لعل ما يبتعد بقصيدة الشاعر الفلسطيني محمد حمزة غنايم عن سواها، وهي التي نبتت ونمت في العمق من أرضها الأولى، أنها ظلّت على وفاء لبحثها عن صوت خاص وبعيد عن صوت الستينات الشاسع هناك: محمود درويش وسميح القاسم والراحل توفيق زياد، وهذا البحث عن الصوت لم يكن إلا شروع الشاعر بتحسس الندوب على جسده فيتذكر ويعاين أشلاء تجربته المعيشة. وفي ديوانه "الغرائبي" الصادر أخيراً عن وزارة الثقافة الفلسطينية في قرابة 120 صفحة من القطع المتوسط فإنه لو حدث واستبدل أحدنا "الكلمات" في المقطع التالي من قصيدة لن بكلمة أخرى هي "الكتابة" فلربما أمكن الإمساك بواحد من تآويل القول الشعري لدى محمد غنايم التي وردت في الغلاف الأخير أيضاً: "هذه الكتابة/ لا تجيد التزحلق/ على السطح الإعلامي الأصفر/ وتصرّ على تسمية المصير/ بالصبر/ والشوارع المنفعلة بالرصاص/ والغنائم الحريرية بسقط المتاع/ والعرائس/ بالمروج الذهبية... فقط لن تقول للبهائم إنها ملوك قط"... وليس القصد من ذلك الاشارة الى "موقف ثوري" بل ملاحظة ما في القصيدة من العادي - لا اليومي - الذي يمتزج فيه الحَنَق من الواقع بالسخرية منه، وكذلك محاولة التقاط "الغرائبي" في القول، لعل هناك ما يفيد في رصد وجهة مزاج الشاعر في لحظة كتابته القصيدة والسلوك الذي تتبعه القصيدة بين يدي القارىء. فيما لا يغيب عن البال أن المرء في قراءته ديواناً شعرياً يختار مقاطع بعينها من قصائد أو قصائد من دون سواها، مشيراً اليها كي تخدم معنى مضمراً في نفسه ما يجعل كل الذي قيل وما سيليه غير أكيد في أية حال، فالشعر والقصيدة لا يسترخيان أو يطمئنان بعيداً عن معنى وقصد يسبقان القراءة التي تساهم في تطويرهما أو تحويرهما أحياناً. في قصيدته الأولى فاتحة: فضيحة البيض الفاسد في دفء رُقاد طال واستطال ترتبط مهمة الشاعر، من حيث هي فعل مكابرة، بمزاجه: "ينهض الشاعر من الفجر/ يهيىء لنهار الفجيعة وابتداء الكلام/ أي حرف يفتتح به اليوم/ ولا يحمل بين ثناياه مذاق العجز والهزيمة؟"، ما يعني أن المكابرة لدى الشاعر تخلو من الزمني ولا تحرض على استجلاء غامض أو محوه وترتد منزلقة في أغوار "الأنا" والأسئلة. واللافت في غير قصيدة في ديوان "الغرائبي" أن الشاعر حين يسمّي فكأنما لا يتحدث الى شيء أو أحد بل يقول الشيء والأحد لو صحّ التعبير" يقول نحيبنا الجوّاني من فرط فقدنا لما لن يعود، بحيث لا مجال لمعاتبة "المباشَرة" وربما لسبب بسيط هو أن القول لا يفضي الى معنى بعينه بل ينجح في اشاعة إحساس عميق بالأشياء فيتحسس المرء أعضاءه: "ستصلك هذه الرسالة/ قبل أن أتمكن من الوصول إليك/ وما دامت سيرة حياتنا شديدة الانبهار/ بالعذاب/ والألوان القاتمة/ فلماذا نحاول ترتيب موعدٍ للرحيل؟". ولعل من هذين الخيبة والصمت الواسع تكثر مفردات كالرثاء والحيرة والبكاء واليأس في الوقت نفسه الذي لم تخل قصيدة غنايم مما يذكّر بالشاعر مظفّر النواب في قصيدتي فانتازيا النفط ومجرد حلم. وما يقوله غنايم يقترب في بنيته من "الحكي" أكثر من قربه الى تقصّد بناء السرد لا لأنه أدخل العامية اليومية الملامسة لوجدان الفصحى الى بناء قصيدته التخييلي والتركيبي فحسب، بل لأن البساطة أحياناً كانت ملحوظة بشدة مع أن التخييل معقّد وفنّيته عالية: "الخيول التي عمرها ما خذلتنا/ بكتْ/ عندما لقيتنا/ - عائدين،/ فوق جسر من الحلم" وكذلك: "آن أوان الجدّ:/ موج أم نفط؟ وحشيشة قلبك ذابت!/ - تنتظر لكي يطويك النسيانُ"، ما جعل الشعر قريباً. ويظل الشاعر محمد حمزة غنايم يتأرجح في امتداد قصيدته بين ما هو ذاتي وخاص محموم بالعام، إلا أن التجربة الشخصية تبقى المحور الأساس للقصيدة مثلما هي المعين الذي لا ينضب" تجربة اختزنت الرؤية ووظفتها لمعاينة الأشياء خلف ظاهرها، فيما المعنى من ذلك مفتوح على تآويل عدة وربما كان ذلك لأن الشاعر قد أتقن التذكر كأن صنعته في الحياة مقصورة على الألم فحسب: "في الثالثة صباحاً/ حين أقام الشاعر مملكة الكلمات/ كلمات... كلمات/ تطفىء جمرة حريته المشتعلة فوق لسانه.../ في أفق الفوضى/ ارتسمت أطراف الذاكرة الصعبة".