ناضلت الحركة الوطنية المغربية لردح طويل من الزمن من أجل كسب مطلب التداول على السلطة الذي بات يُعرف في القاموس السياسي المغربي باسم "التناوب"، لوضع حد لحقبة من استفراد اليمين بالحكم منذ 1960: تاريخ إعفاء حكومة الاستاذ عبدالله إبراهيم من مهامها. ومع أن فرصاً اتيحت للمعارضة لتأليف حكومة - منسجمة أو ائتلافية - من خلال عروض ملكية في مطلع السبعينات ابان تجربة "الكتلة الوطنية" بين "حزب الاستقلال" و"الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، وبعد الانتخابات التشريعية لعام 1993، إلا أن أسباباً عديدة تضافرت كي لا ترى تجربة "التناوب" نور الوجود. واليوم، إذ تتشكل حكومة الاستاذ عبدالرحمن اليوسفي، ويجري تعيينها رسمياً، يشيع اعتقاد واسع بأن المغرب دشّن حقبة سياسية جديدة عنوانها تجريب مبدأ "التناوب" بين القوى والكتل المختلفة، وضخ دينامية جديدة في الحقل السياسي وفي الحياة السياسية والوطنية على نحو عام قد توّلد تحولات عميقة في نسيجه، وقد تفتح أمام تطوره السياسي آفاقاً أرحب على صعيد التنمية الديموقراطية. القارئ في "سِفر تكوين" هذا "التناوب" - اليوم - يلحظ أن السياق الذي نشأ في امتداده - وعلى النحو الذي فيه نشأ - يفرض النظر إليه بوصفه يؤدي وظيفتين سياسيتين يعتقد أنهما باتتا ضروريتين من أجل تأمين مصادر جديدة للاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد، ومن أجل تنمية مصادر مصداقية المغرب في الحقل الدولي. فكائنة ما كانت الامكانيات الفعلية المتاحة أمام تجربة "تناوب" حديثة، محفوفة بالمخاطر ومطوقة بأحكام الشراكة السياسية الهشة التي يقوم عليها الائتلاف الحكومي الحالي، فإن اطلاق تجربته اليوم قد يلقي بتداعياته، على نحو ايجابي، على وضع نفسي طبعه الاحباط واليأس، وارتفعت درجة حرارته، أحياناً، إلى حد الاحتقان. وعلى ذلك قد يخلق تغيير الطاقم الحاكم في البلاد منذ ثلاثة عقود ونصف العقد شعوراً عاماً بحصول تغيير سياسي وهو ما سوف تشيع معه الآمال في المستقبل، وتستعاد معه الثقة في الحياة السياسية، بل وفي النظام السياسي المغربي نفسه، وفي التجربة التي باتت توصف منذ منتصف السبعينات بالتجربة الديموقراطية. ما يعزز هذا الاحتمال ان المعارضة، ممثلة في أحزاب "الكتلة الديموقراطية" الحاكمة اليوم، لم تتلوث بالسلطة منذ مطلع الستينات، ولا تعتبر، في نظر الرأي العام، مسؤولة عن السياسات التي قادت البلاد إلى الافلاس والمديونية، وإلى أزمة اجتماعية طاحنة مفتوحة على أسوأ الاحتمالات، وبالتالي فهي تستطيع، من وجهة نظر منطقية، ان تقدم بدائل عن السياسات الحكومية السابقة، وتوفّر تصورات جديدة للحلول المطلوبة لملفات البطالة، والركود الاقتصادي، وانهيار القدرة الشرائية، وأزمة التعليم، والسكن، وسواها. وإذا ما أضيف الى ذلك ما تتمتع به قوى المعارضة قوى السلطة اليوم من جماهيرية ومن تأييد شعبي نسبي، وما يتمتع به الوزير الأول الجديد من مصداقية واحترام، اجتمعت الأسباب للاعتقاد بأن قيام الحكومة الحالية سوف يشيع حالة من تنفيس التعبئة والاحتقان العام، ومن تنامي مشاعر الارتياح والمشاركة الايجابية في الشؤون العامة. ومهما قيل في محدودية الامكانيات المتوافرة لحكومة الائتلاف، والمشاكل المستفحلة التي تتحدى - وتتخطى - قدراتها الذاتية على الاستيعاب، فإن احداً لا يقوى على تجاهل القيمة العالية لهذا الدور النفسي في المرحلة الراهنة، حيث السيكولوجيا الجماعية واحدة من اخطر وأفعل العوامل في تقرير صورة الحياة السياسية. لقد تحسّنت صورة النظام السياسي المغربي خارجياً الى حد كبير في السنوات الاخيرة، بعد النجاح الذي احرزه في ملفّين سياسيين ظلاّ يشدان بخناقه منذ فترة طويلة: ملف حقوق الانسان، وملف "الاصلاح" الاقتصادي والمالي. اتخذت السلطة قرارات ذات اهمية فائقة في موضوع حقوق الانسان والحريات العامة منذ مطلع هذا العقد: الافراج عن المعتقلين السياسيين وتمكين المنفيين من العودة الى الوطن، تفكيك مؤسسات الاعتقال غير القانونية، انشاء "المجلس الاستشاري لحقوق الانسان" وتمكين المنظمات الحقوقية غير الحكومية من التمثيل فيه، تكوين وزارة خاصة بحقوق الانسان، النص دستورياً على مرجعية مدونات حقوق الانسان "المتعارَف عليها دوليا"، ادخال تعديلات جوهرية على "مدونة الاحوال الشخصية" تحيط حقوق المرأة بضمانات قانونية أوفر... الخ. وعلى النحو نفسه، انجزت حكومات عقد الثمانينات ونصف عقد التسعينات "برنامج التقويم الهيكلي" P.A.S وتوصيات صندوق النقد الدولي حول الخوصصة الخصخصة والتوازنات المالية، لتستحق على ذلك اشارات تنويهية منه، وثقة كانت تحتاجها حتى تحظى بالحق في الاقتراض وفي ثقة المستثمرين الاجانب... غير ان ذلك كله لم يكن كافياً: كانت ثمة حاجة دولية الى ان تفرز الحياة السياسية المغربية شيئاً اكثر من الانتخابات، والبرلمان، والتعددية الحزبية، وحرية الصحافة: المشاركة السياسية التي تتحقق في صورة تداول طبيعي على السلطة. وليس من شك في ان النظام السياسي فهِم هذه الرسالة جيداً، وردّ عليها بشكل ايجابي من خلال التناغم مع مطلب "التناوب". ولم يكن ذلك تنازلاً منه لضغوط خارجية بمقدار ما كان تكيّفاً ناجحاً مع "استحقاقات" حقبة دولية جديدة بات فيها الاقراض، مثلاً، وقفاً على تأمين ضمانات سياسية مؤكدة من قبيل قيام جهاز حكومي قويّ، متمتع بالسند النقابي والاجتماعي والشعبي، وقادر على اتخاذ قرارات كبرى لا تعرّض المصالح الاجنبية الى اخطار او مفاجآت، ولا تعرّض الاستقرار الاجتماعي الى احتمالات التصدع او الاهتزاز. وعلى ذلك، فإن استلام المعارضة، ذات الثقل السياسي والتمثيل الشعبي الوازنين، المسؤولية الحكومية يمثل مدخلاً مناسباً نحو تحقيق مثل ذلك الهدف، خصوصاً حينما نأخذ في الاعتبار حقيقتين سياسيتين: أن المغرب على موعد مع تجربة "الشراكة" الاقتصادية مع أوروبا، وان هذه الاخيرة تشهد زحفاً "اشتراكياً" كاسحاً. وفي الحالين، فإن المعارضة المغربية تصبح مفتاحاً لا غنى عنه لفتح آفاق جديدة أمام البلاد على صعيد علاقاتها الخارجية. ربّ قائل ان مثل هذه الحاجات، الى دور نفسي والى تسويق لصورة البلاد في الخارج، كان موجوداً دائماً، او على الأقل في السنوات العشر الاخيرة، فما الذي تغيّر حتى يصبح "التناوب" على رأس جدول اعمال السياسة الرسمية في المغرب؟ تجيب عن ذلك المتغيرات السياسية الهائلة التي عرفها المشهد السياسي المغربي، وبخاصة العلاقات بين النظام وبين المعارضة الديموقراطية، منذ خريف 1996: بمناسبة التصويت على الدستور المعدّل، وهي التي فرضت ان لا يكون "التناوب" ممكناً فحسب، بل مطلوباً ومقبولاً. فبعد تصويت الاحزاب الرئيسية للمعارضة على التعديلات الدستورية الجوهرية - المعروضة على الاستفتاء الشعبي في الثالث عشر من ايلول سبتمبر 1996 - ارتفعت الاسباب كافة التي كانت تستطيع في السابق ان تضع حالة من الحذر تجاه اختيار مبدأ "التناوب" في الحياة السياسية الوطنية. فالتعديلات اياها انجلت عن حقيقتين سياسيتين غير مسبوقتين في جدتهما السياسية والدستورية: اولاهما انه يحدث للمرة الأولى ان تُصوّت المعارضة لصالح الدستور بعد أربعة عقود طعنت فيها في شرعيته باستمرار، وانتقلت من اعتباره دستوراً ممنوحاً، داعية الى مقاطعة التصويت عليه ومطالبة بپ"مجلس تأسيسي" لوضعه، الى التصويت بالرفض، فإلى عدم المشاركة في التصويت عليه. وثانيهما انه يحدث للمرة الأولى - في النظام السياسي الدستوري للمغرب - ان أصبح البرلمان مؤلفاً من غرفتين: مجلس النواب، ومجلس المستشارين، لتصبح - معه - حكومة "التناوب" مطوّقة اكثر من قبل المؤسسة النيابية، وقابلة للسقوط كلما تطلّع برنامجها الى تجاوز الخطوط السياسية الحمراء: لقد عُدّت مبادرة تصويت المعارضة على الدستور نهاية لمرحلة من الشك امسكت بخناق الحقل السياسي في المغرب، وانشأت فائضاً من العوائق امام دينامية التقدم فيه: التي ظلت تقف دوماً عند نقطة الشرعية! لقد قرأهَا الجميع بوصفها بيعةً سياسية حديثة، لا مندوحة من تقديمها حتى يتسع هامش المشاركة السياسية، فينتقل من ضفة التعددية السياسية والنظام التمثيلي النيابي المستقرين الى حد كبير الى ضفة التداول على ادارة السلطة. وعلى النحو نفسه، عُدَّ اقرار نظام الغرفتين البركاني تدبيراً سياسياً - دستورياً هادفاً الى احاطة مصالح "المجتمع المحافظ" مجتمع اليمين السياسي ورجال الاعمال والمستثمرين... بضمانات كاملة على حفظ ورعاية مصالحه في ظل احتمال قيام تناوب سياسي يأتي بقوى "اليسار" الى السلطة. وإذا ما أُخِذَ في الاعتبار ان انتخابات تشكيل الغرفة الثانية مجلس المستشارين صمِّمَت لكي تحوز قوى اليمين على غالبية ثلثي مقاعدها، وان اختصاصاتها التشريعية تضارع دستورياً اختصاصات الغرفة الاولى مجلس النواب، بما في ذلك حجب الثقة عن الحكومة بأغلبية ثلثي الاعضاء، يصبح مفهوماً تماماً لماذا لم يعد ثمة ما يمنع النظام السياسي المغربي من ان يأخذ بقاعدة "التناوب" على الحكم، ومن ان يسمح بقيام حكومة ائتلاف يشكلها "اليسار" الاشتراكي مع حلفائه في "الكتلة الديموقراطية" ومع قوى "الوسط" "التجمع الوطني للأحرار"، و"الحركة الوطنية الشعبية". ولكن، ثمة ما يدعو الى التحلي بشديد الحذر حين الحديث عن هذا "التناوب"، وعن فرص نجاحه في ظل التجربة الحكومية الحالية. ودواعي هذا الحذر - من الزاوية الدستورية والسياسية - ثلاثة على الاقل: الفجوة بين حكومة التناوب وبين مقاعد القوى الديموقراطية في البرلمان بغرفتيه، والفجوة بين حكومة التناوب وبين خطاب المعارضة الديموقراطية قبل استلامها الجهاز الحكومي، ثم الفجوة داخل الحكومة بين فريقيها "اليسار" و"الوسط": فليس تفصيلاً ان يقال ان المعارضة - ممثّلة في احزاب "الكتلة الديموقراطية" - لم تحصل سوى عمّا يقل قليلاً عن ثلث مقاعد البرلمان بغرفتيه، بل لذلك علاقة بمشروعية حيازتها حتى تشكيل جهاز حكومي، وبنوع "التناوب" السياسي الجاري اليوم. ان عدم حصولها على اغلبية برلمانية مريحة - على الأقل في مجلس النواب - يجعل هذا "التناوب" بلا خلفية تشريعية ترفده وتحميه وتسبغ عليه الشرعية، وبالتالي، فهو يرفع عنه الكثير من اسباب المصداقية! وللدقة نقول، ان هذا النوع من "التناوب" هو أعلى قليلاً من الحياة الحكومية السابقة، وأقل كثيراً من تداولٍ ديموقراطي فعلي على السلطة على نحو ما طالبت وبشَّرت به، المعارضة الديموقراطية منذ سنوات! فكيف أمْكَنَ لهذا "التناوب" - الذي لم تفرزه صناديق الاقتراع - ان يخرج الى الوجود؟ ان الحقيقة الوحيدة المتعيّنة في هذا الباب هي ان شرعية ذلك "التناوب" مستمدة من وجود ارادة سياسية رسمية في ان يحصل. وعلى ذلك، فان العمل الحكومي - الجاري في ظل هذه التجربة من "التناوب" لن يكون في مقدوره ان يتحول بعيداً عن مرجعية تلك الارادة، بل ليس له ان يعتمد حتى على اغلبيته البرلمانية الهشة: المصنوعة من تحالف اضطراري بين "الكتلة" و"الوسط"! وعليه سيكون على هذا "التناوب" ان يعيش - باستمرار - ذيول ومفاعيل الفجوة السياسية الرهيبة التي يعيش عليها: نعني الفجوة بين أحزاب "اليسار" في الحكومة ووجودها فيها هو علة تسميتها حكومة "تناوُب"، وبين مقاعدها في البرلمان التي لم تتخطَّ عتبة الثلث! ربّ قائل ان الاستاذ اليوسفي ضَيف أغلبية برلمانية لحكومته من خلال اشراك حزبي "الوسط" في الائتلاف الحكومي الذي يقوده، وبالتالي فإن حجة غياب الخلفية التشريعية لپ"التناوب" مردودة. ويقودنا هذا الى القول بأن التحالف الذي نُسِج بين "الكتلة" و"الوسط" ليس تدبيراً سياسياً طبيعياً، بل هو فعلٌ ذو كلفة باهظة سياسياً بالنسبة الى "اليسار" "الحاكم"، وذلك على صعيدين: على صعيد صورته لدى الجمهور، ثم على صعيد هوامش حرية الحركة لديه. فقد احتاج الأستاذ اليوسفي، واستطراداً حزبه وكتلته الديموقراطية، الى نسج حلف سياسي مع ثلاث مجموعات من القوى السياسية الممثلة في البرلمان خارج اطار "الكتلة الديموقراطية" حيث يتسنَّى لحكومته الحصول على أغلبية برلمانية، هي قوى المعارضة غير الممثَّلة في "الكتلة" "الحزب الاشتراكي الديموقراطي" الناشئ حديثاً عن عملية انفصال عن "منظمة العمل الديموقراطي الشعبي" و"جبهة القوى الديموقراطية" المنشقة عن "حزب التقدم والاشتراكية" حديثاً، ثم قوى من التيار الاصلاحي المؤتلفة في اطار "الحركة الدستورية"، وأخيراً قوى "الوسط" ممثلة في حزبي "التجمع الوطني للأحرار" و"الحركة الوطنية الشعبية". واذا ما ترك المرء جانباً الحلف مع قوى المعارضة، والحلف مع التيار الاصلاحي باعتباره فعلاً سياسياً طبيعياً ومفهوماً، فإنه يَحَارُ في تفسير دواعي التحالف مع القوى السياسية التي تُسمَّى تأدُّباً بقوى "الوسط"! فالأمر في هذه يتعلق بتحالف مع أحزاب ظلت الحركة الوطنية تطعن في شرعيتها وتعتبرها أحزاباً ادارية مصنوعة، لا تمثيل شعبياً لها، ولا وظيفة لها سوى تمييع الحياة السياسية، بل هي ظلت تعتبرها مسؤولة عن السياسات التي قادت البلاد الى الافلاس الاقتصادي، والانهيار الاجتماعي، وظلت، في امتداد ذلك، تعبئ جمهورها ومجموع الرأي العام الوطني ضدها. فكيف يكون في وسع السيد عبدالرحمن اليوسفي، وحزبه، وكتلته، تبرير الانتقال من وصف هذه الأحزاب بأنها أحزاب ادارية، الى وصفها بأنها يمينية، الى وصفها بأنها أحزاب "وسط"، الى التحالف معها؟! من يستطيع ان يبتلع كل هذا التراجع بهذه الوتيرة القياسية، ثم ما السر فيه: هل هو تصحيح لاتهامات ظالمة لهذه الأحزاب تنتمي الى سلوك سياسي غير أخلاقي يعتمد الشتم والتغليط، أم هو تنازل مبدئي عن ثوابت جوهرية "مقدسة" في العمل الوطني: النظافة السياسية والالتزام بالخط الوطني الديموقراطي الأصيل؟! ان الحقيقة التي لا تقبل أي نوع من المكابرة في الجهر بها، هنا، هي ان حكومة "التناوب" الحالية تعلن عن فجوة سياسية رهيبة بين خطاب قوى "التناوب" - ذات الجذر اليساري - وبينها - هي نفسها - قبل تسلّم الجهاز الحكومي. واذا كانت المعارضة "الحاكمة" اليوم قد وجدت من يحتج على تلك الفجوة من داخلها مناقشات الدورة الأخيرة للاتحاد الاشتراكي مثلاً، فكيف لا تتحول الفجوة اياها الى مناسبة للشك في هوية الأخلاق السياسية لأحزابنا، والى النيل من صورة، وهيبة، وسمعة، من يشكلون حكومة اليوم على جثة تراث الأمس: الوطني والديموقراطي؟! فپ"التناوب" الحالي لا ينطوي على ثمن أخلاقي فادح فحسب التحالف مع قوى لا وجود لها خارج الرعاية والصيانة الاداريتين، بل هو ينطوي، أيضاً، على ثمن سياسي فادح: التنازل عن الحد الأدنى الاصلاحي لارضاء القوى الشريكة في الائتلاف الحكومي! ذلك ان قوى "اليسار" الحكومية مدفوعة، اليوم، كي تحافظ على كينونتها الحكومية، الى مراعاة أمرين أساسيين: انها تمثل أقلية نيابية لا تستطيع ان تكون درعاً دفاعياً، تشريعياً، لوجودها، وأنها مؤتلفة مع شريك سياسي لا يشاطرها الأغلب الأعم من اختياراتها البرنامجية، وان كان هو من يمنحها حق الكينونة الحكومية! وغني عن البيان ان "اليسار الحكومي" مدعو الى ان يجد صيغة للبقاء على قيد الحياة في السلطة من خلال تقديم تنازلات سياسية لشركائه قد تذهب به الى حد الصيرورة أداة وظيفية لتطبيق سياسات قوى وكتل أخرى للحفاظ على "حكومته"! وفي الظن ان في ذلك ما سيأكل من صورته غداً أمام جهور عبأه منذ أربعين عاماً! لقد عاش المغاربة طويلاً على أمل ان يشهدوا تداولاً حقيقياً على السلطة في بلادهم. وحين جاءتهم تجربة "التناوب"، من خلال هذه الحكومة الفسيفسائية المؤلفة من سبعة أحزاب، والمدعومة من تسعة أحزاب، لم تقدم لهم سوى مناسبة جديدة لصوغ أسئلة جديدة حول التناوب الحقيقي وشروطه!