قليلون في التراث العربي أولئك الذين تركوا وراءهم الأثر الذي تركه الحسين بن منصور الحلاّج. ذلك أن تلك الشخصية لم تتغذّ من مكانتها الأدبية أو الشعرية فحسب، بل تغذّت من تجربتها الحياتية والروحية التي تحولت مع الزمن الى اسطورة. والحقيقة ان هذه التجربة ما كان لها ان تحدث ذلك الأثر وهذا الدوي لو لم تنته الى موتها الفاجع الذي لطخ بدمه وجه العصر العباسي وعكس الصورة الأخرى القاتمة لهذا العصر. لقد قضى الحلاّج معلقاً على خشبة قناعاته وأفكاره وهو ما يكفي لرفعه الى مرتبة الشهداء الذين يقرنون القول بالفعل حتى لو دفعوا حياتهم ثمناً لذلك. والحلاّج من هذه الزاوية يذكرنا بالكثير من الأدباء والشعراء العرب الذين رفضوا الإنصياع الى رغبات السلطة وأهوائها كعبدالله بن المقفع او الذين رفضوا خيانة قصيدتهم بالذات كأبي الطيب المتنبي. وإذا كانت شخصية ديك الجن الحمصي تختلف في طبيعتها ونهجها عن شخصية الحلاّج فإن ما يجمع بينهما هو أن كليهما مدين بشهرته الواسعة الى قصيدة الحياة التي سقاها بالدم لا بالحبر وبالمكابدة والشغف لا بالمرور الفاتر والحيادي بالعالم. من هنا تأتي محاولة عبده وازن الجديدة لإعادة اكتشاف الحلاّج وتسليط الضوء على شعره وتجربته في مكانها تماماً. فهذه الشخصية الفذّة استطاعت ان تتجاوز راهنيتها وزمنها المحدود لتبث إشعاعها وتأثيراتها في كل الأزمنة. والحلاّج الذي قضى قبل اكثر من ألف عام ما زال قادراً على تجديد اسطورته وبعث إيحاءاته في الكثير من التجارب الحديثة. وإذا كانت الحداثة الشعرية قد وجدت في التجربة الصوفية جذراً ورافداً ودليلاً لها فإن الحلاّج، بالإضافة الى النفري وابن عربي، يقع في قلب هذه التجربة ويضيء الكثير من خفاياها وجوانبها المظلمة. انه يخرج الحب من مجانيته ورخاوته ليقايض به روحه برمّتها وليهب خالقه الدم الذي منحه اياه من قبل، وهو القائل "ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم". كان لا بد إذاً من قراءة الحلاّج قراءة معاصرة بعيداً من التطرف والتزمّت والأفكار المسبقة، وهو ما فعله عبده وازن مدفوعاً بالإعجاب والتقدير من جهة وبرغبة الإكتشاف وسبر أغوار الحقيقة من جهة أخرى. وهو إذ يفعل ذلك ويعطي لديوان الحلاّج ومقدمته المسهبة ثلاث سنوات، ولو متقطعة من عمره، لا يغفل بالمقابل فضل الذين سبقوه وبذلوا جهوداً مريرة في التنقيب والبحث المضني، وأعني بهما المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون والباحث العراقي كامل الشيبي. وقد كان لماسينيون على وجه التحديد الفضل الأكبر في اعادة اكتشاف الحلاّج وجمع نتاجه المبعثر، والذي سلم من الإندثار، قبل اكثر من ثمانين عاماً. يقدّم عبده وازن على مدى اربع وسبعين صفحة من الكتاب صورة بانورامية واسعة لشخصية الحلاّج وتصوّفه ومواقفه وشعره كذلك، محاولاً ان يقف على مسافة موضوعية من هذه الشخصية الملتبسة ومن المواقف التي تناولتها بالتأييد او التنديد، بالإعجاب او الإستنكار. لكن هذه الموضوعية لم تمنعه من إظهار انحيازه لجرأة الحلاّج وإيمانه العميق بأفكاره الى حد بذل الحياة والتضحية بها. ويحرص المؤلف على تقديم الآراء المتضاربة التي كانت لكل منها قراءتها الخاصة لشخصية الحلاج الإشكالية. ففي حين يعتبره الصولي "جاهلاً يتعاقل وفاجراً يتزهد" ويعتبره ابن النديم "جاهلاً جسوراً على السلاطين مرتكباً للعظائم يروم انقلاب الدول"، ويتهمه عمرو بن عثمان المكي بالتجرؤ على القرآن والإستخفاف به يذهب مناصروه الى الخانة المقابلة تماماً فيراه ابن سريح "حافظاً للقرآن عالماً به .. صائماً الدهر، قائماً الليل"، ويقول فيه النصر أباذي "إن كان بعد النبيين والصدّيقين موحّد فهو الحلاج". والحقيقة ان شخصية الحلاج لم تخرج ابداً عن دائرة اللبس والغموض والإبهام. فالحلاج الذي يقول "أنا الحق" وسواها في بعض حالات الشطح والإنخطاف هو نفسه الذي يقول ما يناقض هذه المقولات الدالة على الحلول والإتحاد بالخالق فيعتبر في مقولات أخرى "ان الله ذات واحد قائم بنفسه .. لا يمازجه شيء ولا يخالطه غيره ولا يحويه مكان". غير ان عبده وازن لا يجد ذلك التناقض قائماً إلا في نظر من يقرأ الحلاج قراءة أفقية أو خارجية. هؤلاء من دون شك سيتراءى لهم حلاّج آخر كلما عثروا على موقف مغاير او مفارقة جديدة من مفارقاته. سيكون عليهم حينئذ ان يقفوا امام شخص منفصم ومتعدد بشكل لافت. لهذا اعتبره البعض اقرب الى الفرق الباطنية واتهموه بالزندقة من خلال اخفائه لمقاصده الحقيقية التي رأوا فيها محاولة تهديم للإسلام وخروج عليه. وقد نُسب الى الاسماعيليين تارة من خلال فكرة "القربان الفلسفي" وتقديم نفسه قرباناً على مذبح العقيدة، ونسب طوراً الى الشيعة الإثني عشرية من خلال الربط بين ظهوره واختفاء المهدي، ومن خلال الإرتباط الذي رآه البعض بين الفكر الصوفي وروحية التشيّع. وآخرون رأوا أنه اقرب الى فكر اهل السنّة وتمسكهم البالغ بأصول الدين وشعائره المختلفة. كل طرف كان يجد في الحلاج ما يدعم حججه وآراءه ويأخذ من هذه الشخصية الغنية ما يلائمه أو لا يلائمه. حتى ان البعض رأى في حادثة صلبه كما في بعض مواقفه وأقواله امتداداً للمسيحية في الإسلام او عودة الحلاج الى اصول دينية وعقائدية ما قبل إسلامية. وقد ذهب سامي مكارم الى ان الحلاج تخاطب وحكماء الهند والصين وتركستان من خلال بعض الممارسات العرفانية المشتركة وقارن بين "أنا الحق" وبين "الوعي الكوني" الهندوسي الذي يتيح للعارف الهندوسي ان يرى ذاته متحدة بالحق. الاختيار الشخصي غير ان الجانب الفكري والنظري ليس هو الجوهر في تجربة الحلاج التي تقوم قبل كل شيء على الإختبار الشخصي وقهر النفس وصولاً الى الفناء في المعشوق والحلول فيه. وبالتالي فان اي قراءة متفحصة لقوله "أنا الحق" و"أنا من أهوى ومن أهوى أنا" لا يمكن ان تتم إلا في ما وراء الظاهر ووفقاً للتأويل العمقي لا للرؤية الظاهرة. والشيء نفسه ينسحب على مواقف الحلاج الاخرى كموقفه من إبليس او من الطقوس والعبادات وهي لا يجوز ان تؤخذ على ظاهرها بل بوصفها تجاوزاً للظواهر والسطوح والعرض الخارجي، خصوصاً حين يبلغ العاشق كمال الهوى ويغيب عن "سطوة الذكر" بعد ان يتحد بمعشوقه كل الإتحاد. في ظل تلك النظرة الشمولية والثاقبة تصبح الأديان برمّتها مسالك وطرقاً للوصول الى الغاية الأسمى، ناهيك طبعاً بالمذاهب والملل والتفاسير التي لم يتوقف الحلاج عند قشورها وهياكلها بل بحث دائماً عن الزبد والجوهر. يفسّر ذلك قوله "ما تمذهبت بمذهب احد من الأئمة جملة وإنما اخذت من كل مذهب أصعبه وأشده وأنا الآن على ذلك". لكن المسألة، بحسب عبده وازن، لا تنحصر في اطارها الديني او اللاهوتي بل هي في بعض وجوهها شأن سياسي اجتماعي. ذلك ان تهمة الزندقة لم تكن في حقيقتها إلا تمويهاً للتهمة الأخرى المتعلقة بنزوع الحلاج القرمطي وميله الى رفض النظام السياسي القائم على القهر والتسلّط والتستر بالدين وانتهاك روح الإسلام. والخلافة العباسية شأنها في ذلك شأن الخلافة الأموية وجدت في تهمة الزندقة الذريعة المناسبة لتمويه كمّ الأفواه المعارضة والقضاء على كل من يخالفها الرأي أو ترى فيه شبهة الإعتراض. من هنا لا نستطيع ان نفصل بين الجانب اللاهوتي والجانب الاجتماعي السياسي في دعوة الحلاج ورسالته وفكره. والذي يعزز هذه الفرضية هو رفض الحلاج لمبدأ التقية السائد في عصره والخروج بدعوته الى العلن لما يشكل جانبها الإجتماعي السياسي من اهمية بالغة. لذلك، فإن قول الشبلي "كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً إلا إنه أظهر وكتمت" يكشف عن الطبيعة المغايرة لصوفية الحلاج التي لم تقبل الإنسحاب من الواقع والإذعان له بل ذهبت بجرأة إلى مواجهته وفضحه ولو كان الثمن هو الحياة برمّتها. نستنتج من كل ما تقدم بأن الحلاج لم يأخذ قيمته وشهرته من شعره وحده بل ربما يأتي الشعر في الدرجة الثانية بعد الفكر والتجربة الصوفية والتضحية بالحياة. صحيح ان الكثير من آراء الحلاج ومواقفه وعشقه الإلهي قد انعكس في قصائده ومقطوعاته بشكل جلي ولكن القيمة الشعرية لا تنحصر في المعنى او الفكر او الموقف بل تشمل البنية التعبيرية واللغة والصورة والتركيب والتخييل وهو ما ينعكس بشكل متفاوت في الديوان الذي بين أيدينا. ولم يتخلّى عبده وازن عن الموضوعية النقدية في نظرته الى شعر الحلاج وقيمته الفنية. فهو وإن عمل على تحقيق الديوان والتقديم له وأظهر تعاطفاً بيناً مع فرادة صاحبه وتضحيته النادرة إلا ان ذلك لم يمنعه من النظر الى شعر الحلاج بعين النقد الرصين والهادئ والموضوعي. لذلك فإن المؤلف لا يضع الحلاج في عداد الفحول من شعراء العصر العباسي كأبي تمّام والبحتري وابن الرومي وأبي نواس من الذين سبقوه ولا في عداد الذين أتوا من بعده كالمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي وأبي العلاء. وذلك لا يضير الحلاج في شيء لأن المغامرة التي أناط نفسه بها لم تكن مغامرة شعرية أو بلاغية بل كانت مغامرة روحية فلسفية خلخلت الكثير من المفاهيم الدينية التقليدية وفتحت الباب واسعاً امام كبار المتصوّفين اللاحقين كإبن عربي وجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار. يلاحظ قارئ الديوان ان الحلاج ابتعد عن الموضوعات التقليدية التي راجت في العصر العباسي كالمديح والهجاء والرثاء والتشبيب بالمرأة والفخر وغيرها. ومع ذلك فان الباب الذي طرقه الحلاج في شعره يكاد يكون فريداً وغير مسبوق باستثناء بعض اشعار الزهد الأولى التي شهدناها مع ابي العتاهية ورابعة العدوية. لكن الحلاج ذهب الى نهاية الطريق مسهماً في تأسيس شعرية الباطن التي تبتعد بالشعر عن الوصف الخارجي وملامسة السطوح الظاهرية لتنحو باتجاه الرمز والإشارة والتأويل المتعدد والبحث عن الجوهري. ويجب أن لا ننسى في هذا السياق ان الحلاج أسهم في تبديد المقولة التي ربطت بين صعود الإسلام وتراجع الشعر باعتبار ان الاسلام حاول ان يربط الشعر بوظيفة أخلاقية محددة وببعد وعظي إرشادي لا يتناسب مع حاجة الشعر الى الحرية الكاملة والمزاج الفردي والتجول في الممنوع. جاءت تجربة الحلاج الرائدة لتنسف هذه المقولة ولتوائم بين الشغف اللاهوتي والشغف الإبداعي داخل لغة البوح والمكابدة والكشف. ولكنها لغة تومئ ولا تفصح لأنها تستغلق دائماً باستغلاق المعنى الذي تحاول مقاربته: فإن لسان العلم للنطق والهوى وإن لسان الغيب جل عن النطق ظهرت لخلق والتبست لفتية فتاهوا وضلّوا واحتجبت عن الخلق تبدو تجربة الحلاج الشعرية من بعض زواياها قريبة من تجربة الشعر العذري في العصر الأموي. ففي التجربتين ابتعاد واضح عن التكلف والصنيع والزخرفة وميل الى التلقائية والوضوح المفعمين بالشجن والبوح الصادقين. وفي التجربتين نزوع نحو التوحّد بالمعشوق والفناء فيه مع اختلاف المخاطب المنشود. على ان تجربة الحلاج تتنوع وتتعدد في صيغها وإيقاعاتها ومستوياتها المختلفة. فهناك الأراجيز والأناشيد والمقطوعات القصيرة والإيقاعات السريعة وهناك الإبتهال والدعاء وتنويع الضمائر والصيغ. هناك البساطة والإسترسال العفوي وهناك الإلحاح في استخدام الجناس والطباق والتورية وسائر المحسنات: فما لي بعدٌ بعد بعدك بعدما تيقنت ان القرب والبعد واحد لكن هذه المحسنات لا تستخدم بصفتها زخرفاً او زوائد جمالية بل في اطار الجدل والبرهان وإظهار التناقض. يبقى القول اخيراً ان عبده وازن أتاح للقارئ العربي من خلال إعداده وتقديمه وتبويبه لديوان الحلاج ان يطل على تجربة فلسفية وشعرية وعرفانية رائدة في تراثنا العربي. وهي تجربة لما تزل حتى اليوم ترفد الحركة الشعرية والفكرية الحديثة بالكثير من الغنى والجرأة والتجدد.