القاسم المشترك بين العراق واللجنة الخاصة المكلفة إزالة الأسلحة العراقية المحظورة اونسكوم هو الشعور بالإحباط في هذا المنعطف. وكل من الطرفين يبحث عن وسائل لإحباط الإحباط وتسيير الأمور في الاتجاه الذي يريده. العنوان الرئيسي لما تريده اللجنة الخاصة هو اعادة السياسة الاميركية الى ما كانت عليه قبل هذه السنة، أي رفع العصا والسوط في وجه بغداد كلما تحدّت، وحشد القوة العسكرية درعاً لوقاية اونسكوم من التهديدات العراقية، وكذلك احتواء نمط التدقيق والمطالبة بالشفافية الذي اعتمده مجلس الأمن في الفترة الأخيرة نحو اللجنة الخاصة. أما العنوان الرئيسي للسياسة العراقية في هذه المرحلة فإنه ينطلق من افتراض بغداد ان العقوبات الشاملة المفروضة على العراق لن تُرفع قريباً تحت أي ظرف كان، وبالتالي، لا ضرر في تحجيم اونسكوم وكسر جناحها، فيما العقوبات تستمر رسمياً وتتآكل عملياً حتى إشعار آخر. فبغداد ترى ان دفع الأمور الى شفير الهاوية هو في مصلحتها، ولذلك تجد التصعيد مفيداً. وأونسكوم تراهن على الكونغرس الاميركي ليفرض على الإدارة العودة الى السياسة القديمة. وكلاهما في مغامرة. فالرئيس التنفيذي للجنة الخاصة، السفير ريتشارد بتلر استرالي يقع اليوم تحت ثقل الكابوس الذي طالما تجنبه سلفه السفير رالف اكيوس سويدي وتعمّد استبعاده بنمطية وحنكة سياسية. عناصر هذا الكابوس متعددة، وتضم الآتي: أولاً، حرص اكيوس على ان يحيك بنفسه نسيج وحدة اعضاء مجلس الأمن ودعمهم الكامل للجنة الخاصة الى درجة نجاحه في احتواء أي مؤشر على الانقسام واحتواء أي توجه نحو التشكيك في صدقية اونسكوم وفرق التفتيش التابعة لها. كما استثمر اكيوس في ديبلوماسية هادئة ودهاء سياسي فتمكن من وضع اونسكوم فوق الشبهات ومكّنها من الاستقلالية الكاملة على رغم تبعيتها رسمياً الى مجلس الأمن. وعالج أكيوس كل انتقاد بارتداء ثوب التواضع وتجنب الأسئلة الصعبة بالإجابة بلغة انكليزية مفككة على رغم اتقانه اللغة فاكتسب سمعة الخبير في "الديبلوماسية المبهمة". والمهم عنده في العلاقة مع مجلس الأمن كان الإبقاء على وحدة المجلس والحفاظ على دعمه الكامل لأونسكوم في كل الظروف بلا تدقيق أو محاسبة. وهذا بالذات ما خسره ريتشارد بتلر منذ تسلمه منصب الرئيس التنفيذي بعد اكيوس. قد يكون توقيت تسلمه المنصب عاملاًَ واقعياً، ذلك ان اكيوس غادره بعد ست سنوات، لكن للشخصية أيضاً تأثيرها. فمجلس الأمن طالب بتلر بالشفافية وطلب اليه اكثر من مرة ان يخاطبه ليشرح له ما وراء تصرفات وأساليب فرق التفتيش، فوقع بتلر في خانة الدفاع عن النفس، فيما كان العراق وحده في تلك الخانة لسنوات عديدة. بل ان المجلس بدأ الاستماع الى الأطروحات العراقية مقابل أطروحات اللجنة الخاصة، ما وضع اللجنة الخاصة أمام التدقيق والمحاسبة وما جعل مجلس الأمن رقيباً على الهيئة التي أوكل اليها مهمات تجريد العراق من الأسلحة المحظورة. يضاف الى ذلك ان اسلوب بتلر في اتخاذ القرارات والتعبير عنها أدى ليس فقط الى احتجاج مجلس الأمن بل ايضاً الى استدعاء اللجنة الخاصة بعضويتها الأصلية من 21 خبيراً ومسؤولاً من مختلف الجنسيات لتكون شريكاً في الرقابة. الرقيب الآخر جاء في هيئة الأمين العام والأمانة العامة كما في توسيع قنوات الاتصال مع، والاستماع الى، الطرف العراقي لتشمل المبعوث الخاص جايانثا داننبالا وممثل الأمين العام الخاص في بغداد بركاش شاه. وهذا بدوره شكل نكسة لهيبة وصدقية الرئيس التنفيذي للجنة اونسكوم. رالف أكيوس استطاع ان يقنن علاقته بمجلس الأمن وان يضع الأمانة العامة والأمين العام على مسافة عن اللجنة الخاصة. لكن زلقات ريتشارد بتلر العديدة وافتقاده حكمة وزن ما يقوله جعلوه يتحول الى "رصاصة طائشة" احياناً، ما وضع المنظمة الدولية في خطر وأدى، اضطراراً، الى موافقة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن على دور رائد يقوم به الأمين العام. ثانياً، ضمن أولويات رالف اكيوس، حتى في أحلك الأزمات وأشدها، كان الحفاظ على "شعرة معاوية" والتمسك بعدم قطع قناة الاتصال المباشر بينه وبين بغداد. كان حريصاً على تقديم "الجزرة" حتى عندما كانت "العصا" مرفوعة فوق رأس بغداد. لم يكف عن التلميح الى المكافأة أو عن الإغراء الى العراق. والأهم ان أكيوس فهم تماماً ان لا مصلحة للجنة الخاصة في دفع القيادة في بغداد الى شفير الهاوية بما يجعلها تقرر انها لم تعد تملك ما تخسره، فتصل الى قرار وقف التعاون مع فرق التفتيش والتلويح باحتمال وقف برامج الرقابة والرصد البعيدة المدى للأسلحة العراقية. وهذا تماماً ما لم يفهمه ريتشارد بتلر. ثالثاً، قرأ أكيوس بدقة بالغة المعادلات السياسية ليس فقط بين اعضاء مجلس الأمن وانما القرارات والسياسات والأجواء الداخلية للدول الفاعلة مثل الولاياتالمتحدة. وعلى أساس تلك القراءة قرر أكيوس متى "يشد" ومتى "يرخي" مع العراق، واختار توقيت التصعيد أو التساهل لئلا يحرج واشنطن أو لئلا يقف وحده في المقدمة قبل الضمان المسبق لدعمها الكامل في كل حال بمفردها من دون افتراض الغطاء المستمر والدائم في أي حال. ريتشارد بتلر لم يحسن مثل هذه الحسابات، ولم يلم بالقراءة السياسية الدقيقة لواشنطن أو لندن أو باريس أو موسكو أو لعواصم الدول العربية المعنية بالعراق. لم يتمكن من قراءة أجواء الرأي العام العربي أو الاميركي، أو أنه لم يحاول. حاول التأثير في الرأي العام الغربي، خصوصاً الاميركي، وتعالى على الرأي العام العربي، ليس هدف المقارنة بين اكيوس وبتلر، الإيحاء بأن اكيوس كان "أفضل" للعراق من بتلر، أو ان بتلر "أساء" الى العراق اكثر من اكيوس. فمثل هذه الافتراضات ليست سوى أوهام واهية. بل ان ديبلوماسية اكيوس "المبهمة" عمداً قيدت بغداد، في حين ان صراحة ووضوح ديبلوماسية بتلر خدمت بغداد واسفرت عن انجازات مهمة لها. فالتنسيق بين اللجنة الخاصة وبين اسرائيل وتبادل المعلومات بينهما ليس أمراً من صنع ريتشارد بتلر. مثل هذه العلاقة كان سائداً في عهد أكيوس تحت اطار تبادل المعلومات الاستخبارية مع مختلف الدول. كذلك، لم يأت بتلر بالمفتش الاميركي سكوت ريتر الذي استقال أخيراً بعد ست سنوات، ولم يقم بتعيين نائبه الاميركي شارلز دولفر. كذلك ان بتلر ورث عن أكيوس حملاً ثقيلاً، والتوقيت لم يكن في صالحه. استقالة ريتر محرجة في حد ذاتها لبتلر ليس بسبب عنف انتقاداته لمجلس الأمن والأمين العام فحسب وانما ايضاً بسبب اتهامه المسؤولين الاميركيين بالتدخل واستخدام الضغوط على اللجنة الخاصة لمنع عمليات تفتيش كانت مقررة الشهرين الماضيين وبسبب الكشف عن تحقيق المكتب الفيديرالي للتحقيق اف.بي.آي في علاقة مشبوهة بين ريتر وبين استخبارات الموساد الاسرائيلية. اعترف ريتر بأن الپ"اف.بي.آي" بدأ التحقيق معه منذ كانون الثاني يناير 1997، وأكد ايضاً انه على اتصال مع "عدد من الحكومات" في اطار عمل اللجنة الخاصة وان أي "تبادل للمعلومات والوثائق كان بموافقة الرئيس التنفيذي" للجنة اونسكوم. ونفى ريتر الاتهامات بأنه "سرب" معلومات الى اسرائيل قائلاً ان "وظيفتي هي تنفيذ الأوامر التي يصدرها رؤسائي". وبذلك، يورط ريتر ضمناً بتلر - وربما أكيوس قبله - فيما يواجه تحقيقاً ضده تقوم به سلطة استخبارية اميركية اف.بي.آي تشك في انه سرب معلومات الى الموساد على حساب المصلحة الوطنية الاميركية. فهذا الجهاز، كما قال أحد المراقبين للموضوع، معروف بأنه "أكثر وطنية" من الجهاز الاستخباري الاميركي الآخر، أي وكالة الاستخبارات المركزية سي.آي.اي التي تقوم بعمليات خارج الولاياتالمتحدة، وهو الذي كشف علاقة الجاسوس جوناثان بولارد مع اسرائيل. ريتشارد بتلر رفض التعليق على مسألة التحقيق كما حاول تجنب نفي أو تأكيد مزاعم ريتر بأن مسؤولين اميركيين بينهم وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت ومستشار الأمن القومي ساندي برغر ضغطا على اللجنة الخاصة وأبلغا بتلر ان الولاياتالمتحدة لن تدعمه بقوة عسكرية إذا أزّم الوضع مع العراق في هذه المرحلة. مصادر اللجنة الخاصة تؤكد ان ما عبر عنه ريتر عند استقالته يمثل شعوراً سائداً في أوساط اللجنة الخاصة لجهة التذمر من مجلس الأمن كما لجهة الشعور بالإحباط إزاء السياسة الجديدة التي اعتمدتها الإدارة الاميركية. هذه السياسة تلاقي اليوم على يد ريتر، كما على أيدي التنظيمات اليمينية المتطرفة حملة منظمة هدفها تفعيل ضغوط من الكونغرس على الادارة كي تعود الى سياسة السوط والعصا مع العراق. منظمة "هريتيج فاوندايشن" مثلاً دعت في مذكرة بتاريخ 19 آب اغسطس الى قيام الكونغرس بإجراء تحقيق في "تقارير تفيد بأن الإدارة سعت بنشاط وراء منع المفتشين من عمليات تفتيش تطلق أزمة أخرى"، وطالبت "بإجراء" في الكونغرس لاستعادة السياسة الاميركية "صدقيتها". سكوت ريتر الذي استقال في تاريخ 26 آب اغسطس يتحدث عن أهدافه بصراحه ويقول انها تشمل "خلق نقاش" بهدف "عكس السياسة القائمة وإعادتها الى ما كانت عليه". فسياسة الإدارة الاميركية الجديدة تقوم على تجنب المواجهة العسكرية مع العراق ومعاقبته حصراً في اطار إبقاء الحصار عليه واستمرار العقوبات الشاملة. الاستثناء الوحيد هو في حال مغامرة لبغداد خارج العراق أو في حال قيامها فعلاً بتصنيع أسلحة دمار شامل محظورة. ما تريده اللجنة الخاصة وما يحاول ريتر وعدد من المنظمات والأفراد الاميركيين تحقيقه هو ان تعيد الإدارة الاميركية النظر في سياستها الجديدة وتعود الى تفعيل اللجوء الى القوة العسكرية في وجه تحديات العراق لفرق التفتيش التابعة للجنة الخاصة. والعودة ليست مستبعدة كلياً خصوصاً اذا مارس الكونغرس الضغوط على الرئيس بيل كلينتون الضعيف. والعودة الى السياسة الماضية تعتمد أيضاً على مدى تمادي بغداد في التصعيد. المؤشرات تفيد بأن بغداد تنوي المضي في التصعيد بإجراءات على نسق طرد المفتشين والتلويح بورقة رفض الرقابة المستمرة الدائمة لبرامج الأسلحة العراقية. حتى الآن لا يوجد مؤشر على احتمال تراجعها عن قرار تعليق تعاونها مع اللجنة الخاصة في اطار عمليات التفتيش. وحتى الآن تجنبت بغداد استخدام "ورقة" قطع الرقابة الدائمة. فمزاج بغداد مزاج مواجهة مدروسة على أساس السياسة الاميركية الجديدة القائمة على فعالية العقوبات من دون اللجوء الى استخدام القوة العسكرية. ضمن أهداف بغداد تقليص نفوذ وصلاحيات اللجنة الخاصة وتهديدها بنسف برنامج المراقبة الدائمة الفائق الأهمية لها ولجميع اعضاء مجلس الأمن. أما وقد اتضح لها ان العقوبات وحدها أداة القصاص، فإن بغداد تنوي استطلاع وسائل تآكلها عملياً. وهذا يعتمد على العلاقة مع سورية بالذات. فلا إيران ولا تركيا ولا الأردن دول رئيسية في سيناريو تآكل العقوبات عملياً. سورية فقط اليوم هي الأساس والمفتاح. والخطر في كل هذا ان الاحباط يسيّر السياسة وان بغداد قد تفرط بالمغامرة والرهان