في لبنان يتكلمون عن الفساد ويحاولون العمل لايقافه في اول كل عهد، بتغيير الاشخاص بآخرين. بعد حملة اعلامية تجعل المواطن يعتقد ان الامر انتهى وستصلح الامور في الدولة. ذهب الحرامية، وجاء الاوادم!؟ وما ان تمر فترة حتى تعود الامور الى ما كانت عليه وأبشع مع تطور في الوسائل والاساليب. هل المواطن اللبناني فاسد اساساً؟ هل الحاجة تدفع المواطن للسرقة؟ هل سلك الوظيفة يغري الموظف ليسرق؟ أم هناك اسباب اخرى تحمل معظم موظفي الدولة على الفساد وبالجملة؟ دون ان تتمكن الادارة على رغم ما فيها من اجهزة مراقبة وتفتيش من ضبط الامور؟ الفساد الافرادي في الادارات العامة من تحت، على الصعيد الادنى يبقى محدوداً ومحصوراً. ولا يمتد بسهولة الى فوق، الى الرعيل الاعلى، لأن الكل يراقبونه وباستطاعتهم وبسهولة توقيفه عند حده لانه يكون افرادياً. وهو موجود في كل دول العالم وهي تحاربه دوماً وتضع له الحدود بسهولة. اما الفساد الصعب فهو الذي يبدأ من رأس الادارة، صعب لأنه ينتقل دون رادع من الوزير الى المدير الى رئيس المصلحة حتى آخر موظف، صعب لأن الرئيس يصبح عاجزاً عن مواجهة المرؤوس وردعه عن ارتكاب المخالفة. صعب لأن هذا الفساد يكون محمياً من السلطة القائمة. ويصبح هذا الفساد اكثر صعوبة اذا كانت السلطة من خارج الوطن: بالاحتلال او الانتداب او الوصاية… لبنان قبل الاستقلال، كان تحت الاحتلال العثماني وعدد من اللبنانيين ما زالوا يذكرون كيف كان عليهم دفع الضرائب التي كانت تذهب للاستانة. وكيف كانوا يهربون من دفعها للجباة. وكيف كان البرطيل يخلصهم من اكبرها… وبعد العثمانيين جاء الانتداب الفرنسي ولم يكن الامر افضل لهذه الناحية فبقي البرطيل، "البوربوار"، رائجاً للتخلص من دفع الضريبة او تخفيفها. وفي هذه الحال كالاولى كان اللبنانيون يعرفون ان هذه الضرائب ستذهب لدولة اخرى تتحكم بهم. السلطة للغريب واللبناني غريب في بلده فلماذا ولمن يدفع الضريبة؟ اصبح هذا الشعور مترسخاً في ذهن اللبناني. وطالما الدولة ليست دولته فلماذا يغذيها بامواله، لماذا لا يستفيد منها فهو اولى من الغريب. وما ان تحقق الاستقلال عام 1943 وقبل ان يجلو الحاكم الغريب عن البلد ابتدأت الايديولوجيات تنتشر وتزعزع ما لم يستقر بعد في ذهن اللبناني من الوطنية والثقة بسلطة الدولة والطاعة الطوعية لقوانينها. القوميون السوريون يدعون للوحدة بين لبنان وسورية والعراق والاردن وفلسطين وقبرص. القوميون العرب يدعون للوحدة بين لبنان والدول العربية من المحيط الى الخليج. حتى الفلسطيني المقيم موقتاً في لبنان، ثار على الدولة التي حضنته لتغيير هويتها مدفوعاً من بعض الدول العربية لاستكمال ما عزت عنه الاحزاب. دخل الجيش السوري لبنان عام 1976 للتهدئة فاسترخى وتفاقمت الحرب. دخل الجيش الاسرائيلي لبنان عام 1982 واخرج القيادة الفلسطينية منه الى تونس. ثم انسحب الى الحزام الامني وبقي فيه. كما بقي الجيش السوري في القسم الاكبر من لبنان حتى بسط سلطته بالقوة على ما تبقى عام 1990. وما زال وصياً حتى اليوم. من هذا السرد الموجز نجد ان السيطرة الغربية على لبنان كانت شبه دائمة. والفترات التي كانت الدولة فيها شبه مستقلة معدودة وقصيرة، اهمها وآخرها كانت بين عامي 1988 و1990 عهد الحكومة العسكرية على المنطقة الشرقية: المرة الوحيدة التي دفع فيها المواطن اللبناني للدولة ضريبته كاملة. * ضابط سابق. وزير في حكومة العماد ميشال عون. مقيم في فرنسا.