في أعمال متعدّدة، يستعيد الكاتب والشاعر التونسي باللغة الفرنسية، عبدالوهاب المؤدّب التقليد العربي والتقليد الصوفي وإنما في عملية تحديث. وقد صدر له أخيراً أربعة كتب أوّلها الترجمة العربية لديوانه "قبر ابن عربي" صدرت الطبعة الفرنسية الأولى سنة 1987 والثانية سنة 1995 ووضع الترجمة الشاعر المغربي محمد بنّيس. ويحتوي الكتاب أيضاً على تعريب للنصوص الشعرية التي نشرها المؤدب عام 1995 في دار "فاتا مورغانا" تحت عنوان "مواقف ييل التسعة والتسعون" وقد جُمعت في النصّ العربي تحت عنوان "آياء". ويفسّر بنّيس في المقدمة: "لم يكن اختياري لإسم آياء ممكناً لو لم أُدخل تعديلاً على ما هو في الأصل الفرنسي "آيا". فالهمزة التي أضفتها في العربية أعطت الإسم طاقة الجمع بين بداية حروف الأبجدية وخاتمتها بصيغة توحّد بين الدلالي والشعري". وتعود آيا الى الواجهة في النصّ الشعري الجميل للمؤدّب الذي صدر عن "فاتا مورغانا" تحت عنوان "آيا في المدن" في حين تفرد مجلة "ديدال" السنوية التي ينشرها الشاعر مع دار "ميزونوف اي لا روز" موضوعاتها تحت عنوان "مجيء الغريب". وفي الوقت نفسه، صدر عن "ميزونوف اي لا روز" سلسلة تهتّم بترجمة أو إعادة نشر الترجمة الفرنسية للمؤلفات الإسلامية الأدبية والفلسفية أو ما يتعلّق بها، كتاب "الخطب اللافتة، الكلمات الحسنة، وحكم الشرقيين" لانطوان غالان الذي كان عرف الشهرة بفضل ترجمته "ألف ليلة وليلة". وقد وضع المقدّمة لكتاب غالان عبدالوهاب المؤدّب الذي يدير السلسلة عند الدار الفرنسية. وجاءت هذه المنشورات مناسبة للقاء الشاعر في باريس والبحث معه في أعماله المتنوّعة ومصادر إلهامه المختلفة. وما يلي، نصّ الحوار. من يقرأ نصوصك الشعرية بالعربية في "قبر إبن عربي" يشعر أنها تجسّد عودتها الى لغتها الأم. فالنصوص الصوفية التي كتبتها بالفرنسية لا تبدو في ترجمتها العربية غريبة وكأن الترجمة هنا تعني العودة. كيف ترى الى هذا الأمر؟ هل هذا يعني أنك تكتب بالفرنسية ولكن بذهنية عربية؟ - يجب القول بأن هذه الترجمة يتحمّلها أولا الذي وقّعها، محمد بنيس، ولكننا عملنا معاً بتعاون وثيق وفكّرنا بها طويلاً وبعمق. قد يكون لون اللغة ملك بنيس، وأعتقد أنها تحمل جانبا متقعّرا إنّما تبقى في اللغة الحديثة لأن هذه النية في العودة الى القديم موجودة أيضا في النصّ الفرنسي. بالطبع، أنا أكتب بالفرنسية ولكنني أميل دائماً الى القول بأن ما يشكّل كتابتي، كما كائني، هو أصل روحي مزدوج. من جهة، هناك مجموع الثقافة الاسلامية كنصوص وكرموز، وبالنسبة للنصّ الإعتماد على المجموع الصوفي الذي يرافقني منذ 25 سنة تقريباً. أعتقد أن لقائي الأوّل مع الصوفية - كنصّ - حصل عام 1974 خلال مرحلتي الاوروبية. هذا الإشباع حاضر طبعاً في النصّ ولكن الحصة الاوروبية موجودة، في الوقت ذاته، لأن الذين يقرأون ويحبّون الشعر سيعرفون ويكتشفون بأنه يأتي بعد السريالية، بعد رامبو وملارميه، بعد ايزرا باوند وريلكه، بعد هنري ميشو وبيسوا... وبالتالي، كل الأدب العالمي الذي يشكّل مختبرالقرن ينتمي الى ذاكرة هذاالنص، وأعتقد أنه يجب قراءته حسب هذا الأصل المزدوج. تتكلمين عن عودة النصّ الى مواجهة جذوره. قد يكون مغريا أن نقول ذلك ولكن يجب القول أيضاً - وأعتقد أن بنيس أشار الى الأمر بوضوح في مقدّمته للنصّ وفي الطريقة التي فكّر فيها النصّ وفي الأفق الذي ترجمه وهو أفق يشاركه كما عدد من الشعراء باللغة العربية - إنه نصّ بين لغتين، بين حيزين مرجعيّين. وتالياً، إنه نصّ متحرّك، تائه، متموّج لا سيما أنه يندرج في لغة اوروبية وإنما مطبوعة بغرابة، ليست فقط غرابة اسم المؤلّف بل غرابة بعض المرجعيات. إنه نصّ موجّه الى الأشخاص المستعدّين خوض مغامرة نصّيّة، إن كانوا أوروبيين أو عرباً. فقد ينزعج البعض من تحويل عدد من العبارات الجامدة ومن تدخّل بعض التركيبات البعيدة عن التقليد الصوفي. توجد البصمة الصوفية طبعاً وإنما الصوفية كأثر، كتجاوز، وكتفكيك للبنية. هذه المرجعية المستمدّة من فسحة ومن ثقافة مركّزة ومغلقة على ذاتها وكأنها كوكب خاص تدخل في نصّ غيرمركّز كليّاً. ابن عربي، السهرودي، البسطامي... ماذا تعني لك استعادة هذه الأسماء من التاريخ الصوفي وإعادة إحيائها باللغة الفرنسية؟ - الإحياء باللغة الفرنسية يعطي للنصّ طاقة أخرى، ويضيئه بالمعنى الآخر. فهذا العبور من خلال الفرنسية يخلق فوراً تحديثاً للنصّ. وهناك عمل تحديث متعمّد تقنياً. أبو يزيد البسطامي يهمنّي لأنه يشكّل، بالنسبة لي، طليعة لنيتشه. نيتشه كتب "هكذا تكلّم زارادشت" وأبرز زارادشت ويبدو لي أن البسطامي يخلق تماما الحلقة المتوسطة بين زارادشت من جهة ونيتشه من جهة أخرى: من ناحية الزمان، إنه رجل عاش في القرن الثامن - التاسع، ومن ناحية المضمون كذلك فهو يحصل على الاتحاد ولكنه يرفضه. فبدل أن يكون في غبطة هذاالإتحاد وبالتالي يؤكّد على فكرة الخديعة والوهم يخلق، فوراً، قلق الشكّ. وكرمز أخلاقي، إنه أيضاً على عتبة نيتشه لأنه من بين الذين كانوا يعظّمون الفضيحة الإجتماعية في التجربة الروحانية أي أنه يجب الخضوع للعار الإجتماعي والإبتعاد عن النفوذ والإعتبارات وزعزعة الصورة الاجتماعية كإختبار روحي. وذلك ينبىء تماماً بما سمّاه نيتشه العجب بالذات عند الإنسان الأسمى. بالنسبة لي، البسطامي صوفي، ولكن من خلال قراءتي له، من منظور اللغتين، وبهدف نقله الى لغة أخرى، فهو يخرج عن زمنه قسراً ويصبح معاصراً لنا، بالتالي يمكن تحديثه. ولكن يبدو وكأنك تضغط قليلاً، وتدفع الى الأمام؟ - صحيح أنني أضغط وأعطي دفعة صغيرة ولكنني أعتبر بأن هذه ترجمة شاعر وليست ترجمة مؤرّخ. بالنسبة لشهاب الدين السهروردي الذي عملت على ترجمة كتيّبه وتحليله أيضاً، وجدت عنده تقارباً مدهشاً مع مفكّرين حاليين أمثال موريس بلانشو. إن ترجمنا الصدمة الكبرى ب"le grand dژsastre". فنجد مفهوم dژsastre يعمل بالمعنى ذاته كما عند بلانشو. ومن جهة أخرى، كل تجربة السهروردي مجازية وقريبة من مسلك التحليل النفسي في تلك الفكرة التالية وهي أننا نهاجر من الغرب الذي يشكّل سجناً وأن التحرير يحصل في طريق العودة: فيجب أوّلاً الهروب من السجن الغربي والعودة الى الشرق، الى الأصل، ولكن طريق العودة مزروع بالصدمات وبالتجارب المريعة التي يقتبسها السهرودي طبعاً من النصّ - والأمر مشابه تماماً في العلاج النفساني أي أن المرور بتجربة الصدمة ضروري من أجل التحرر - ولكن في هذه العودة، ماذا نجد؟ نجد صورة الأب الذي يقول بأن ليس هناك من رجوع نهائي، فالرجوع النهائي هو بالفعل الموت. ولكن الزيارة تبقى ممكنة من وقت الى آخر وإنما العودة الى السجن الغربي الذي هو الحياة إجبارية، ولحظات الراحة هي لحظات الذهاب والإياب. والى أبعد من المجاز النفساني الذي يمكن ايجاده في النصّ، يتطابق ذلك مع طريقة حياة. كل منفي عربي عاش هذا الإغراء في وقت من الأوقات، وقد عشته بنفسي، فضياع الهوية وتجرية الغربة صعبة جدا وتشكّل تجربة صدمة حقيقية. ولكننا عندما نعود نكتشف بأن العودة مستحيلة ونكتشف أن الحياة، في النهاية، هي في الذهاب والإياب وفي العلاقة التي نقيمها مع فسحة الولادة وفسحة الأصل عندما أردنا فنحن لسنا مبعدين ولا منفيين سياسيين أو ممنوعين من الإقامة. وإنما أنت كشاعر حديث، أين تضع نفسك تجاه هذه النصوص القديمة؟ - توجد أوّلا السعادة الفائقة في قراءة النصّ. إنها نصوص خلاّقة جداً بالنسبة للكاتب وتشكّل مادّة مهمّة في الصور التي تقدّمها والتجربة الحادّة التي تعيشها والتي يطلق عليها البعض تجربة الحدود أو التجربة الداخلية. واستخدم هذا العبارات عن قصد، ذلك أن الصوفية أستُعيدت بهذه العبارات الحديثة. تجربة الحدود هي عبارة من فيليب سوليرز والتجربة الداخلية هي عبارة من جورج باتّاي، وهؤلاء الكتّاب كانوا صوفيين علمانيين. والتجربة الصوفية تستهويني كتجربة حدود وكتجربة داخلية ولكنني أفهمها خارج حقل الإيمان. إذا، أنت صوفي علماني؟ - إذا أردنا. إنني لا أنتمي الى طريقة. أعرف الطرق وأهتّم بها أحياناً وأحضر الحفلات وإنما من نظرة انتروبولوجية. بالنسبة لي، الصوفية هي الإنتاج الأقوى في حضارتنا. في الصوفية توجد حيوية كتابة وحيوية شعرية وشهادة عن تجربة داخلية استثنائية بإمكانها أن تستمّر في مخاطبتنا وفي مخاطبة أي من الأشخاص في العالم. ويجب الا ننسى بأن مجموع النتاج الصوفي يثير حالياً اهتمام كبار الشعراء الأميركيين المعاصرين. المفاجىء في تجربتك أنك تجمع دوما وببراعة بين الحداثة والبعد التراثي، بين رامبو وابن عربي، بين لغة متحرّرة ولغة كثيفة ذات شحنات صوفية. كيف توصّلت الى هذه الصيغة؟ - عندما يكون الكتّاب الصوفيون الكبار غامضون فهم غامضين لأن القول المأثور يجب أن يكون غامضاً. من وجهة النظر هذه، بإمكانهم ان يكونوا قريبين من بعض أعمال رامبو وحتى ملارمه، من شعرية الغموض. ولكن غالباً، إنهم يخلقون لغتهم، وهذه اللغة بالضبط هي لغة مبتكرة وفورية، فالبسطامي أو النفري أو السهروردي يكتبون بلغة سريعة للغاية. بالطبع، إبن عربي يكتب بطريقة متكلّفة وأحياناً مطبوعة بعمق بعصره. ففي "ترجمان الأشواق" مثلاً، المشروع مثير للغاية ولكن العمل الشعري يبقى كلاسيكياً حديثاً. وأنت، كيف تخلق الرابط بين ما هو معاصر وكل هذا الماضي؟ - بالنسبة لإبن عربي، إنها مسألة مضمون. "قبر إبن عربي" كان حواراً مع "ترجمان الأشواق" وفكرة القبر كانت إعطاء الفرصة المؤاتية لبعض الوجوه، لبعض المواضيع وبعض الأفكار الرئيسية الموجودة في هذا النصّ كي تأخذ مسلكها في نوع آخر، في لغة أخرى وفي عصر آخر. والذي يهمنّي جداً في "ترجمان الأشواق" هو أوّلاً الشخصية النسائية الملهمة، نظام، التي تشكّل شخصية بارزة بحدّ ذاتها في تاريخ الآداب أيضاً لأنها أصبحت، صدفة، شخصية أدبية يحملها نصّ وملهمة لنصّ في القرن ذاته الذي ظهرت فيه شخصية بياتريس عند دانتي. ومن هي آيا بالنسبة لك؟ - إنها بالضبط تلك الشخصية التي تريد أن تكون منافسة لنظام ولبياتريس في آن. ولكن مشكلة نظام وبياتريس التي تُطرح إضطراراً بالنسبة لآيا هي وجود إمرأة واحدة، مدعوّة واحدة، ولكن هل هي فعلاً واحدة؟ فبعد مدحه نظام، يلتقي ابن عربي بسيّدة بيزنطية ولكنه يحذّرنا بأن أي امرأة أخرى، أي إسم آخر، أي تجربة نسائية أخرى هي تعبير عن نظام. وكذلك بالنسبة لبياتريس، نجد عدداً من النساء اللواتي يصبحن أماكن إغواء وأماكن حبّ. والسؤال الذي يُطرح هو: أليس هيكل الحبّ واحداً مع شخصية نسائية قابلة للتبادل على رغم كونها واحدة؟ وبالنسبة لآيا تبرز إشكالية الواحد والمتعدّد في عملية أكثر وضوحاً لكونها شخصية أدبية وبالتالي شخصية من التمثّل أنها في مشهد بعيد عن الواقع، تماماً كما في مشهد الحلم - وهنا أستعيد مفهوماً فرويدياً - ولكن عندما يظهر شخص في الحلم من الممكن ان يتجمّع فيه أشخاص آخرون حقيقيون. وبالتالي، يمكن تحديد هوية آيا بطريقة حقيقية مع تحميلها، في الوقت ذاته، حيوية شخصيات أخرى. أعتقد أن هذا الذي يجعل منها رمزا من الإعلاء، ومن وجهة النظر هذه، أعتبر أن آيا وكذلك قبر ابن عربي يدخلان في إرادة أو في رغبة إنعاش شعرية الأسمى الى عصرنا. وفي قصائدك الصغيرة التي تضمنها كتابك "مواقف ييل التسعة والتسعون"، تحضر قصيدة الهايكو اليابانية ولكن على خلفية الشطحة الصوفية: كيف سعيت الى التوفيق بين هذين النوعين الغريبين ظاهراً عن بعضهما؟ - إنها ليست تماماً قصيدة الهايكو بل قصيدة التانكا. التانكا التي تعود الى القرن الثاني عشر أبرز شعرائها سايجو هي قصائد قصيرة مؤلّفة من 33 مقطعاً وبالنسبة لنظم الشعر العربي أو الغربي فهذا موجز جدا. إكتشفت نصوص سايجو منذ سنوات عندما كنت أعمل مع صديقة شاعرة يابانية على ترجمة أشعاره الى الفرنسية من أجل نشرها في مجلة "ديدال". وتأثّرت كثيراً بتناسق هذا الشعر، ونتيجة لصدمة تجربتي الاميركية حيث أمضيت بعض الوقت في جامعة ييل، شعرت بأنه يمكنني إستخدامه للتعبير عن تجربة داخلية. جامعة ييل التي تعتبر من الجامعات المهمّة والعريقة في الولاياتالمتحدة تنوجد في مدينة منكوبة وتعيسة للغاية هي نيو هافين وبدت لي هذه الوضعية استعارة جميلة عن حال اميركا وحال العالم: نحن في الجنّة ولكن الجحيم قريب جدّاً فمن جهة يوجد المختارون، ومن جهة أخرى هناك الهالكون ولكن هؤلاء يمكنهم عبور سور الجنّة في حين يستطيع المختارون الخروج نحو الهلاك عندما يريدون... بطّنت الأصل المزدوج بمرجعين إذ يوجد، إضافة الى المرجع الشكلي لقصيدة التانكا، رجوع الى النفري في العنوان وفي الوقت ذاته يظهر اسم الحلاج لأنني كنت متيّقظّاً باستمرار الى قراءة طواسين الحلاّج خلال كتابتي النصّ، في حدّة الكتابة وفي دقّة الكلمات التي كان يتوجّب اختيارها بصرامة. وبالتالي، بات النصّ الشعري مصنوعاً من خيوط عدة، من تجربة شخصية ومن استعارة حيكت حولهما سلسلة من المراجع المتنوعة والمتعدّدة والمتشابكة التي تخلق المتغاير وتبعد النصّ عن الأفق الواحد. بدأت روائياً وثم انتقلت الى كتابة النصوص الشعرية كما وضعت عدداً كبيراً من المقالات النظرية وعملاً مسرحياً واحداً. ماذا يعني لك الإنتقال من نوع أدبي الى آخر؟ - الروايات التي كتبتها ليست روايات حقيقية وكذلك المقالات ليست مقالات حقيقية. أعتقد بأنني، قبل أي شيء آخر شاعر وأن النوع الأوّل بالنسبة لي هو الشعر. وفي التقليد الشعري، توجد رواية الشاعر وأفكّر خصوصاً بالرواية التي كتبها ريلكه، وفي الوقت ذاته، يوجد في التقليد الشعري نوعان من الشعراء: الشعراء الذين لا يمكنهم سوى كتابة القصائد الحبيسة كليا في ما يتعلّق بالفكر، والشعراء المفكّرون أمثال، دانتي وبودلير وفي العصر الحالي اندريه بريتون وازرا باوند الذي فكّر طويلاً في تغير المراجع وفي تعدّد المراجع وفي العمل الشعري فعلاً كعمل شامل حيث نغرف في الكيمياء وفي التقليد الفارسي وفي التقاليد المختلفة... وهنا، تكمن خاصة الإنسان الحديث. الإنسان الحديث يذهب أبعد من التقاليد ولكنه لا يرفضها ولا ينساها فهو يحوّلها لأنه يحملها كأثر وليس كخطاب. كل هذه الناحية تحملني الى اعتبار نفسي كشاعر أوّلاً بالرغم من كتابتي الروايات والمقالات والنصّ المسرحي. وفي نصّك المسرحي، "الغزالة والصبي" استعدت شخصية حيّ ابن يقظان المنسي أو المجهول. ما الذي دفعك الى استعادة هذ الشخصية وكيف أعدت صياغتها؟ - في هذه المسرحية أردت التركيز بالدرجة الأولى على الكتابة الشعرية. قمت بعمل كبير على الوزن، على الموسيقى مع إرادة تحديث للنصّ وتوسيع للأفق في إتجاه الرهانات العلمية لعصرنا. وتنقسم المسرحية الى جزءين فهنالك جزء ماديّ وآخر ما ورائي ويؤدّي تزاوج هذين النوعين في التقليد الى مرجع ثالث في التقليد المسرحي إذ حاولت التنسيق بين التراجيديا اليونانية والرجوع الى الكلمة التي تقال كصدى كما في مسرح "نو" حيث أشباح العالم الآخر يأخذون الكلمة. وفي هذا النصّ المسرحي حيث البعد الشعري كان رئيسياً، أردت أن يكون الأشخاص في وضعية أشباح ومن خلال الجمع بين التقليديين مع التحييد للبعد المسرحي، أصبح النصّ يشبه موشحّاً دينياً وابتعد عن المسرحية. وعودة الى السؤال السابق، أحبّ أن أضيف بأنني أعتبر نفسي كشاعر أوّلاً، وفي الدرجة الثانية كشخص متعدّد الموضوعات حسب تقليد القرون الوسطى وكما ظهر في القرن الحالي من خلال تجربة جيمس جويس في "عوليس" مثلاً. كان أفضل ممثّل لهذا التقليد ابن عربي فهو، في "الفتوحات الملكية" ينتقل من معالجة الفقه الى معالجة الماورائي الى السيرة الذاتية... وأعتقد أن هذا البعد المتعدّد الموضوعات والذي يخترق الأنواع المختلفة يجب إعادة إنعاشه في التجربة المعاصرة. وفي الروايتين اللتين وضعتهما، "فنتازيا" و"طلسمان" أعبر الأنواع والثقافات. أعمل بهذه الطريقة دائماً لأنني أكتب على حدود الثقافات واللغات. وهذا ما أردت إبرازه في المجلّة السنوية التي أنشرها، "ديدال" فهي تذهب من الشعر الى المقالة العلمية، من سوفوكليس الى التفسيرات الحديثة لسوفوكليس...، وتميل كذلك الى عبور التاريخ إذ تغرف في التقاليد المختلفة من قانون حامورابي الى مجموع المصريين القدامى، وتعطي مكانة للمرجع الإسلامي أو التقليد الإسلامي الذي يحجب غالباً في أوروبا. ومن ثم تعالج "ديدال" النصوص الحديثة التي تدخل في مغامرة الكتابة، في منظور الكتابة كمختبر، كتجربة أي الكتابة التي تبحث عن قالبها.