أثارت تجربة ادخال احزاب سياسية معارضة في الحكومة المغربية السنة الفائتة اهتمام عدد كبير من المفكرين والاكاديميين والسياسيين، مغربياً وعربياً ودولياً. منهم من دعا الى دعم انفتاح النظام السياسي المغربي على المعارضة التقليدية، ومساندة سيرورة هذا البناء التدرجي لتجربة ديموقراطية عربية، ومنهم من جهر بتشجيعه لهذه الخطوة دون ادراك حقيقي لطبيعة الرهانات السياسية الداخلية والاقليمية والدولية، التي املت على الفاعلين السياسيين المغاربة الاقدام على عملية التوافق قصد خلق اطار سياسي مقبول لممارسة "شراكة سياسية"، ومنهم من تحفظ عن هذه التجربة بسبب التحكم اللامحدود للنظام في الحقل السياسي، وقدرته الواسعة على خلق الاحداث، وتوجيه مسار الحركة السياسية، وأسلوبه الحاذق والتدريجي في استيعاب بؤر الاعتراض، ودمج الاحزاب، والنخب السياسية التي ما زالت تتردد في الاقرار بالدور التاريخي والسياسي للملكية المغربية، لا سيما ان حكومة عبدالرحمن اليوسفي لا تتوفر على اغلبية منسجمة تستجيب للتوجهات الكبرى التي عملت المعارضة السابقة على الدعوة اليها، وانما جاءت نتيجة "صفقة سياسية" لم يتم التفاوض على شروطها بالوجه المطلوب. لم تخرج ردود افعال المثقفين المغاربة عموماً عن هذه المواقف الثلاثة. وإذا كان عبدالله العروي بعد تجربة انتخابية فاشلة في صفوف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1977، قد اختار، منذ ما يقرب من عقدين، موقع "الاستشارة"، غير الممأسسة للنظام، وذلك من منطلق ايمانه بالدور التاريخي والتحديثي للدولة، فان محمد عابد الجابري قام، طيلة الشهور الاخيرة، ومن خلال تدخلات اعلامية متنوعة، بالدفاع الصريح عن تجربة "التناوب"، وبمساندة الاتحاد الاشتراكي، الذي ما زال عضواً فيه، وبدعم الوزير الأول عبدالرحمن اليوسفي بحكم العلاقات الرفاقية القديمة والصداقة المؤكدة بين الرجلين. وعبر الجابري، في كثير من الاحيان، عن ميل واضح نحو التبرير، متخلياً عن دعوته لاقامة "عقل نقدي"، وتأسيس ديموقراطية حديثة، ساكتاً عن الاختلال التفاوضي الذي تمخض عنه تعيين السيد عبدالرحمن اليوسفي، داعياً الى تشجيع هذه التجربة، ومنحها ما يلزم من دعم ومساندة، باعتبارها تمثل منعطفاً في المسيرة السياسية، المتوترة والمتساكنة، للمغرب الحديث. عبدالكبير الخطيبي، من جهته، اراد المساهمة في مواكبة ما يجري في المغرب سياسياً من خلال كتاب، من القطع الصغير، بعنوان "التناوب والاحزاب السياسية" 1999. وهو يعلن في مفتتح كتابه عن نوع من انواع التماهي مع الصورة التي تقدمت بها حكومة التناوب في الصحف غداة تكوينها يوم 13 آذار مارس 1998. يقول "رأيت فيها، من جانبي - صورة جيلي - السياسي والفكري وكفاحه الطويل من اجل مجتمع اكثر عدالة. لقد وجدت فيها شكوكي الذاتية وتطلعاتي وتخوفاتي من المستقبل". يحرص الخطيبي على تنبيه قارئه الى الاهتمام بموقعه الشخصي في تناوله لهذا الحدث السياسي. ويقترح نوعاً من "البروتوكول" في هذا التناول، اذ يتقدم باعتباره "دارساً" لنوعية "التوجه الاشتراكي الديموقراطي" الذي يحمله الائتلاف الحكومي الذي يرأسه الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي. ويدرس هذا الحدث اعتماداً على اسلوب يجمع بين الدراسة والوصف، من منطلق الالتزام الكلي للكاتب باسمه "في هذه الدراسة التي يقترحها على المتمرسين في السياسة، وعلى القراء المجهولين". ومع ذلك تبقى هذه "الدراسة"، حسب الخطيبي، مجرد "فحص اولي لواقع الاشياء": تختزن بعض عناصر "الشهادة" على تجربة التناوب السياسي في المغرب. وذلك بهدف التقاط كما يقول، "ليس" اسرار "هذا التناوب الجاري، وانما قدرته على ان يترسخ ويتطور، متجاوزاً انقسام الاحزاب وصراعاتها الداخلية". التقاط ما تختزنه هذه التجربة من طاقة على الاستمرار من زاوية مهنته كپ"عالم اجتماع"، وكمنشغل "بالسياسة في المدينة". بعد تحديد موقعه داخل ثنايا الكتاب لمقاربة تجربة التناوب، يبدأ الخطيبي بتسجيل ملاحظة بديهية تؤكد على ان تعيين حكومة اليوسفي يشكل "منعطفاً في الحياة السياسية المغربية"، تم في مرحلة "تسود فيها الليبيرالية الشاملة العابرة للأوطان والدول، وهي ظاهرة ترافق - على صعيد المغرب - ادماج الاشتراكية في الايديولوجية الليبيرالية، وادماج الاسلامية المشروعانية في الديموقراطية البرلمانية". واضح، اذن، ان الخطيبي يستعمل مصطلحات ، من قبيل الليبيرالية، الاشتراكية، الايديولوجية، الديموقراطية البرلمانية، وكأنها مكتسب "كوني" في تناول أمور السياسة. غير انه يدخل مباشرة نوعاً من التخصيص بالاشارة الى الأسس التي يجمع عليها الفرقاء السياسيون في المغرب، والمتمثلة في الاسلام، باعتباره ديناً للدولة والمجتمع، ومرجعاً لجماعة يجب ان يسود فيها التسامح والتلاحم، ثم "الوطنية التي تدعم سيادة المغرب ووحدته الترابية"، و"الملكية الدستورية باعتبارها سلطة الدولة بجميع مكوناتها"، وأخيراً "الليبيرالية الاجتماعية التي تروم التوازن بين الدولة والمجتمع المدني والمجموعات الأساسية". كان لا بد، اذن، من ادخال هذه التحديدات لادراك المرجعيات التي تؤطر الحياة السياسية المغربية، قصد فهم ما يجري في المشهد العام. غير ان لهذه الحكومة برنامجاً وأهدافاً تتمثل في "تخليق الحياة السياسية، والانصات للرأي العام والشروع في معالجة مشاكل الاقتصاد والمجتمع والتربية بجدية". تشكل هذه الاهداف المعلنة، في نظر الخطيبي، علامات عن التغيير "الذي يتعين تقييمه في ما بعد" اذ "يجب ان نترك الزمان للزمان". يريد الخطيبي "دراسة" هذه التجربة السياسية، لكنه يدعو الى ارجاء عملية التقويم لمرحلة لاحقة، طالما ان الحياة السياسية المغربية تتميز بتعقيد استثنائي، وان اصدار احكام قيمة قد تخطئ مراميها. فضلاً عن ان الهدف الأساسي يكمن في "اعادة الثقة بين الدولة والمجتمع المدني والشعب، وهو هدف مشترك بين جميع الشركاء أياً كانت مصالحهم الجماعية وايديولوجيتهم". هكذا يلاحظ "عالم الاجتماع" ان مسألة "الثقة بين الدولة والمجتمع المدني والشعب" عامل حوله اجماع سياسي وثقافي، بل ونفسي حتى، يصعب التشكيك في صلابة قاعدته. وهو اجماع تلعب فيه الدولة المالكة لاستراتيجية تشتغل على المدى البعيد، قدرة لامتناهية على التأثير في "سير الاحزاب والنقابات والحركات الجمعوية، وعلى المنظمات الحكومية". لكن ما يشغل باحثنا، حسب ما يظهر من ثنايا فقرات كتابه، يتجلى في ظاهرة تقسيم الاحزاب والانشقاقات التي تعرضت لها، وانعدام وضوح هويتها لدى الناس، وحتى عند النخب، وتنافرها المصطنع. الأمر الذي يؤدي الى العزوف عن السياسة، واضعاف الممارسة الديموقراطية. في حين ان مبدأ التناوب يفترض "تحديد هوية الحليف والخصم الحقيقيين... لابرام تحالفات، انطلاقاً من تحليل وموقف مضبوطين". وفي غياب هذا الوضوح تغدو التعددية بدون مضمون، مما يفسح المجال للاتجاهات "الشعبوية المغامرة". ويكمن الحل في اعادة النظر في مفهوم "الحزب"، وتجميع الاحزاب حتى تتمكن من استرجاع قدرتها على التعبئة والتنظيم. لذلك فاللجوء الى اختيار ادماج نخب جديدة داخل هياكل الدولة فرضه "التطور غير المتناسب بين الدولة والمجتمع المدني والشعب المترقب". ويتعين، من هذه الزاوية، على حكومة التناوب تجذير الوعي السياسي، والمساهمة "في نموذج استراتيجية الدولة" التي تتميز بكونها "دولة اصلاحية، تسلك سبيل الاصلاح السياسي والاجتماعي". لهذا السبب تشكلت الحكومة الحالية من "تحالف حول برنامج يمدد العمل الاصلاحي الذي شرعت فيه الدولة". معنى هذا ان الدولة المغربية، التي تشكلت بعد الاستقلال، كانت دائماً تملك مشروعاً اصلاحيا، وتمثل حكومة اليوسفي حلقة في سلسلة هذه الاستراتيجية الاصلاحية ذات النزوع الليبيرالي. وعلى هذه الحكومة الوفاء بميثاقها الذي اعلنته للشعب، وخلق التوازن بين الدولة والمجتمع المدني، وتجديد النخب القادرة على احترام مطلبين اثنين: "استمرار موروثنا الاجتماعي وتكييفه مع العالم المتحول، وعلى الخصوص مع عالم السوق الوطنية والدولية". يستعرض الخطيبي، بعد هذه التحديدات، مكونات بعض الاحزاب السياسية. تلك التي تنتمي للكتلة حزب الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التقدم والاشتراكية، ومنظمة العمل الديموقراطي الشعبي او القريبة منها، والتي تكونت بعد الانشقاق عنها، الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي انشق عن منظمة العمل سنة 1996 وجبهة القوى الديموقراطية انشق عن التقدم والاشتراكية سنة 1997، كما تناول بسرعة، بعض احزاب الوسط التجمع الوطني للاحرار، الحركة الديموقراطية الاجتماعية والحركة الشعبية الوطنية، ثم ما يسمى بأحزاب الوفاق الاتحاد الدستوري، الحركة الشعبية، والحزب الوطني الديموقراطي، فضلاً عن حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية الذي تحالفت قيادته مع بعض الاسلاميين المعتدلين، حيث تمكنوا من دخول البرلمان حصلوا على تسعة مقاعد. ثم تعرض للأحزاب المعارضة خارج البرلمان، اليسارية والاسلامية. ما كان يهم الخطيبي، من خلال عملية استعراض التشكيلة الحزبية المغربية، هو التعبير عن تحفظه المبدئي من تناسل الاحزاب، ومسلسل الانشقاقات التي تحصل فيها، والتأكيد على الدور الحاسم للدولة المركزية في تقرير الاختيارات السياسية الأساسية، وابراز التحول الذي حصل على الاشتراكيين المغاربة. وهو تحول ادى الى "التصالح بين الاشتراكية والليبيرالية"، بهدف خلق "ديموقراطية اجتماعية حليفة للملكية". الاقرار بابعاد هذه التحولات ينطلق من مسلمة راسخة لدى الخطيبي مفادها انه "لن نفهم شيئاً في النظام السياسي المغربي ما لم نفترض ان الملكية بناء مستمر لدولة مستقبلية... تعمل على ابتكار شروط استمرارها". وذلك من خلال اصلاحات وتعديلات سياسية "للوصول الى اجماع وطني بين الدولة والاحزاب السياسية والفاعلين الأساسيين في المجتمع المدني". وما يثير الانتباه، في حديث الخطيبي عن المجتمع المدني، هو الالتباس الذي يسكن نظرته له. فالاحزاب السياسية، عنده، "جزء لا يتجزأ من المجتمع المدني"، وهي "مدعوة، من قبل الدولة، للتعاون معها، تارة كوسطاء وتارة كمجرد منفذين". وفي موقع آخر يطالب بوجوب "تعريف المجتمع المدني في علاقته مع خصوصية الدولة". اعتبار الاحزاب السياسية جزء من المجتمع المدني يطرح اكثر من سؤال على نظرة "عالم اجتماع" يفترض فيه معرفة طبيعة التشابك الحاصل بين اجهزة الدولة المخزنية الدولة المغربية القديمة ومختلف التشكيلات الحزبية، بما فيها تلك التي تجد نفسها تعترض على بعض السياسات. فكيف اذن يجوز تحديد الاحزاب ضمن نسيج المجتمع المدني وليست عناصر مكونة لأجهزة الدولة، سيما وانه يقر بأن الحديث عن "المجتمع المدني في المغرب لم يبدأ الا منذ عقد من الزمان"؟ ومن منطلق رفضه للتقسيم الذي تتعرض له الاحزاب المغربية، يدعو الخطيبي الى نوع من التكتل، اما باتخاذ صيغة "تجمع عن طريق التقارب، ويحتفظ كل حزب باستقلاله، ويمكنه انه يفض التحالف متى شاء، واما عن طريق اندماج حزبين او ثلاثة في نفس الجمعية، واما، اخيراً، القيام بتجمع اتحادي، وهو "منزلة وسطى بين التقارب والاندماج". ولأن المغرب بهذه التجربة يعيش فترة فاصلة، وربما "منعطفاً تاريخيا" فان "الفكر السياسي مدعو للابتكار والا سيندثر". هذه هي الافكار التي حرص عبدالكبير الخطيبي على تسجيلها في هذه الدراسة التي ارادها ان تكون نصاً "تحليلياً وجدلياً"، يقترح فرضية عمل وبعض العناصر المنهجية، كما يتبنى مواقف ازاء التحولات السياسية التي يشهدها الحقل السياسي المغربي جراء تعيين حكومة ائتلافية من اليسار المؤسسي والوسط. واعتباراً لما استعرضناه نود تسجيل الملاحظات التالية: اولاً: ان الخطيبي كان تقدم الى المشهد الثقافي المغربي والعربي كداعية لفكر الاختلاف وللنقد المزدوج: نقد التراث، ونقد الغرب. منبهاً، دوماً، الى ان خلخلة اسس الهوية، وتفكيك قواعد الوحدة عمل يفترض ارادة معرفة جسورة، واجتهاداً نقدياً نشطاً. لذلك كان يعتبر ان "الاختلاف ليس في متناول اول متمرد"، لأنه يقيم فكراً مضاداً للسائد، ومختلفاً عن كل الانساق. ولأن الخطيبي تعرض، في السنوات القليلة الماضية، الى مؤثرات مؤسسية عدة، يلاحظ المرء بسهولة في هذا الكتاب، كيف خرج عن مرجعياته الفكرية التي عرف بها في السبعينات والثمانينات، وانخرط في حركية الدمج المؤسسي والثقافي التي تحرص الدولة المغربية على انجازه، لينتقل، وبشكل صريح، الى معانقة مبادئ الوحدة ومرجعيات الهوية التي طالما دعا الى خلق المسافة النقدية معها والتبرم منها؟ ثانياً: مهد الخطيبي لكتابه بنوع من البروتوكول - المفتعل - في الكتابة، قصد تسجيل تميز في تناول "التناوب والاحزاب السياسية" في المغرب. والمهتم بالدراسات السياسية والانتروبولوجية التي انجزت حول المغرب، يندهش للخصاص المثير الذي تعاني منه محاولة الخطيبي في هذا الموضوع. لقد سبق له ان جعل من "المغرب موضوعاً للتفكير" في السبعينات وكان تأمل في منتهى الحيوية والابتكار، لكن تفكيره في الشأن السياسي المغربي الراهن اثبت محدودية مثيرة في النظر، اذ كيف يمكن تشغيل آليات الفكر في حقل سياسي يعاند الفكر كسؤال؟ والى اي حد يمكن لپ"المثقف النقدي" ممارسة اجتهاد فكري ضمن مجال سياسي يقر الخطيبي انه خاضع، بشكل مطلق، لدولة مركزية "ذات استراتيجية اصلاحية ومستقبلية"، بل ويتعدى اقراره هذا الى مطالبة احزاب "الكتلة الديموقراطية" المساهمة في تعزيز هذه الاستراتيجية وتكريس نموذجها في العلاقة مع "المجتمع المدني"؟ ثالثاً: بمقدار ما يعترض الخطيبي على اسلوب التقسيم داخل الاحزاب، ويدعو الى الاتحاد والتكتل، والى تجذير الاجماع حول الدولة المركزية، يسيطر على كتابه نوع من النزعة الدعوية التبسيطية، بل ونزعة ابوية، مزعجة احياناً. فهو لا يكف، طيلة فقرات كتابه، من استعمال الصيغ الوعظية من قبيل: يجب، يتعين، "المطلوب من الحكومة"، "الحكومة مدعوة"، من "المؤكد انه يجب"... الخ. وهو ما يؤشر، حسب ما يظهر، على انسداد فكري، او بالاحرى على شيخوخة فكرية تدعو الى الاطمئنان الى سلامة المرحلة، والى تبليغ صكوك الاعتراف الى من يهمه الأمر. لا جدال ان المرء يمكن ان يغير اختياراته السياسية بل وآفاقه الفكرية. وما يجري في المغرب من تجريب سياسي قابل لأكثر من تأويل. لكن ما يثير الانتباه لدى بعض المثقفين هو قدرتهم الهائلة على التخلي عن الفكر النقدي، الذي طالما دعوا اليه، وعقد مصالحات، بطريقة تبسيطية، مع الوقائع. والمراهنة على السياسة السائدة خوفاً من مفاجآت القوى المكبوتة. * كاتب مغربي