمد اليوم سياسة الاحتواء العسكري وحرب الاستنزاف، وترى ان الشراكة العسكرية مع الأصدقاء والحلفاء تشتري لها ما يكفي من وقت حتى اشعار آخر. ربما يحقق "البنتاغون" أهدافه، وربما تثبت الادارة الاميركية ان العظمة في القوة العسكرية خصوصاً انها تمتلك وسائل الحسم. انما لربما ايضاً تصيب السياسة الاميركية "رصاصة طائشة" تقلبها رأساً على عقب، مثل وقوع طيار اميركي سجين لدى العراق. فليس هناك ما يفيد بأن السياسة الراهنة قائمة على استراتيجية مدروسة، بل الأرجح ان الأمنية الاميركية بإزاحة الرئيس صدام حسين من السلطة تشبه عملية "يا ربي تيجي بعينه"، وبعدها "منشوف". على رغم ذلك، يوجد نوع من تعايش الأمر الواقع مع الوضع الراهن للسياسة الاميركية نحو العراق. فالحرب على نار خفيفة تكاد تختفي عن الاعلام. والرغبة في معالجة جذرية لموضوع العراق مؤجلة الى حين انتهاء الولاياتالمتحدة من اختبار سياستها الجديدة