* نسيج النصوص لمّا كان الشعر أبياتًا وبيوتًا، فقد برع أصحاب الأقاويل الشعريّة لا في بنائها ونظمها ورصفها وتعبيد العبارة وقدّ الاستعارة، بل جوّدوا إلى ذلك فن التسييج وعلم رفع الجدران السميكة العازلة التي تضمن للنص الشعري أن يعيش بمنأى عن لظى النقد وسهام الرصدة المردة الذين يتغوّلون القول ويتراشقون شهب التلبيس ويذوون نار القصيدة. نعني بصناعة الأسوار تلك العتبات النصية، التي ما برح شعراء الحداثة يحتفون بها بل جاؤوا بحيل لطيفة تكيد للقارئ المتربص كيدًا. فقد كفوا عن صناعة الشعر محضًا، بل مازجوا بين ذلك واصطناع النثر بفنونه سردًا وسيرة ونقدًا وشهادة. حتى أن الناقد يقف في معترك التآويل: هل يُقبل على المتن وحده شارحًا ومفسرًا أم يُعنى بالسند مهتمًا به وناظرًا إناه؟ وهل الانكباب على أحدهما دون الآخر يدخل الضيْم على قسيمه؟ وقد يلج بالناقد السؤال، هل يعي القارئ وقبله منشئ النص غاية خفية تكمن وراء اعتماد هذا الإجراء وإنشاء هذا الدرب؟ أليس النص إذا يُنشر يصبح دولة بين الناس لا يحق للمؤلف أن يحتكر التأويل ولا أن يستبد بتوجيه القارئ نحو تفسير ما إلا ما حفز عليه النص وأشار به على متذوقه حدس القراءة وآلة النقد؟ ونعني بصناعة الأسوار تلك الحيلة التي قد يعمد إليها الشاعر، فيتلقف رد فعل أحد النقاد المبرزين على بعض شعره، فيحتفي بإيراده في الديوان يزين الكتاب ويقوي الاستدلال النثري على شعرية الشعر. فكأن الناقد المثبت رأيه على الغلاف وفي الصفحة السابعة من ديوان الطفل لمحجوب العياري الصادر على نفقة المؤلف في طبعته الأولى سنة2004 وهو الأستاذ حمادي صمود أستاذ البلاغة والأدب بالجامعة التونسية وذو الإشعاع العربي والعالمي؛ إذ أسهم في تحرير بعض مواد الموسوعة الكونية الفرنسية (La prose arabe) [Encyclopaedia Universalis] وفي المجلات المختصّة الفرنسية [poétique ]، وغير ذلك من المؤلفّات باللسان العربيّ، لعلّ من أهمّها أطروحته «التفكير البلاغي عند العرب» و“نظرية الأدب عند العرب” و“تجليات الخطاب البلاغي”.. فضلًا عن إشرافه على عشرات الأطروحات والرسائل في نطاق شهادة الدكتوراه وغيرها، إضافة إلى مشاركات غزيرة في الندوات المختصّة في تونس وفي العالم. وإنّ هذا الناقد لم يكتب ما كتب إلاّ وهو يعلم حق اليقين أنّ قيمة آرائه عند طلبته ومريديه ومن يعترفون له بالنباهة في تحليل النصوص الأدبية، تتنزل منزلة المسلمات وتقع موقع البداهات، وهذا ما رام أن يصادر عليه محجوب العياري فقد طلب أن يسلم الناس بداية بشعرية خطابه ثم ليتناقشوا داخل سور الشعر في مختلف ضروب التأويل ومسالك التعبير. لقد حاز العياري على تزكية من الأستاذ صمود بالشعرية لا نظن أنها مجانية أو أنها ضرب من المحاباة، وقد عاشر أستاذ البلاغة نصوص رواد الحداثة الشعرية وحلل نماذج من قصائد أقطاب الشعر الحديث نحو: محمود درويش وأدونيس. من هنا يكون محجوب قد حجب عن ناقديه حق الارتياب في أنّ ما يأتيه من قول شعر أو غير شعر. ومن هنا يكون قد ورّط الناقد الذي سيقول في نصّه قولا لأنه مطالب بأن يكون في مستوى قول الأستاذ صمود وهذا الأمر عزيز، وإن كان تقديم الشهادة على هذا النحو ضربًا من سلوك مسلك الترويج للبضاعة وضمان نَفَاقها بين الناس، فإنّ من الاستتباعات ما قد يخرج عن المقصد النفعي، ليطول تشكيل التقبّل على مقاس مدى السلطة الأدبية للناقد الأوّل، وهو عند كثير من الباحثين المعلم الأول. ولعلّ الناقد المنصف لا يشرع في قراءة الديوان إلاّ وقد تملّى قول الأستاذ صمود فيه، بل لعلّه يعمد إلى تحليل هذا القول الانطباعي وما يمثله من مداخل ذوقية تتحكّم في الاستمتاع بالنص الشعري. ونصّ صمود -على قصره- يحتوي على تأويلات عديدة لعل أظهرها: إبراز الإعجاب والرغبة في تشجيع الشاعر على مزيد الإبداع والأخذ بيديه، عسى ألا يلقى ما لقيه الشابي -في عصره- من نفور أغلب معاصريه، على الرغم مما بيّنه المشرق والزمن من طاقاته الإبداعية، ولعلّ الممعن في نصّ صمود لا يجد عسرًا في الحكم عليه أنه مقدود على سمت النثر الجاحظيّ في أبهى حلله وأمتع آياته، وألا نقول بمحاكاة الأستاذ إمام البيان العربي -وإن كان ذلك مفخرة لا مذمّة- ولكن أسلوب الكتابة يعكس مراجع التعبير ومقاييس الأدبية. فالروح الشعرية الخالصة تنتشر رائحتها فتخترق سجف المكان وحجب الزمان. وتقع على أجساد القصائد الباذخة الفاتنة. ولعل محجوب العياري إذ يورد مقالة الأستاذ صمود في نصّ «الطفل» قصيدة يروم توسيع الحكم على النحو الذي يفعله المجاز المرسل في العلاقة الكلية، إذ يذكر انطباق الكلام على قصيدة ويعمّم الدلالة لتشمل الديوان بأسره، بل لعلّ شهادة صمود على نص “الطفل” خوّلت لصاحبه أن يسمّي به الديوان كلّه. ولا غرابة أن يولد النص الشعريّ مهووسًا بآراء جهابذة النقد فيه، فالعصر وقد رانت عليه النزعة السلعية والرؤية التسويقية، بل يدعو المبدع ليلتمس لنفسه ولنصه مسالك القبول ومدارج التلقي، وقد تشتت انتباه الناس إلى النصوص الأجاود وقل من ينتشل نصه من أتون النسيان ورفوف الغبار والسوس والأرَضة. * عتبات النص: 1- الإهداء: أكثر العياري من توخّي العتبات النصّية وكأنّ هاجس «التعتيب» ليكون القارئ في موضع المعاتَب (بفتح التاء) المدين قبل أن يبحر مع النصوص يعبّ منها ما لذ واستطاب، غير أن اللافت من العتبات النصّية ما جاء محشوًا بالفراغ أو يكاد، فالإهداء حصل لنقطة استفهام واحدة ولنقطتي تعجب، ولولا أن المرء يختار سلامة الطويّة للجّ في تفسيرات رمزية تذكر بالتفسيرات الباطنية قديما للنصوص المقدسة، حتى أنه بالإمكان تعليل وضع النقطة في الباء من أسفل ووضع نقطتين للتاء من أعلى! وإن كنا لا ننفي إمكانية أن يكون الأمر معلّلا؛ فإنّ القول بالاصطلاح أحقُّ أن يُتبع، لأنه -يقينًا- مغبة الوقوع في التمحّل والتكلف والتقويل. أمّا التنقيط فلعله إذ جعل إهداء إنما يقصد من ورائه العدول عن التماس سبيل سابلة في ذكر أسماء أشخاص يمتُّون للشاعر بصلة قرابة أو صداقة.. فكأنّ القيم التي تتوسل لإنشاء الإهداء قد غابت أو اعتراها الوهن؛ فرأى الشاعر أن يتساءل عنها لا في متن النصّ بل في موضع الإهداء منه، فينقلب الإهداء من إخبار عن ذاتية ومشاعر حميمة ورصد مواقف نضالية إلى استفهام وتعجب وعجب عجاب يلف الشاعر قوله فيه كي يبصر الناس بعينيه ما رآه من انعدام من يستحق الإهداء بل لعل العياري -وهو المولع بإهداء نصوصه إلى كثير من الناس- قد رام أن ينقد نفسه نقدا ذاتيا يعالج فيه إشكالية الإهداء ومقاصده. وقد ثار الشابي قبله على الشعر «يهدي لرب السرير» أما وقد قضى المدح نحبه فلا مناص من أن يجوّد الشاعر لسانه ويحكم بيانه حتى لا يخرج عن الشعرية الرؤياوية أي حرف يند عنه حتى إن اتقى بالتستر خلف لافتة الإهداء. 2 - الشهادة الثانية: لعلي لا أجافي الصواب إن زعمت أن محجوب العياري نزاري الهوى متأثر بمدرسة نزار التأثر الدرويشي الخلاق. وها هنا قد أفتح على نفسي أبوابا لا يمكن لي إيصادها، لولا ما أعلمه عن الشاعر من إجادة الوعي بخصائص الإبداع وكونه لا يقوم على فراغ وأنّ التناصّ حتميّ والتأثر «واجب»، ومكمن النزارية إتقان النثر بروح شعرية تتلخص في رسم الذات النرجسية بشيء من الاحتفاء القائم على المبالغة والتركيز على دور المرأة ملهمةً، والحديث عن المرأة مختزلة في شيء من أشيائها (كالقرط الطويل عند نزار) أو متعلق من متعلقاتها (كالضفيرتين عند محجوب العياري). نص نثري تطمئن إليه النفس لجماليته البسيطة التي تروعك بفرط سذاجتها الماكرة. ولعلّ الهاجس السير ذاتي [biographique] قد ألمّ بالشاعر فراح يعرّف بنفسه تعريفا مشوبا بالحميمية والوداعة، كيف لا وقد ركز فيه العياري على الطفولة ومعلوم أن تراث العرب الشعري يزخر بالأبيات والشواهد التي تفيض حنينا إلى تلك الحقبة الخالدة من عمر الإنسان ولعلّ الشابي (مجدّدا!) قد عبّر عنها بشكل غزير. * تسريد الشعر: يمكن للناقد أن يجد في قصيدة «الطفل» (ص.19-27) أنموذجًا جيدًا لتسريد الشعر، وهي ظاهرة قديمة جديدة تمس التعالق بين أجناس الكتابة. كيف ينجح الشاعر في أن يولّد النثر من الشعر ويشتق الشعر من النثر دون أن يمس ذوق القارئ بسوء؛ ذلك القارئ الذي يتحفز لتحكيم القوالب الجاهزة القائلة بنصاعة الفرق بين «الصناعتين» في الذي يراه بعينه؟ لعل استخراج عناصر الخبر من «الطفل» أمر لا يستعصي على القارئ الفطن. إذ ينقل الراوي قول «الباعة في الميناء» إنهم رأوا طفلا في الفجر، وينقل الراوي إثر ذلك خبرا عن عجوز رأى “الطفل” مساء. وينقل الراوي أيضًا عن فتى أنه سيرصد هذا الطفل، وبعد ذلك ينقل الراوي كلام كبير البحارين ينفي إمكانية أن يدرك ذاك الطفل فتى منكم يخاطب الفتيان. ويروي كبير البحارين مغامرته المأساوية مع الطفل، إذ فقد في سبيل الوصول إليه ولده وأخاه وبعض أصحابه، وتواصل البحث سنين إلى أن رأى الطفل «جليلًا يسبح فوق الغيم» وبعد ذلك «دنا» و“كان قريبا» ثم «توارى خلف الغيم.. توارى غربا». فالقصة تنشئ أسطورة/ خرافة البحث عن الطفل تنتهي بعد الاقتراب منه بعودته إلى التواري والابتعاد. ولعل رمزية هذه القصة تفتح النص على تأويل نفسي يتمثل في كشف الرغبة في كسر الزمن، على الرغم من التظاهر بالانسياق إلى خطيته المجحفة والائتمار بأمره المسطر سلفا. وقد تراوح لذلك استعمال فعل الكوْن بين النقصان والتمام (بالمعنى النحوي): كان الدمع يبلل دمعي كان المهر كان الطفل كان الغيم فالنقصان في الجملة الأولى (نهمل هنا تحليل الصورة الشعرية الرائعة التي تذكرنا بتكسر النصال على النصال في بيت المتنبي الشهير) يصف حالا أمّا تمام فعل كان (في الأمثلة الثواني) فيدلّ على الخلق والتكوين والايجاد. فكأنّ الطفل انتقل من حيز المطلوب الموجود بالقوّة إلى مرتبة المتحقق الموجود بالفعل. ومن ثم لا تنغلق القصيدة إلا وقد تسربلت بقداسة الإنشاء وانغمست في بوتقة الخلق، إذ لم تصف العالم بل غيرته لا على نحو حلمي أو قائم على محاكاة الطبيعة، بل وفق نسق ذاتي يؤسس عالم الشعر بعد تشظية عالم الطبيعة والبشر. ولعل تصريف فعل الكون مع ضمائر مختلفة في آخر النص تعبير عن بناء كون جديد: وكنت وكانت كنت وكنا... كنا...(ص27) فضلًا عن طريقة توزيعها المائلة التي يمكن أن تعبر عن الخروج من كون وولوج كون جديد بإحداث انحراف وقطيعة مع الوجود السابق. * تدوير الاستعارة: لا يسع الناقد إلا أن يستشهد بصاحب دلائل الإعجاز، إذ بيْن أن الاستعارة وحدها لا تفسر جمال القول بل النَظم الذي جاءت عليه هو رأس البلاغة ومكمن الإبداع فقد أتى العياري مجازا في البيت (أو قل السطر) الأول: كلفا بالأزرق يأتي (ص19). إذ عبر عن البحر بأحد متعلقاته وهو اللون فقد نابت الصفة عن الموصوف، غير أن محل الجمال لا يقف عند ذلك الحد بل يتعداه إلى نظم الجملة، بحيث أخّر النواة وقدم التوسعة، فجاءت الحال مركبا شبيها بالإسناد رأسه صفة مشبهة تنوب عن الفعل سابقة لنواة الجملة الفعلية وهي الفعل والفاعل (يأتي). وقد أفاد هذا التقديم والتأخير الإبراز والعناية بهيئة الإتيان لا بحدث الإتيان في حد ذاته. بما يحوّل الجملة من التعبير التقريري عن الحدث إلى الوصف الانفعالي لهيئة الآتي وعلاقته الحميمة بالبحر الذي حضر ضمنيا من خلال ذكر أحد متعلقاته ويسمى ذلك مجاز الحذف إذ حذف الموصوف وأخبرت عن ذلك الصفة (الأزرق). وما قيل عن السطر الأول يصدق على الثاني غير أن الصورة فيه قد اشتملت فضل تدقيق: ملتحفا بحنين مشتعلا لغناء الصيادين ...خفيفا يأتي: لا زوادة، لا مشكاة، عصاه إذا انتابته هواجسه الأولى أغنية كان يرددها الأجداد سكارى فوق الماء... (ص19). فقد جاءت الحال في السطر الثاني من القصيدة حالين معطوفتين دون حرف عطف لتمام الاتصال، فأما الحال الثانية فمفردة (خفيفا)، وأما الأولى فشأنها شأن حال السطر الأول مركب شبيه بالإسناد وإن كان أثرى إذ احتوى مفعولين ثانيهما مفعول به (أو مفعول لأجله). فالمقطع ينهض تركيبيا على البنية النظمية ذاتها [حال متقدمة+نواة متأخرة ] لذلك عمد الشاعر -كيلا يسقط النص في الرتابة- إلى إضفاء مسحة من العدول على الصورة بأن جعل الحنين جسما يشتعل وجعل غناء الصيادين سببا لذلك الاشتعال. فالاستعارة لا تكتمل حتى تهجم عليها أخرى. فقد بيّن الشاعر أن الحنين يلازم المتحدث عنه ملازمة الإزار للمؤتزر واللحاف للملتحف. كما أبرز شدة تأثير غناء الصيادين في المتحدث عنه بكونه سببا في اشتعال حنينه واتقاده فالغناء بمثابة اللهب أو هو قادح بل وقود للهب والمقصود بالاشتعال في هذا السياق يفهم أنه بمعنى شدة التأثير -كما مر بنا أعلاه- أو قد يظن أنه بمعنى الطرب والحماسة التي تزكي المشاعر وتهيج العواطف. فالقول يمر استعاريا بين مجازات حاضرة مستحدثة وأخرى مطوية غائبة. وتتشكل الصورة الاستعارية في حركة لولبية تتخذ لها محورا واحدا ينتظمها كأنه العمود العماد عندما تتولد ومنه تنتشر طرائق قدرا. والصور بعضها آخذ برقاب بعض تستوي في انتظام متناسق تمرّ على شاشة النصّ تترى في جمالية سمفونية رائقة: عصاه إذا انتابته هواجسه الأولى أغنية كان يرددها الأجداد سكارى فوق الماء... وفوق الماء أقام الطفل حدائق رصع بالأقمار رؤوس الخل فحط يمام فوق يديه، (ص19). ما ينبغي تسطير -في تقديري- إسهام المركب الإضافي الذي رأسه ظرف مضاف (فوق الماء) في حسن التخلص من الصورة إلى أخرى في ضرب من التداعي الحر، فيكون تشكيل الصور عبارة عن حشد متنوع ينطلق فيه اللاحق ممسكا بآصرة من السابق لا ينفك عنها ولا تنفك عنه. ضرب من التسلسل والتتابع رشيق يحف النص بهالة من الانسجام والوصل بحيث يسعنا تمثيل ذلك وفق الشكل التالي: (يلاحظ أن الشكل مرفق في الشير). قد لا يتعدّى الأمر -عند الناظر المتعجل- محض عصا يستند إليها القائل تعوض رنة التفعيلة وميزان القافية ولكن عمق الإيحاء البنيوي للتشكيل التخييلي يغرينا بقيام المركب المكرر (فوق الماء) على ضرب من الاشتراك. فحضوره في الصورة الأولى قائم على إنتاج الحقيقة، أما في الصورة الثانية فيقوم على صناعة المجاز .فالماء في الاستعمال الأول يحيل على البحر مدلولا محسوسا. أما الماء في الاستعمال الثاني فيدل على المادة الأولية للخلق بديل الفعل (أقام)، ونعلم ما تتلبس به هذه اللفظة من إيحاءات دينية فكأن الطفل يصبح رمزًا يبدع آيات الحسن. (رصع بالأقمار رؤوس النخل) وهي صورة يخيل للقارئ أنها مألوفة لفرط طرافتها وما هي بمألوفة وإنما هي مبتكرة شأنها شأن الجملة المبدوءة بفاء النتيجة ولا نتيجة. (فحط يمام فوق يديه) فالشاعر يوهم بإحداث علاقة منطقية بين سبب [ترصيع رؤوس النخل بالأقمار] ونتيجة العنكبوت. إنه نسق التداعي تتوالد الصور طوعا وكرها. رومنطيقية تتسرب في أعطاف النص تذكر القارئ بنصوص جبران. تواثبت الغزلان وغنت في الأسحار عرائس من ياقوت (ص19). أليس صعيد المعري الياقوتي في جنة الغفران قد تشكل في خيال غير نقدي، بل هو خيال رومنطيقي تتلاشى النصوص لأن الألفاظ تتمتع بأرصدة في الاستعمال الأدبي سالفة تتقافز إلى ذهن المتلقي قبل أن يستوعب خصائص السياق الجديد الذي وضعت فيه. إنها حرب السياقات لما تضع أوزارها فيضل القارئ في تيه التردد بين ضروب التأويل هل في الأمر تجديد بكر أم تحديث معتّق؟ إن الجمع بين الواقعي (تواثبت الغزلان) والخيالي (غنت في الأسحار عرائس من ياقوت) بواو الاستئناف إنما يعبر عن سياسة للألفاظ قوامها البعثرة المنظمة والتشظية المرتبة، بحيث تتجاوز الأضداد فيتأسس اللامعنى من رحم المعنى وتُسلمكَ الدلالة إلى محور الدلالة. تحتاج إلى أن تتخلى عن أنساق البلاغة القديمة لتقف متأملا سلاما مع النحو وحربا على البلاغة في نسخة عربية «عيّارية» تجتاح سلم التأويل الحرفي لتستنبط تأويلا ضمني الدلالة خفي الإشارة بعيد مرمى العبارة على ضيقها وقد اتسعت الرؤية. يسلمك المعنى الأحادي إلى ممكنات معنوية ثرة تتعانق حينا وتتجافى أحيانا ويفلت منك زمام الشعر إذ تقف على انطلاقة الحركة السردية الحوارية تغذي الشعر، وقد تعودنا قديما أن نظم القصص أو القواعد شعرا طريقة لتيسير الحفظ وتسهيل تشرب المعارف والمواعظ. غير أن تسريد الشعر حديثا رؤية جمالية تأخذ من الرومنطيقية بطرف، إذ ذوبت الحدود الفاصلة بين أجناس الأدب وتراعي مقومات «قصيدة النثر» بما هي جماع الزواج بين الشعري والنثري، كما أن ظاهرة التسريد فن من فنون الإلمام بالشارد والانفتاح على التفاصيل هروبا من زيف الشعر الكلي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ومع ذلك خرج من أصالة التعبير عن خصوصية الراهن جماليا ووجوديا لما تنّم عنه نبراته الخطابية من انخراط في البلاغة القروسطية والتماس للفصاحة التليدة التي التحقت بمخزن القَدامة حتى أصبح المستهدي بنارها إما غريبا أو مجنونا. * الحوارية في الشعر: ما إن حلل “ميخائيل باختين” النزعة الحوارية في بعض روايات «دوستوفسكي» حتى طفق الناس يطلقون مصطلح الحوارية [dialogisme] على مفهومه وعلى غير مفهومه. ولعلنا لا نشذ عن هؤلاء إلا بأننا نختار له مفهوما لا نتقيد فيه بما ذهب إليه باختين وأضرابه عن وعي. فالحوار في النص ضروب: حوار مبدئي ينشأ بين صاحب القصيدة وقارئها، ولما كان هذا الضرب من الحوار مفروغا منه، فإن استخراج دلالة أمر يصبح من تحصيل الحاصل لأن أمر القراءة وأمر كتابة الشعر قد جرى في العرف أنه لا ينهض التقبل إلا على أساس من الإنتاج، إلا إذا تعلق الأمر بنوع من الكتابة التجريبية تركن إلى الرفوف أو كتابة تحررية فوضوية تنأى عن ذوق السلطان، فعند ذلك يصبح مجرد الاستماع أو القراءة علامة على المشاركة في نضال ما جمالي أو أيديولوجي. ومن ضروب الحوار ما ينشأ داخل النص وهنا نربط القول بما سقناه في فقرة تسريد الشعر فجنس السرد يستدعي قسيميه في أدوات الخطاب نعني الوصف والحوار. فقد جاء الحوار في النص على ضربين : أحدهما منقول يتوسل الراوي في إطلاع القارئ عليه بفعل « قال» إما متقد ما كما في قوله: قال الباعة في الميناء: «لمحنا الفجر وكان الغيم كثيفا طفلا. جاء قبيل الشمس خفيفا لا زوادة لا مشكاة ولا مجذاف... تبعنا الطفل ذهلنا: كان يسير رشيقا فوق الماء...وينأى» (ص20). أو قد يتبع الفعل نص المخاطبة كما في قوله: سأمرّ الليلة في فتيان قال فتى) ص(21). أمّا الضرب الثاني من الحوار فيغيب فيه الراوي المسند القول لأصحابه المنظم لسير المخاطبات فيما بينهم. فتجد الشخصية المتكلمة حريتها في الانتقال من ضمير المفرد إلى ضمير الجمع: سنقوم الليل، سنرصد هذا الطفل، سنبحر إثر مراكبه لن تثنينا غيلان البحر... ولا الأمطار سنهتكُ ستر الليل ونعرف أيّ ضفاف ينزل هذا الطفلُ فقرّوا لا تثريب على أحد منكم». (ص21-22). تتحوّل المغامرة من مغامرة فردية-نرجسية إلى مغامرة جماعية- ملحمية، تتسلّل الملحمية لتنصهر في البوتقة الغنائية. طقوس أدب الرحلة وسمات أدب البحر تتمرأى في النص عاكسة تمازجا وتواشجا متألّقَيْن. ينضاف إلى ذلك شيء من السيرة الذاتية -كما ألمعنا إليه آنفا- يختلط بأدب اليوميات، نقف عليه في الإشارات الزمانية المنثورة في أكناف النصّ: «فجر اليوم السابع[...] في اليوم السابع والعشرين[...] بعد ثلاثة أعوام...» سندباد مخصوصٌ هذا المسافر في ركب من الصيادين يطلب «كنزة» إنّه طفل، غير أنّ صورته تتراوح بين الواقع والأسطورة «كان طفلا جليلا يسبح فوق الغيم» (ص25). لقد تعلّق بهيئة سماوية او ب“طبق طائر» المهمّ أنّه فارق الأرض وعالم الهيولى والمادّة والثقل وطفا كالأوراح اللطيفة لا تشدّه كتلة ولا يعوقه جسم. في عالم الأفلاك استقرّ، يُذكّرنا بأرسطو وعالميْه وإن كان الفعل“يسبح” مشتقّا من معجم قرآنيّ «وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»(سورة يس، الآية40). لكن الصورة تأبى للسماء أن تفارق الأرض فتزوّدها بعناصر أرضية: كان الطفل جليلا يسبح فوق الغيم. رأيتُ غزالا يدنو منه. رأيتُ -ولم يكُ حُلْما- كيف تُقبّله الشجراتُ... (ص25-26). يجتهد الشاعر في الإيهام بالواقعية وكانّ نفي الصفة الحلمية عن المشهد يضمن له البعد الواقعيّ. مخاتلة من مخاتلات الشعراء: يوهم بالواقعية وهو يُوغل في إحداث الفوضى بين الواقع والخيال. * مصادر التصوير تتوالد الصور متواشجةً ضاربة بسهمٍ في تحقيق جمالية العبارة عبر عدّة تقنيات تصويرية منها: شعرية الطباق أو المفارقة: «كان الضوء شديدا...كنتُ كليْلٍ»(ص26). إذ بضدّها تتميّز الأشياء، لم يجد الشاعر بدّا ليُوغل في التعبير عن ضياعه وتشتته من أن يشبّه نفسه بالليل. وإن أوحى السياق بأنّ محلّ المشابهة هو انعدام النور، غير أنّ صورة الليل في الشعر العربي تحتّم علينا إضافة معنى ازدحام الهموم والضيق النفسيّ.وتزداد الإحالة على نصوص الشعر العربيّ القديم وضوحا في قوله: «كان الدمع يبلّل دمعي»(ص.26) لا تكمن جمالية الصورة في سذاجة التعبير الحبّبة فحسب، بل في إيمائها من طرف خفيّ إلى بيتيْ المتنبّي: رماني الدهر بالأرزاء حتّى***فؤادي في غشاء من نبالِ فكنت إذا أصابتني سهامٌ***تكسّرت النصال على النصالِ فالشاعر يذكّرنا بمسلك توليد الصورة وبآلية إنتاجها دون أن يكون ما وصل إليه عالة على المرجع القديم، وهذه هي الأصالة. كيف تشتقّ من القديم دون أن تتحوّل إلى رهينة عنده يشكّلك كيف يشاء، أمّا أنْ يصير التراث التصويري عريكةً سهلة الصياغة بين يدي الشاعر المحدث يقوْلِبُها كيف يشاء. أمّا خصوصية الصورة الجديدة فتبرز ديمومة التأثّر وشدّته، حتّى أنّ الدمع يُستدرّ ولمّا يجفَّ الدمع السابق، فكأن الشاعر يعبّر عن غزارة دموعه دون ان يقع في المبالغة السمجة في تشبيه الدمع بالنهر، وسماجة هذا التشبيه الذي عدل عنه الشاعر، تكمن -فيما نظنّ- في كثرة تداوله بين الناس وتعاوره بين الشعراء، حتّى فقد جاذبيته وعَرِيَ من الإدهاش. صورة أخرى: «كانت شمسٌ تضحك فوق سرير الماء»(ص26). استعارةٌ تشخيصيةٌ لا تقبلُ ترجمة إلى عالَم الحقيقة إلاّ أنْ نظنّ أنّ محلّ المجاز «تضحك» (لذلك فهي استعارة تبعية، لأنّ قرينة المجاز كانت فعلا مشتقّا) يُؤوّل بمعنى تُشرق مُحدثةً البهجةَ فكأنّها فاتنة تفترُّ عن ضحكةٍ مفعمة إشراقا ونورا. أمّا «سرير الماء» فاستعارة قائمة على التشخيص أيضا إذ نسب الشاعر، ما هو من متعلّقات البشر(سرير) إلى عنصر من الأستقصّات الأربعة ) الماء ( والحال أنّه مائع، فكيف نقرأ الجمع بين السرير بما يوحي به من راحة واستقرار وربّما من نوم أو حُكْم (فالسياق لا يفاضل بين هذه الدلالات الحافّة جميعا) وبين الماء عنصرا للخلق أو الخصب والرّيّ ّ. إلاّ إذا فهمنا العبارة في قالب تضاد بين الرطوبة (الماء) وبداية الصورة الأولى القائمة على الحرارة (الشمس) فيكون المقصد تحقيق الإغراق، وهذا ممّا يرشّح المقطع لينظمّ إلى سوالف له استحكمت فيها روح الرومنطيقية والتبست به التباسا متينا يشفّ عن شاعرية تُذيب حواجز الكون الواقعيّ وتنفتح على يوطوبيا الطفولة غرضا شعريا بديلا وأفقا من الجمال مفارقا، يراه الشاعر مستقبلا؛ وهو في واقع الأمر ماضٍ. أو قلْ إنّه لعبة اللغة يطوّعها الشاعر ليقلب الزمن فيقول ما لا يفعل على عادة الشعراء الغاوين.