بعد أيام قليلة، وفي السابع والعشرين من آب (أغسطس) الجاري تنطلق فعاليات الدورة الرقم 71 من مهرجان البندقية السينمائي وتستمر حتى 6 أيلول (سبتمبر) المقبل. تكشف تفاصيل الدورة الجديدة عن تنوع ثقافي كبير آت من معظم أنحاء العالم، متضمناً أسماء مهمة للنجوم والمخرجين الذين يتخذون من الجودة المعيار الأول وربما الأخير. لذلك، يعقد المرء آمالاً كبيرة على وجودهم. ويعد «البندقية» الذي يتجاوز الثمانين عاماً أعرق مهرجانات السينما الكبرى – إلى جانب كان وبرلين - وأقدمها على الإطلاق فقد بدأ منذ عام 1932، لكنه توقف ست مرات منها ثلاث سنوات متتالية أثناء الحرب العالمية الثانية، كذلك أقيمت فعالياته ست مرات من دون أن تحمل تلك الدورات أي رقم لها، وهو ما يفسر الفارق بين عمر المهرجان الحقيقي - 83 - وبين الرقم 71 الذي تحمله الدورة الحالية. إضافة إلى أن المهرجان استمر في إقامة دوراته من دون مسابقة ومن دون أن يمنح الجوائز للأفلام المشاركة عشر مرات، منها السنة الأولى لانعقاده، ثم من عام 1969 حتى 1979. ونتوقف هنا عند المشاركات العربية القديمة والراهنة في هذا العيد السينمائي الذي كثيراً ما فتح للسينمات العربية أبواباً مشرعة. غلبة فلسطينية على رغم أن المسابقة الرسمية تخلو من الأفلام العربية هذ العام بعكس دورات سابقة، لكنها لا تخلو من الوجود العربي في لجنة التحكيم - التي تمنح جائزة الأسد الذهبي وجوائز أخرى - ممثلاً في المخرج الفلسطيني إيليا سليمان كأحد أعضائها، بينما يترأسها للمرة الأولى في تاريخ مهرجان البندقية السينمائي مؤلف موسيقى أفلام هو الفرنسي العامل غالباً في السينما الأميركية، ألكسندر ديبلا الذي رُشح للأوسكار ست مرات، ومن أعماله «نبي» و «صدأ وعظم» لجاك أوديارد، «السيد فوكس الرائع» و«أرجو». وإلى جانب عضوية لجنة التحكيم، تشارك كذلك فلسطين بثلاثة أعمال، ففي برنامج «أسبوع النقاد» الذي يُخصص للأفلام الطويلة الأولى أو الثانية لمخرجيها، والذي يتضمن عرض 9 أفلام منها الفيلم الفلسطيني «فيلا توما» من إخراج سها عراف، وهو الفيلم الذي أثيرت حوله ضجة عنيفة بمجرد الإعلان عن مشاركته، بسبب عدم نسب الفيلم إلى إسرائيل على رغم أن مخرجته تلقت دعماً مالياً من عدد من مؤسساتها، إذ اكتفت بأن تذكر أن الفيلم تلقى الدعم في عناوينه فقط. لكن إسرائيل – التي تشارك بثلاثة أفلام خارج المسابقة منها فيلم لعاموس جيتاي - أثار غضبها أن الفيلم لم يقدم في البندقية باسمها، بينما ردت عراف قائلة: «هوية فيلمي غير قابلة للنقاش». على صعيد آخر وفي قسم «آفاق» الذي يتضمن عرض 17 فيلماً – من بينها فيلم محسن مخملباف الجديد «الرئيس» – يعرض فيلم «ثيب» Theeb للمخرج الأردني ناجي أبو نوار. والفيلم إنتاج مشترك بين الأردن والإمارات وقطر وبريطانيا، ويقوم بالتمثيل فيه جاسر عيد وحسن مطلاق وحسين سلامة ومارجي عيوده. في حين يُعرض خارج تلك المسابقة (في تظاهرة آفاق) فيلم إيطالي فلسطيني تسجيلي طويل في عنوان «أنا مع العروس» اشترك في إخراجه الفلسطيني خالد سليمان الناصري مع المخرجين الإيطاليين أنطونيو أوجوجليارو وغابريللي ديل غراندى. هذا إلى جانب فيلم قصير فلسطيني عنوانه «في الوقت الضائع» من إخراج رامي ياسين ومكرم خوري. أما على مستوى التمثيل فتشارك المخرجة اللبنانية نادين لبكي بدور مساعد في فيلم «ثمن الشهرة» – المعروض داخل المسابقة الدولية - للمخرج الفرنسي كزافييه بوفوا الذي فاز فيلمه «عن الآلهة والبشر» بالجائزة الكبري في «كان» 2010. أما الممثل الجزائري الفرنسي الموهوب طاهر رحيمي فيقوم ببطولة فيلم المخرج الألماني التركي فاتح أكين المعنون ب «القطع» (The Cut) الذي يتناول قضية المذابح التركية للأرمن، والفيلم كان مرشحاً للعرض في مسابقة مهرجان «كان» الماضي لكن المخرج عاد وانسحب عازياً الأمر إلى أسباب شخصية. و «أكين» الذي فاز بالدب الذهبي ببرلين عن فيلم Head on، وجائزة أحسن سيناريو في «كان» عن «حافة الجنة» 2007، إضافة إلى جوائز أخرى كثيرة، سبق له أن اشترك بفيلمه الكوميدي الاجتماعي «مطبخ الروح» في دورة 2009 لمهرجان البندقية وفاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، وإن كان بعض النقاد رأى أن الواقع السياسي الذي فرضته تركيا على الشرق الأوسط وقتها هو الذي منحه الجائزة الأخيرة. كذلك للعرب وجود أخير ضمن ورشة عمل القطع النهائي - Final Cut - التي تقام للعام الثاني على التوالي وتستمر على مدار يومين 31 آب، والأول من أيلول حيث تم اختيار ستة أفلام لمخرجين من سورية ولبنانوالأردن ومصر ومدغشقر، إذ تتحصل الأفلام على دعم يساعدها على إتمام العمليات الفنية بعد التصوير. نظرة تاريخية يُذكر أن من بين أهم الجوائز التي حصدتها السينما العربية من مهرجان البندقية، تلك التي حصلت عليها المخرجة اللبنانية الراحلة رندة شهال عندما فاز فيلمها «طيارة ورق» عام 2003 بجائزة الأسد الفضي «جائزة لجنة التحكيم الخاصة» في دروته الستين، وهي الجائزة نفسها التي حصل عليها عبداللطيف كشيش عام 2007 عن فيلمه «كسكس بالسمك» مناصفة مع الفيلم الكندي «لست هناك». وكانت رندة الشهال شاركت في البندقية عام 1996 بفيلمها الروائي الأول «شاشات الرمال»، ثم الفيلم الثاني «متحضرات» عام 1999 والذي فاز بجائزة اليونيسكو، لكن شهال رفضت الجائزة لأنها كانت مشتركة مع المخرج الإسرائيلي عاموس غيتاي. وصرحت وقتها بأنها لا تستطيع أن تشارك مخرجاً إسرائيلياً الجائزة في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي جنوبلبنان، أياً كان موقف غيتاي. كانت جائزة فيلم «طيارة من ورق» أول جائزة للسينما العربية في المهرجان منذ بدايته، وكانت الجائزة الثالثة في المهرجانات الكبرى – كان، برلين، البندقية - في تاريخ السينما العربية، بعد أن فاز محمد الأخضر حامينا عن «وقائع سنوات الجمر» بالسعفة الذهبية عام 1975، وفوز شاهين عام 1979 بالدب الفضي ببرلين عن فيلمه «إسكندرية ليه»، فضلاً عن السعفة الذهبية عن مجمل أعماله عام 1997، ثم جائزة الأسد الذهبي للفنان عمر الشريف من مهرجان البندقية 2003 عن مسيرته الفنية. وكانت جائزة شهال هي الجائزة الدولية الثانية التي يفوز بها صناع السينما في لبنان بعد أن فاز مارون بغدادي بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في «كان» 1991 عن فيلمه الفرنسي «خارج الحياة». أما مصر التي تغيب عن دورة هذا العام – مثل سنوات عدة سابقة - باستثناء فيلم «عندي صورة» ضمن ورشة القطع الأخير للمخرج محمد زيدان، فقد كانت أقدم دولة عربية تشارك في مهرجان البندقية منذ عام 1936 بفيلم «وداد» من بطولة أم كلثوم للمخرج فريتز كرامب من إنتاج ستوديو مصر، ثم توقفت حتى عام 1951 عندما شارك يوسف شاهين بفيلمه «ابن النيل» خارج المسابقة. بعدها اشتركت مصر بأفلام «نساء في حياتي» 1957 لفطين عبدالوهاب و «أنا حرة» 1959 لصلاح أبو سيف، وفي عام 1964 تقدم شاهين بفيلمه «فجر يوم جديد» لكن عندما علم بأنه سيعرض خارج المسابقة رفض وانسحب. وفي عام 1970 شارك شادي عبدالسلام بفيلم «المومياء» لكن المهرجان في ذلك العام كان من دون مسابقة ومن دون جوائز. ثم عاد يوسف شاهين للمشاركة داخل المسابقة الرسمية عام 1982 بفيلم «حدوتة مصرية» وكان بطله نور الشريف مرشحاً بقوة لجائزة أحسن ممثل لكنها ذهبت إلى الممثل الروسي ميخائيل أوليانوف. بعد ذلك، ولأسباب مختلفة بعضها يتعلق بالروتين والموظف البيروقراطي أو مستوى الأفلام، اختفت مصر من على خريطة مهرجان البندقية لما يزيد عن ثلاثة عشر عاماً بعد تكريم صلاح أبو سيف عام 1986 وعرض فيلمه «البداية». إلى أن عادت عام 1999 بفيلم «الأبواب المغلقة» للمخرج عاطف حتاتة الذي اشترك ببرنامج «سينما الحاضر» خارج المسابقة الرسمية للدورة السادسة والخمسين وفاز بجائزة مؤسسة سينما المستقبل «الدوائر ليست مغلقة». ثم عام 2007 شارك يوسف شاهين بفيلمه «هي فوضى» وكذلك «المسافر» لأحمد ماهر 2009 في المسابقة الرسمية من دون تحقيق نتائج. العرب وتحكيم البندقية في دورة البندقية التاسعة والخمسين، عام 2002، وللمرة الأولى تم اختيار ناقد سينمائي عربي هو اللبناني الراحل غسان عبدالخالق لرئاسة تحكيم مسابقة «ضد التيار»، وفي عام 2003 كان الناقد المصري سمير فريد عضو لجنة التحكيم بمسابقة «ضد التيار» أيضاً، بينما ترأس يوسف شاهين لجنة تحكيم مسابقة العمل الأول والثاني عام 2004، والتي منحت في ذلك العام لفيلم «الرحلة الكبرى» للمخرج إسماعيل فروخي (إنتاج مغربي - فرنسي). وفي عام 2007 اشتركت ثلاث مخرجات عربيات في لجان التحكيم المختلفة بالبندقية، هن هالة العبدالله في برنامج «آفاق»، واللبنانية رندة شهال صباغ في مسابقة العمل الأول، والمغربية ياسمين قصاري في مسابقة الأفلام القصيرة. وكان عام 2007 شهد حضوراً عربياً مكثفاً، فإلى جانب المشاركات في المسابقة الرسمية وخارجها وتحكيم ثلاث نساء عربيات، عرض أيضاً 14 فيلماً قصيراً من المغرب في برنامج تكريمي خاص في سابقة أولى من نوعها، وحضرته مجموعة من المخرجين المغاربة. كذلك عُرص في قسم «أيام البندقية» فيلم المخرج اللبناني «فيليب عرقتنجي» «تحت القصف». وإلى جانب جائزة كشيش، فازت أيضاً الممثلة المغربية الشابة حفصية حرزي بجائزة أحسن ممثلة شابة عن «كسكس بالسمك».