كنت حينذاك، وأنا في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، أنتمي الى جيل عجيب، لا استطيع القول انه مخضرم، ذاك انه كان متصلاً بأكثر من جيل: الجيل الذي وضع قدماً في اواخر القرن التاسع عشر وقدماً اخرى في القرن العشرين واليه ينتسب آباؤنا في الأغلب. والجيل الذي عايش اواخر الحقبة العثمانية وأيام الاتحاديين الطورانيين الذين أرادوا تتريك الأمة العربية، على الرغم من ان تركيا عامة غارقة - وما تزال - في الثقافة العربية - الاسلامية، ويكاد اكثر من ربع مفردات لغتها ان يكون عربياً صرفاً. وعاش هذا الجيل في صلب معمعة الكفاح ضد الاحتلال الفرنسي ايضاً ودفع بعضه شيئاً من الثمن هو وأبناء الجيل السابق. وعلى سبيل المثال، فإن رجلاً من اسرتنا في حينا وسط دمشق القديمة تماما: "مئذنة الشحم" هو حمدي البحرة، كان من ابرز رجال عصابة "حسن الخراط" التي قادت النضال ضد الوجود الفرنسي في دمشق وغوطتها الشرقية اواخر سنة 1925، وأصيب خلال القتال عدة اصابات احداها كانت في ساقه. وكاد يعلّق على حبل المشنقة، بعد اتهامه بلغم ونسف "جسر المطيّر" قرب قرية المليحة، ليمنع القوات الفرنسية من عبوره وملاحقة الثوار المتوارين خلف الاشجار الكثيفة الملتفة هناك في الازوار وأحدها يدعى: الزور المترامية بين ذلك الجسر، وبين "جسرين" و"كفربطنا" و"عين ترما" وسواها... مروراً بالقابون وبرزة وقرى الغوطة الاخرى... حتى دوما. وأخي الأكبر مصطفى - المولود عام 1923 - كان بين المعتقلين عام 1941 بتهمة الهجوم على احد الضباط الفرنسيين، أمام متحف دمشق. وكنت كتبت قصة قصيرة حول سجنه ومحاكمته نشرتها في مجموعتي الأولى الصادرة عام 1957 في دمشق بعنوان "هل تدمع العيون". وشقيق زوجتي الأكبر هشام حمادة، وهو من الجيل نفسه، اعتقل ايضاً في المناسبة ذاتها - يا للمصادفة - لكنه أمضى زمناً اطول في السجن، لأن التهمة التي وجهها المدعي العام الفرنسي له... كانت أكبر. وجيلنا أدرك بعض الشيء اواخر عهد الاحتلال، وشارك على قدر استطاعته في التظاهرات التي قامت في النصف الأول من الاربعينات، منادية بالجلاء والاستقلال وإنشاء الجيش السوري. أذكر انني كنت في الصف الثالث الابتدائي سنة 1943 في مدرسة "أبي العلاء المعري" في حي القيمرية القديم جداً في دمشق - يدعى احياناً الهند الصغيرة لوفرة التجار بين سكانه - يوم شاركت مع تلاميذ المدرسة في التظاهرات ضد الفرنسيين، وكان معلمونا يشجعوننا على ذلك. وفي السنة التالية علمنا استاذ الموسيقى شوكت الطرزي - وهو نفسه صار مدرس رياضيات في ما بعد - اناشيد وطنية، ما زلت احفظها مع الحانها حتى الآن، من مثل "موطني" و"نحن الشباب" و"في سبيل المجد"... الخ. ووصلت تظاهرتنا في أيار 1945 حتى تخوم ساحة الشهداء "المرجة" وقابلتنا القوات الفرنسية - نحن الصغار - بالرصاص فتفرقنا. وبعد أيام في 29 ايار مايو وقع العدوان الكبير على المجلس النيابي، وشبت الثورة التي شملت انحاء سورية كافة، وانتهت بالجلاء. في تلك السنة: 1952 التي يتوقف الذهن امام اوراقها، يريد ان يلم شمل الذكريات، وان ينفض غبار العمر المتراكم عليها، كانت اهتمامات معظم جيلنا موزعة بين أمور ثلاثة: السياسة والمرأة والثقافة. ذاك ان الاحداث السياسية والعسكرية التي عايشناها قطرياً وقومياً، بما في ذلك الوجود الفرنسي ونكبة فلسطين وكوارث الانقلابات العسكرية التي تتالت على سورية منذ عام 1949، جعلت من السياسة خبزنا اليومي. واندغم هذا الاهتمام بالهم الثقافي، حتى كاد الاثنان ان يكونا واحداً، لدى المحازبين، خصوصاً الشيوعيين والبعثيين. ومع انني لم انتم رسمياً الى اي حزب طوال سنوات دراستي حتى تخرجي من دار المعلمين سنة 1953، الا انني اطلعت على افكار الاحزاب الهامة في سورية كافة بدءاً بالسوريين القوميين الاجتماعيين، وقد تعاطفت معهم كثيراً اثر اغتيال - او اعدام زعيمهم انطون سعادة عام 1949، وهو الذي ما أزال اكنّ له الاحترام. ومررت بتجربة البعث من خلال صداقتي مع عدد من الزملاء البعثيين في دار المعلمين، وكان بينهم من امسوا رجال دولة بعد تسلّم الحزب السلطة في سورية. اختلفت مع هؤلاء الاصدقاء حول موضوع الاشتراكية، إذ انه لم يكن واضحاً محدداً في ذلك الزمن، مثلما غدا الحال بعد المؤتمر القومي السادس عام 1964 الذي تبنى الاشتراكية العلمية صراحة. كانت الرقابة على الكتب المطبوعة والمستوردة يومذاك مشدّدة. وكان في اطار السلطة الزعيم العميد فوزي سلو، وفي مضمونها العقيد اديب الشيشكلي الذي أضحى رئيس الدولة في السنة التالية 1953 - والقلة القليلة من الكتب الماركسية المطبوعة في بيروت في دار القلم او دار العلم للملايين او دار الفارابي مثل كتاب ستالين "اسس اللينينية" وكتاب الدكتور جورج حنا "ضجة في صف الفلسفة".. كانت ممنوعة. حتى الأعمال الادبية الروائية ذات الطابع اليساري كانت ممنوعة ايضاً مثل كتاب "والفولاذ سقيناه" لنيكولاي اوستروفسكي. مع ذلك فإنني استطعت الاطلاع على الافكار الرئيسية العامة في كتاب كارل ماركس "رأس المال" خصوصاً نظريته في فضل القيمة، عبر قراءتي بعض كتب التاريخ المدرسية التي كانت تنقدها، ولا سيما كتاب "تاريخ الحضارات" للأستاذين شاكر مصطفى وأنور الرفاعي. وكان الأول يدرسنا الجغرافيا والتاريخ في دار المعلمين. وبلغ تعاطفي مع الشيوعيين في المعهد انني ساهمت في مؤامرة صغيرة - على رغم انني لست حزبياً - مؤداها ان نبكر في المجيء صباح اليوم التالي، للصق منشور... في لوحة الاعلانات. كانت مهمتي عندئذ المراقبة.. خوف قدوم احد من الاداريين او الطلاب الآخرين. يومذاك قامت تظاهرات شملت معظم المدن السورية ضد "الديكتاتور" الشيشكلي سار فيها الشيوعيون والبعثيون جنباً الى جنب، وقد تناقلنا بيننا نحن الطلاب موقف مدير المعهد المعروف بمواقفه الوطنية منذ ايام الاحتلال الفرنسي الاستاذ بكري قدورة، اذ رفض دخول رجال الشرطة الى المدرسة، وكان على رأسهم العقيد فؤاد الأسود، لاعتقال بعض الطلاب المشاركين في احدى التظاهرات. ولكن بعض زملائنا نقلوا الى معهد حلب، وأتى الينا زملاء جدد من حلب... وربما كان هذا نوعاً من المصالحة بين المدير وبين الشرطة: Compromise. في هذه الفترة أنشأ العقيد الشيشكلي حزباً سياسياً جديداً دعاه "حركة التحرير العربي" وقد اعلن عن قيامه، في مبنى أنشئ حديثاً، يطل على ساحة في نهاية شارع بغداد. وقد أمسى المبنى مقر كلية الفنون الجميلة - قبل انتقالها الى البرامكة - ودعيت الساحة ولا تزال "ساحة التحرير". كان بيتنا حينذاك في حي "القيمرية" وكنت أستطيع ان أصل اليه، من مركز المدينة اي ساحة الشهداء، عبر احد طريقين، الأول يمر من سوق الحميدية، فسوق القباقبية المجاور للجامع الأموي. والثاني اسلكه عن طريق شارع بغداد فباب توما. وقد خطر لي هكذا، في ذلك اليوم، والساعة تقترب من الخامسة مساء، ان امر بهذا الطريق. صادفت هناك بعض الاصحاب فأخبرني ان العقيد الشيشكلي غادر الشرفة قبل قليل. والتقيت ايضاً بواحد من أقربائي الأكبر عمراً وتجربة، وهو ليس منتمياً الى اي حزب، لكن لديه نزوعات ديموقراطية ويسارية. وكنت احب الاصغاء الى احاديثه التي تتراكم فيها تجارب السنين، قال لي: تصور انهم يريدون اجبار الموظفين جميعاً على الانتساب الى حركة التحرير. وأضاف ضاحكاً متهكماً مشيراً الى معلم من عائلتنا انتهازي: صاحبنا جاهز للانتساب... وربما بادرالى تقديم الطلب... في تلك الأيام كانت دمشق تتناقل اخبار الاعتقالات بين البعثيين والشيوعيين، وهي التي امر بها العقيد بالطبع. وقد أبقي بعض المعتقلين في سجن المزة العسكري، وسيق آخرون الى سجن تدمر. وبعد سنوات غير كثيرة تعرفت الى عدد من هؤلاء المعتقلين من كلا الحزبين، وقد وصل بعضهم من البعثيين الى مناصب عليا. تحدثت دمشق ايضاً للمرة الثانية عن تعذيب السجناء السياسيين. المرة الأولى كانت ايام الزعيم "العميد" حسني الزعيم الذي لم يعمّر انقلابه ورئاسته الدولة سوى ستة أشهر وبضعة أيام. وكان الناس يروون عن "حركاته" قصصاً في منتهى الطرافة. منها مثلا انه حين رشح نفسه لرئاسة الدولة، كلف رجال عسيسه من جماعة "المكتب الثاني" كما كانت تدعى المخابرات العسكرية، بأن يراقبوا خصومه الكبار في المدن السورية خصوصاً دمشق وحلب، ويخبروه ان كانوا قد اقبلوا على صناديق الاقتراع ام لم يفعلوا. وجاءه خبر يفيد ان السيد احمد قنبر من حزب الشعب - المتهم بأنه يمثل الاقطاعيين سياسياً - في حلب لم ينتخبه ولم يغادر منزله. فأمر حسني الزعيم بأن يؤتى به من منزله في حلب ليلاً، دون اعطائه فرصة ارتداء ثيابه الرسمية. وجاءت بأحمد قنبر سيارة "جيب" عسكرية مسرعة، وصلت بعد منتصف الليل الى مقر اقامة الزعيم حسني. وأدخل الرجل عليه، فتأمله في غيظ وكراهية واحتقار ملياً، ونقل نظراته اليه من أعلى الى اسفل وبالعكس، ثم قال: "يعني ان انتخبتني... وإن ما انتخبتني... اي ل ... انقلع...". وسأله احمد قنبر: أمن أجل هذه الشتيمة جئت بي من حلب؟! أما كان في الامكان ارسالها في التلفون؟ ودون ان ينظر اليه حسني الزعيم عاد يردد: انقلع.. او بحطّك في المزة. المرة الثانية التي عذب فيها السجناء السياسيون، في تاريخ سورية بعد الاستقلال والجلاء، كانت في هذه السنة ايضاً 1952، فيما الشيشكلي يأخذ عدته للتخلص من خصومه السياسيين، وقد تمثلوا بحزب البعث العربي والحزب العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي، كأنه كان يتصور ان حزباً من الانتهازيين والمرتزقة، مثل حزب "حركة التحرير العربي" يقدر ان يملأ حياة سورية السياسية. سمعنا تلك الأيام بقلع الأظافر والسحل والصلب في تدمر، اضافة الى أساليب التعذيب التقليدية مثل الفلقة والكهرباء... الخ. تعود الى الروح والقلب الآن حرارة ذلك الزمن البعيد، وكأن كل شيء كان بالأمس القريب، وليست سنوات كثيرة تنوف على الأربعين تفصل ما بيننا. يا الله، كأنها هي نفسها بمنديلها الفستقي اللطيف، قادمة تتهادى من بيتها في باب الجابية، سالكة الطريق الطويل في شارع مدحت باشا - الشارع المستقيم نفسه - نحو مدرستها في مكتب عنبر، وأنا في انتظارها أتمشى في هدوء بالاتجاه المعاكس. كل ما أبغيه نظرة خاطفة عجلى، تختزل حلماً احلم به في الليل والنهار، وتكفي لأن تجعل قلبي يخفق في قوة... خفقاناً أخشى ان يسمعه الآخرون. كأنني أراها قادمة في الطريق نفسه، في حراسة خالها، بعد ان بلغ اسرتها نبأ علاقتها بي، فإذا هو يوصلها حتى باب مدرستها، ليعود معها الى البيت وقت الانصراف. وما الذي كان بيننا؟ انه شيء يشبه ما كان بين جميل وبين بثينة "لو أبصره الواشي لقرّت بلابله": بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى وبالأمل المرجو، قد خاب آمله وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضي أواخره، لا نلتقي وأوائله بلى... كانت لقاءات نادرة. كيف؟! كان ثمة زقاق يبعد امتاراً معدودة عن مدرستها "بكتب عنبر" يدعى "زقاق الحمراوي" لا يتجاوز طوله امتاراً معدودة ايضاً. وأحد جداريه هو احد جدران قصر العظم أيضاً. وجاء من يسميه تلك الأيام زقاق العشاق. وقد كنا نغتنم فرصة قصر النهار التي يوفرها فصل الشتاء، فتعتم الدنيا بعيد الساعة الرابعة بعد الظهر، ويهبط الليل سريعاً، فلا تعود العين في تلك الغبشة تميز جيداً احداً من احد. وفي هذه الاثناء يسعدني انني اسير معها لدقيقة او ثلاث، وربما امسكت يدها، وربما قلت كلمتين ملهوجتين. في ما عدا ذلك، كانت الرسائل المتبادلة، هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على حرارة هذه العلاقة العذرية حقاً، بكل ما في الكلمة من معنى. وكانت احدى قريباتي زميلتها في المدرسة تقوم بدور الرسول بيننا. في عطلة الصيف كنت أُحرم من رؤيتها تماماً. فماذا كنت اصنع؟ اذهب الى الحي الذي يقع فيه بيتها "باب الجابية"، فأطوف حول الزقاق الذي يضم باب الدار، ومن فوقه شباكان، أقول في نفسي: لعلها تطل.. فأراها. لكنها ما اطلت... مرة، على انني صادفتها مرة او اثنتين عائدة الى المنزل، في صحبة بعض اهلها... عند مشارف الحي. فعدت الى المنزل اطير فرحاً. بلى لقد رمتني بنظرة فيها كل حنان الأرض... وابتسمت. عيناها كانتا تبتسمان أيضاً. ... بلى، لقد لقيتها في منزل قريبتي هذه تلك السنة 1952 مرتين، وكانت هذه تقيم مع اختها الموظفة، بعيداً عن منزل أبيها... وزوجته التي هي غير امها. وكان وراء اللقاءين سر، فقد أمست حبيبتي مخطوبة، وإذاً، فان الرقابة خففت عنها، وصار في امكانها التحرك في شيء من الحرية. لم أتمكن من منافسة الخاطب او الخطيب العتيد، لأنني كنت ما ازال طالب مدرسة، وليس عندي منزل مؤثث او غير مؤثث. وما لي مرتّب انفق منه على البيت والزوجة. وليس موفوراً بين يديّ ذلك اليوم - ولا... في غده - صداق الحبيبة. وما كنت وحدي في هذه الحال، ذاك ان معظم ابناء جيلي كانوا كذلك، ولهذا فإن احداً منهم لم يتزوج ممن يحب. سرعان ما كان يأتي من يخطف الحبيبة، لا سيما تلك التي هي على شيء من الجمال والحسن، وقد يكون هذا الرجل تاجراً ميسوراً، وقد يكون موظفاً امضى سنوات في عمله، او مدرساً خرجته الجامعة قبل زمان يكفي ان يعد للزواج عدة حسنة. وكان الناس يعدّون الفتاة التي جاوزت ربيعها الثامن عشر دون زواج عانساً. وهناك من ينزل سنتين أخريين... او اكثر. وكثيرات اولئك اللواتي تزوجن بعد البلوغ مباشرة. وكانت جدتي رحمها الله قد ذكرت انها زفت الى جدي لأمي وهي في سنتها الحادية عشرة!! ... كانت مخطوبة حبيبتي اذاً، يوم التقيت بها، في حضور زميلتها قريبتي، وكان اللقاءان للوداع. على ان المفاجأة كانت بعد أيام، فقد وصلتني الى المنزل رسالة منها ما أزال محتفظاً بها مع رسائلها جميعاً، تطلب فيها ان أودع هذه الرسائل كلها مع صورتيها، في منزل صديقتها رسول الحب بيننا، وكان في الرسالة إلحاح عجيب على هذا الأمر. ما القصة؟ كان بعض الشبان العابثين في ذلك العهد، يعوّلون على الانتقام من حبيباتهم اللاتي تركنهم وأمسين مخطوبات لآخرين. وهكذا فانهم كانوا يقدمون لهم رسائلهن اليهم... ومعها كل ما يمكن من الوثائق التي تؤكد علاقة الحب التي كانت قائمة. فإذا كان الخاطب احمق لا ثقة له بنفسه وبخطيبته... فسخ الخطوبة. وهذا ما كانت تخشاه الحبيبة اذاً! وعلى الرغم من ان هذا الخاطر الشرير لم يطف في بالي، فانني لم أُعد رسائلها. وبقيت معي، ارجع اليها بين وقت وآخر، فأتذكر زماناً عجيباً مضى، وأتذكر نفسي وأتذكرها... وأتذكر طريقها من باب الجابية، عبر مدحت باشا، الى مكتب عنبر، والخال بطربوشه القصير وعينيه الضعيفتين شبه المغمضتين، وهو يرافقها تحت المطر ذهاباً وإياباً. أتذكر منديلها الفستقي، ونظرتها الجميلة الدافئة، ومشيتها المتهادية في دل وخفر. أرى نفسي معها في زقاق الحمراوي. أراني وحدي اطوف في الصيف حول بيتها. في تلك السنة بدأت صلتي بالاذاعة والصحافة، وتعززت علاقتي بالأدب والقصة والشعر. وبدأت اشعر ان الأمر ليس هواية أو شيئاً عابراً. اتذكر الآن اسماء كثيرة من الفتيان والشبان الذين عرفتهم من خلال محاولاتهم الأدبية، فأرى ان اكثرهم ابتعدوا عن الساحة، ووجدوا لأنفسهم أعمالاً في مهن اخرى اكثر جدوى من الأدب الذي لا يطعم خبزاً، كما كان - وربما لا يزال - شائعاً بين الناس العمليين او البراغماتيين، هؤلاء الذين يقدّرون قيم الأشياء، من خلال جدواها المادية ومردودها المالي. وأعود الى بضعة الأعداد من مجلة "الشعلة" التي اصدرناها في تلك السنة 1952، نحن الأصحاب المتحمسين للأدب والنشر، لأستعيد تلك الصورة العجيبة الجميلة. كان معنا عادل ابو شنب الكاتب والصحافي المعروف، ومنذر النفوري مخرج التلفزيون في المملكة العربية السعودية، وصلاح الدين القدومي الذي غادرنا قبل ان يتمكن من ان يصنع شيئاً، وبشير بوارشي الصحافي المقيم في الكويت، والذي كان اكثرنا يسراً فأنفق على المجلة التي صدرت دون امتياز... لكن كملحق لصحيفة "العمال" التي كانت تصدر عن اتحاد العمال ومركزه حي القنوات في دمشق وكان رئيس تحريرها صبحي الخطيب. معظم الذين تحدثت عن بداياتهم راسلونا وبعثوا بقصصهم ومقالاتهم إلى المجلة. وأمامي أكثر من صفحتين للبريد الذي ذُكرت فيه اسماؤهم، وصفحات أخرى نُشر فيها نتاجهم. فكم كنا... وكانوا متحمسين للكتابة والأدب، وكم كان المستقبل واعداً، وكم كانت الآمال المعقودة عليه كبيرة؟! عدت لا اذكر الآن كيف ذهبت للمرة الأولى إلى الاذاعة حينذاك. ولكنني اتذكر جيداً صاحب ذلك الوجه الوسيم والصوت الرخيم الشاعر الفلسطيني عصام حماد. وكان يقدم برنامجاً اذاعياً اسبوعياً اسمه "ركن الطلبة"، فنتواعد في دار الاذاعة القديمة في شارع النصر، ونرتقي الدرج إلى الطابق الثاني فنلتقي بمعد البرنامج ومقدمه ونعرض عليه ما في جعبتنا، فينخل ويغربل ويُجري لنا بعض الاختبارات والتمارين، ثم يقودنا إلى استوديو الاذاعة الكبير، حيث يتدلى المايكروفون من السقف، ويشتعل ضوء أحمر فنصمت، ثم ينطفئ ويضيء الأخضر فنأخذ راحتنا. وكان الضوء الأحمر يعني أن يتقدم صاحب الدور ليقدم مادته. وكنت أنا وقتها متخصصاً في تقديم التمثيليات التاريخية، اذكر منها "يوم ذي قار" و"وقعة القادسية" فكنت الممثل والمخرج والمعد، ومعي نفر من أصحابي الطلاب الثانويين أدربهم على أدوارهم في منزلنا بالقيمرية. في هذه الأثناء أسعدني الحظ بالتعرف على كبير مذيعي سورية، صاحب الصوت الجميل الذي يمسّ شغاف القلب - تقلب بعد ذلك في مناصب عليا متعددة - الاستاذ يحيى الشهابي، والشاعر الفلسطيني حسن البحيري والكاتب نسيب الاختيار. وشاركت أيضاً في بعض أعمال "نادي الفنون الجميلة" الذي أنشأه في منزله عام 1930 الفنان المصور الضوئي وصفي المالح، على أن تضم نشاطاته الفنون كافة: الرسم الزيتي ويمثله بين أعضائه المصور الزيتي السوري الرائد توفيق طارق، والموسيقى وكان مِنْ ممثليها الموسيقيان المعروفان توفيق الصباغ ومصطفى الصواف، والتمثيل وكان رئيس فرعه في النادي توفيق العطري، خال الممثل المعروف نهاد قلعي. وبين الأعمال التمثيلية التي شاركت في تسجيلها تلك السنة مسرحية الشاعر عزيز أباظة "العباسة" وهي التي تروي حكاية نكبة البرامكة. وقد تبنى الشاعر النظرية القائلة إن وراء النكبة قصة غرام بين العباسة شقيقة الرشيد وبين وزيره جعفر البرمكي، غضب الخليفة هارون الرشيد أيما غضب حين علم بها. كنا نجري التمرينات في إحدى غرف النادي - وهو منزل وصفي المالح الذي أمضى حياته راهباً في محراب الفن دون زواج - فأشعر برهبة وتهيب كبيرين، وأنا أرى نفسي صغيراً جداً بين أولئك الكبار الأساتذة توفيق العطري وأكرم خلفي ووصفي المالح. كان ثمة شاب وشابة، لكنهما كانا من رواد النادي غير الطارئين مثلي: ياسر المالح الكاتب المعروف وكروان المطربة المشهورة. ... في الآن ذاته، كنت أمارس هذه الهواية مسرحياً في معهدنا "دار المعلمين"، فإن أحد الطلاب القدامى - وهو أيضاً من تلاميذ الرائد المسرحي السوري عبدالوهاب أبو السعود - شكّل من طلاب المعهد فرقة مسرحية تحمل اسم أبي السعود. وكان هذا هو عدنان السوري مخرج الفرقة أيضاً. وكان من المقرر في السنة التالية 1953 ان يحضر العقيد أديب الشيشكلي الذي غدا رئيس الجمهورية، أحد عروض فرقتنا. لكن أمراً ما منعه من ذلك. أما التمثيليات التي شاركت في أدوارها، فهي جميعاً مسرحيات من تأليف عبدالوهاب أبو السعود، ومعظمها من فصل واحد مثل "فندق أبو شالوح" و"عنترة وفتى العصر" و"أرقم في جهنم"، المسرحية الوحيدة ذات الثلاثة فصول، ودرة أعمال الفرقة، هي "وامعتصماه" وكان عمادها نخوة المعتصم، عندما بلغته استغاثة تلك السيدة الهاشمية من الغزاة الروم صائحة: وامعتصماه، فجيّش الجيوش وانطلق ليؤدب الروم في المعارك المشهورة التي خلدها أبو تمام، وهي من تأليف عبدالوهاب أبو السعود، وقد نشرت كتاباً. كانت السنة الدراسية - ولا زالت - تتوزع بين نصفين، يقع الأول في السنة السالفة، ويتبع الثاني السنة التالية. وبين هاتين السنتين: 1952-1953، كنت قد وصلت إلى الصف الثالث المنتهي في معهد دار المعلمين، ويجيء في الترتيب الدراسي حينذاك، فوق شهادة الدراسة الثانوية "البكالوريا" بسنة واحدة، ذاك ان هذه الشهادة تستغرق سنتين فحسب في ذلك المعهد... كان بين أعز الأصدقاء في ذلك الزمن، زميلي في مقعد الدراسة ممدوح حمدي "أباظة". وكنت أتجول وإياه بين البساتين التي يطل عليها معهدنا - حالياً: الشارع أمام القيادة القطرية في دمشق - وهي نفسها التي عاش فيها المعلم الثاني الفيلسوف العربي - الإسلامي الكبير أبو نصر الفارابي يوم كان في دمشق: 260-339ه 874-950م فنتحدث في مختلف شؤون الحياة والسياسة وآمال المستقبل. وكان يتقن اللغة التركية مثل كثيرين من الشراكسة، مثلما يتقن أداء الأغاني التركية بصوته الرخيم ذي النبرة الرجولية. وما تزال في الذاكرة اغنية "تشناقلعة" بكلماتها... كما كان يغنيها رحمه الله. اتفقنا يومذاك أن ندخل معاً الكلية الجوية. وقد فعل هو ووصل إلى رتبة لواء طيار، وهذه كانت رتبته عندما استشهد أمام مبنى آمرية القوة الجوية، نتيجة انفجار سياسة مفخخة دبره "الاخوان المسلمون" عام 1982. ومن المفارقات العجيبة أن مبنى الآمرية هذا يقع لصق معهدنا ذاك الذي بات مقراً للقيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي. وقفت أسأل نفسي: ماذا أريد من زمني؟ هل يمكن ان ينتهي طموحي ضابطاً عسكرياً تلمع النجوم على كتفيه، أو معلم مدرسة يمضي عمره بين السبورة والطباشير وبين مقاعد التلاميذ، صحافياً يشتغل في هذه الصحيفة أو ذاك، أو كاتباً قاصاً شاعراً يدع الدنيا كلها، بما فيها من اغراءات ومنافع عاجلة سريعة الجنى وراء ظهره، لينصرف إلى الابداع والأدب؟ وكان قراري حاسماً: أن يكون التعليم مهنة استعين بها على العيش، وتساعدني في الانصراف إلى قلمي وأوراقي. وربما كان بين ما منعني من الانخراط في السلك العسكري، أنه لم يكن مسموحاً للعسكريين منذ أيام الشيشكلي حتى عام 1963 الاشتغال في السياسة أو الادب. بل ان هذا الرجل جعل حتى الانتساب إلى الجامعة السورية محظوراً على قطاع واسع من الشعب، هو فئات الموظفين. ولذلك فإنني تأخرت بعد تخرجي في المعهد في الانتساب إلى الجامعة إلى ما بعد رحيل الشيشكلي. كان ارتباطي بالصحافة والأدب قد أضحى قضية في منتهى الجدية، فبدأت صلاتي بصحف دمشق اليومية. وفي الآن ذاته، كانت التجمعات الثقافية والأدبية الطلابية كثيرة في دمشق - على رعم النظام الديكتاتوري - إلى درجة أن أحد هذه التجمعات دعا القاص المصري الكبير محمود تيمور إلى زيارة دمشق - على نفقته بالطبع ! - وقد لبى هذه الدعوة. نشرت مقالاتي الأولى في صحيفة "العمال" التي كان يرأس تحريرها النقابي صبحي الخطيب، و"الصرخة" التي يصدرها ويرأس تحريرها أحمد علوش، و"النضال" التي يرأس تحريرها الدكتور سامي كبارة، وهو بين قلة من صحافيي سورية، كانت جريدته تباع حباً في قراءة الافتتاحية التي كان يكتبها في الأربعينات خاصة... الخ. أما قصصي والأشعار العمودية التي كنت أكتبها فقد كنت أنشرها في مجلة "الرقيب" الأسبوعية. في الواقع فإن صاحب هذه المجلة ورئيس تحريرها الاستاذ عثمان شحرور تعاطف معي وعاملني معاملة خاصة حين عرف انني ابن "سعيد البحرة" ذاك أنه عمل معه في صحيفة "الجزيرة" يوم كان أبي قد اشترى امتيازها ورأس تحريرها في بعض ثلاثينات هذا القرن. وعرفت في هذه الأثناء ان بعض مشاهير الصحافيين والكتّاب في دمشق عملوا في تلك الجريدة مثل نشأت التغلبي وسعيد الجزائري، والدكتور كاظم الداغستاني وصلاح الدين المحايري... الخ. كانت "الجزيرة" لسان حال "حزب الشعب" المعارض الذي يرأسه الدكتور عبدالرحمن الشهبندر، وكان والدي صديق الشهبندر ومن حزبه حتى حين صار محازبوه يدعون "الشهبندريين". غير ان جماعة "الكتلة الوطنية" الذين صار اسمهم بعد ذلك "الحزب الوطني" حاربوا "الجزيرة" حتى أوصلوها إلى درجة الافلاس والتوقف. نشطت تلك السنة أيضاً في النشر في مجلة المعهد التي كانت تصدر مرتين في السنة باسم "صوت دار المعلمين" وبين يدي الآن عددان صدرا ذلك العام: 1952-1953. أحب أن أقف عندهما قليلاً. في الصفحة الثانية من المجلة اسماء اعضاء هيئة التحرير وهم ثلاثة من طلاب المعهد، استقالوا في ما بعد نهائياً من الكتابة والصحافة والنشر. أحدهم أمضى حياته معلماً وهو الآن متقاعد. والثاني نسيت حتى شكل وجهه تماماً. أما الثالث فإن آخر عهدي به قبل سنوات بعيدة، أنه ترك التعليم وعمل في الأمن العام. أما الطلاب الآخرون الذين نشروا مواد ذكرت مع اسمائهم في فهرست المجلة، فقد كان بينهم من غدا كاتباً معروفاً مثل عبداللطيف الأرناؤوط، ومنهم من بدل مهنته تبديلاً، فأمسى مهندساً مدنياً مثل الدكتور أحمد الغفري. لكنه عاد أخيراً إلى الكتابة من باب آخر، فهو رئيس تحرير جريدة للحزب الشيوعي تدعى "نضال الشعب" - جناح يوسف فيصل. وبينهم من كان شاعراً موهوباً مثل شوقي جلول، لكنه لم يصمد أمام ضغوط الحياة فابتعد عن الساحة. وهناك بين الزملاء القدامى من أصبح ضابطاً في الجيش السوري، ثم أنهى خدمته متقاعداً، وعاد إلى الكتابة من جديد، مثل: عبدالوهاب المدور وهاني الصوفي. وثمة بين هؤلاء الكتّاب، من ارتقى حتى وصل إلى مناصب عليا في الدولة رئيساً لمجلس الوزراء ورئيساً لمجلس الشعب كالصديق العزيز محمد علي الحلبي. أما أساتذتنا الذين وردت أسماؤهم في فهرست هذه المجلة، فإن منهم مدرسين جاؤوا معارين من مصر الشقيقة مثل صفي الدين العزاوي - استاذ الزراعة، وتوفيق الحديدي استاذ التربية... وبين السوريين حقي المحتسب استاذ اللغة العربية الكبير الذي انتقل إلى التدريس في الجامعة السورية، ثم قضى نحبه منتحراً في ظروف غامضة، وراتب الحسامي رئيس تحرير أول جريدة سورية صدرت في عهد الوحدة بين سورية وبين مصر هي "الوحدة" وكان عضواً في حزب الشعب وممثلاً عنه في البرلمان السوري، والدكتور عزة النص الذي كان رئيس وزراء في أيام الانفصال. ثم ماذا بعد؟ كانت تلك الفترة مهمة جداً وحاسمة إلى أقصى حد في حياتي، تحددت فيها ملامح المستقبل الذي كنت انتظره أو ينتظرني. فلو قدر لي أن اختارها - حياتي - من جديد، فهل كنت أعيدها مثلما كانت؟ خطر لي يوماً أن أقول لا. لن أعيد حياتي سيرتها الأولى مرة ثانية، فما دامت أمامي فرصة للافادة من دروس الخطأ والصواب، مما تعرضت إليه في ما بعد، فماذا يمنع أن اتنكب، لأعيش حياة صحيحة سليمة تماماً؟ لكن... تراني استطيع ذلك. هل أقدر أن أعيش بلا اغلاط وأخطاء، ألا يخطئ القلب، ألا يخطئ العقل. ولو افترضنا أن العقل لا يخطئ إن أخطأ القلب، أفلا يعني ذلك ان يعيش الإنسان أشبه بكائن آلي مبرمج؟ وإذا كانت الحرية هي في جوهرها قدرة على الاختيار، كما يرى جان بول سارتر، فهل يقدر الانسان ان يختار دائماً؟! أو لا يبدو محكوماً في بعض الأحيان بنوع من القسر أو الجبرية Determination لا قبل له في مواجهته... أو زحزحته؟! لقد نقش الاغريق على باب معبد دلفي حكة تقول: "اعرف نفسك بنفسك" فهل تراني عرفت بعد هذه الأعوام نفسي، وأنا الآن في الخامسة والستين من سنوات العمر؟ كانت جدتي أم رشيد رحمها الله تقول: "يا ولد! ابن آدم مفطور على الخطأ". وفي الحقيقة، فإنني أدرك الآن مغزى كلماتها، ذاك ان السنوات الماضية كانت كفيلة أن تضع يدي على جدلية الصواب والخطأ. ومن أجل هذا فإنني أقول في صدق: لو خيّرت لما اخترت لنفسي حياة ثانية غير التي تلت وعشتها بما فيها من صواب وخطأ، من حب وكراهية، فكم أحب أن أكون حقيقياً. كاتب سوري