يقال أن المخرج المصري توفيق صالح أعجز كل الذين قصدوه وتمنوا عليه العودة الى اخراج الأفلام. بين هؤلاء يوسف شاهين وحسين القلا وسمير فريد. ثلاثة يمثلون ثلاثة حقول للعمل السينمائي: الإخراج والإنتاج والنقد. ويقال أيضاً أن المخرج صالح، صاحب انجازات فنية رائعة سابقاً آخرها "المخدوعون" ومنها "يوميات نائب في الأرياف" و"المتمردون"، اقترب ذات مرة من العودة الفعلية فنفض الغبار عن رواية قصيرة لنجيب محفوظ وأعدّ سيناريو عنها. وفي مرة أخرى أعاد كتابة سيناريو أبدى المنتج حسين القلا استعداده الكامل لتمويله، وكاد أن يبدأ التصوير، لكنه تراجع عندما بدا أن كل شيء صار جاهزاً لذلك. ربما كانت هناك عوائق نفسية تحول دون عودة المخرج. ربما فقد توفيق صالح تلك الحماسة التي عرفها في الستينات، لكن السؤال هو إذا ما كان فقد أيضاً موهبته. كثيرون قد يرون أنه من الصعب أن تنضب الموهبة لدى صاحبها، لكن صحّة هذا الرأي، أو عدم صحّته، قد تكون نسبية. ربما بعض المواهب لا تنطوي مع الأيام وبعضها الآخر يبقى محفوراً بصرف النظر عن المدة التي يمضيها المرء بعيداً عن العمل. هذا ما على المخرج أن يبرهنه على هذا النحو أو ذاك. فغياب توفيق صالح ليس من حقه حتى ولو اعتقد ذلك لأن الموهبة الفردية تصبح من حق الجميع لأنها خلقت لأن تكون كذلك. ترنس مالك، وهو سينمائي من تكساس، كان في الثامنة والعشرين عندما حقق فيلمه الروائي الأول "بادلاندز" 1973 وفي الثالثة والثلاثين عندما أنجز فيلمه الثاني "أيام الفردوس" 1978 عاكساً في هذين الفيلمين موهبة جلية. بعد الفيلم الثاني، توقف مالك عن العمل. اختفى عشرين سنة قبل أن يطل على نحو لا يخلو من المفاجأة ويحقق تحفته السينمائية الثالثة "الخيط الأحمر الرفيع". إذا كانت الموهبة حاجة تصدأ نتيجة عدم الاستعمال، فإن الوضع مختلف تماماً هنا. مع كل ما في عملي مالك السابقين من جمال وجرأة في طرح أسلوب رؤيوي مختلف، إلا أن فيلمه الثالث الجديد يتجاوزهما. ولد مالك في العام 1945 لأب يعمل في آبار النفط، وأبوه كان يؤمن بالتحصيل الدراسي فبعث بإبنه الى جامعة هارفارد حيث تعلق ترنس بالفلسفة وانتهج، وهو لا يزال في مطلع شبابه، منهج الكتابات الفكرية ونشر بعضها صحافياً. هذا من قبل أن يترك الشرق الأميركي ويؤم معهد الفيلم الأميركي في لوس أنجيليس حيث كتب سيناريو فيلم "نقود للجيب". وهو وسترن حديث من اخراج ستيوارت روزنبرغ عرض في بيروت، من دون نجاح يذكر، في العام 1973، أي بينما ذهب مالك لإخراج فيلمه الأول. "بادلاندز"، مع مارتن شين وسيسي سباسيك، مقتبس عن أحداث حقيقية وقعت في تكساس في العام 1958، ولو أن المخرج نقلها الى ولاية ساوث داكوتا: شاب وفتاة ينطلقان في حمى سلسلة غير مبررة من عمليات القتل لمجرد أن الشاب يكره المجتمع الذي يعيش فيه وينتقد عدم اكتراثه له. لم تكن غاية مالك اعادة سرد الأحداث بحد ذاتها، بل استغلالها لمشاهد تبلور المواقف من دون تعليق من جانبه. "أيام الفردوس" تقع أحداثه في تكساس. هي أيضاً تبدأ بجريمة قتل، ولو كانت عرضية، لكنها تشق طريقها مبتعدة عن أي منهج مطروق. رتشارد غير يهرب مع شقيقته ليندا مانز وصديقته بروك أدامز من المدينة الصناعية الى الريف حيث يعمل في مزرعة يملكها رجل يعيش منفرداً سام شيبرد. من هنا يصعب تصنيف الأحداث، كما يصعب تصنيف الفيلم كله، لكن مالك يمضي عميقاً في استلهام القصص التوراتية في تصوير ساحر. هذا التصوير الذي قام به نستور ألمندروس ونال عنه أوسكار أفضل تصوير يصبح التشكيل الكامل للفيلم ويسلب المحتوى الكثير من أهميته. تاريخ الضربة والضربة المضادة هذا بالتحديد ما يتجاوزه مالك في فيلمه الثالث "الخيط الأحمر الرفيع" ***** من خمسة هنا التوازن بين جمال الصورة وعمق المحتوى لا يتحقق جلياً فقط بل يحمل الفيلم الى ذات المرتفعات الإنسانية التي حفل بها "سفر الرؤيا... الآن" لفرنسيس فورد كوبولا و"طفولة ايفان" لأندريه تاركوفسكي أو "الصعود" للاريسا شوبتكو على الجانب الروسي. وهو في عمق فيلمي ستانلي كوبريك الحربيين "ممر المجد" و"سترة معدنية كاملة". معركة غوادلكانال التي يتناولها الفيلم عن رواية وضعها جيمس جونز، كانت واحدة من معارك العام 1942 الأهم في جنوب شرق آسيا. كانت اليابان احتلت جزراً عدة في المنطقة، من بينها هذه الجزيرة، ما دعى أميركا للتدخل لكي لا تخسر واستراليا سيطرتهما على تلك الأنحاء. جزيرة غوادلكانال كانت من الجزر الأولى التي دارت فيها المعارك العنيفة بين الطرفين. بعد الهجوم الأميركي المباغت قامت القوات اليابانية برد عسكري مضاد وهذا أدى الى قتال استمر نحو ستة أشهر قبل أن ينتهي بانتصار أميركي نهائي. رواية جيمس جونز، التي نشرت قبل 39 سنة كانت نوعاً من السيرة الذاتية وفي الوقت نفسه تأملات في الإنسان وحروبه وحياته وموته. السيناريو الذي كتبه مالك بنفسه يصلح لفيلم حربي مليء بالمشاهد التي تروي تعطش الجمهور السائد ل"الأكشن"، لكن مالك يبتعد تماماً عن هذا الخط ويبدأ فيلمه كما ينهيه بمناجاة وتأملات فلسفية أو ذات شأن ذهني يتعامل وملاحظات الجنود ومشاعرهم الدفينة ورؤيتهم المتبلورة من خلال اشتراكهم في تلك الحرب. ومثل شخصية كابتن ويلارد التي أداها تشارلي شين في فيلم "سفر الرؤيا... الآن" 1979، يتساءل التعليق الصوتي، بنحو غير مباشر، عن جدوى الحرب وينتقد أفعالها في الذات، وكما في "الصعود" لاريسا شوبتكو - 1976 لا يطرح "الخيط الأحمر الرفيع" شخصياته الأمامية وهي أميركية كلها على أساس بطولي. بل يفضل أن يصرف وقتاً طويلاً في تحليل ماهية البطولة. ولعل ما يهم مالك ليس التأريخ وليس سرد القصة كما ليس السياسة، بل هو يكتفي بتأطير الحالات الإنسانية المفرزة، وينجح في ذلك محققاً غاية الفيلم في تناول وضع خاص جداً، كالقتل والقتل المضاد والمواقف المتناقضة بين الشخصيات، وتفتيته الى عوامل إنسانية أساسية كالخوف والشجاعة والنظرة الساخرة وتلك الفائضة بالتساؤلات الخ... الواقع: مثاليات ما قبل القتال ابتعاد مالك عن سرد القصة كأحداث تتلى والابتعاد تالياً عن التوقع العام بمشاهدة فيلم ينتهز فرصة الحديث عن الحرب ليتحدث عن المواقع، يجعله يبدأ بفصول تمهيدية طويلة نسبياً. الفصل الأول يبين لنا شخصية جندي في عطلة يمضيها على جزيرة باسيفيكية جنوبية صغيرة مع مواطنيها وكيف يشعر بالأمان والعاطفة بينهم. هذا قبل أن ننتقل الى تحضير المعركة حيث هناك مشهدان على ظهر باخرة حربية للجنرال كوينتارد جون ترافولتا وهو ينظر الى الحرب المقبلة بتفاؤل شديد ويعبر عن ثقته بالكولونيل تول نك نولتي الذي يزداد أداؤه قوة من فيلم لآخر وهو يشعر بثقل المهمة الملقاة على عاتقه. الجنرال مثالي في رغباته والكولونيل عليه التعامل مع تلك المثاليات قبل القتال ومع أرض الواقع خلاله. بينما يبدأ فيلم ستيفن سبيلبرغ "انقاذ الجندي رايان" بعد التمهيد مباشرة، بالمعارك القتالية الحادة، يستمر تأخير مالك لها. النزول على شاطىء غوادلكانال كان سلمياً. لاحقاً، عندما تقدمت القوات الأميركية صوب المرتفعات تبدأ المعارك الطاحنة. مثلها في فيلم سبيلبرغ، الذي صوّر في الوقت ذاته وعرض قبل "الخيط الأحمر الرفيع" بأسابيع قليلة، تلك المشاهد واقعية تماماً. وهي على عكسها لا تؤدي الى حماسة ما تجاه الفريق الأميركي. وفي الحقيقة لا تؤدي الى أي حماسة، سوى حماسة المشاهد الى تلك الصنعة الفنية الشاملة التي يصوغها المخرج طوال فيلمه. مالك واعٍ جداً للمسألة الجماهيرية. وكلما سنحت له فرصة التصرف ضد السائد استغلها. هذا لا يضير أي فرد يريد مشاهدة فيلم فني وذهني لديه في ما يطرحه ويقوله على الجانبين، وهو سيجد في تناول المخرج لأحداث فيلمه معالجة ذكية تنتقل بين الإنسان والموقعة بشكل شبه تناوبي وفي فصول طويلة. لكن أحدى محاولاته الناجحة تجنيب فيلمه أي تصنيف سهل، وأي تفسير شعبي عادي هو أن أحداً من المشاهدين ليس متأكداً من يعيش ممن يموت في رحى تلك المعارك. في الأفلام الحربية التقليدية، تلك التي دارت عن فييتنام أو عن الحرب العالمية الثانية أو غيرهما، كان يستطيع المرء أن يدرك أن جون واين لن يموت لأنه نجم الفيلم. الفيلم يبيعه الى مشتري التذاكر ويبيع معه خلوده. مع "الخيط الأحمر الرفيع" يسقط أمامنا الممثل المعروف وودي هارلسون الى جانب الممثل غير المعروف لاري رومانو وبذلك يتم كسر عادة احتكار النجوم للحياة في تلك الأفلام. بقية الممثلين، من شون بن الى نك نولتي الى بن تشابلن وجون كوزاك وأدريان برودي والياس كوتياس وجون س. رايلي وجون سافاج، يتماوجون في اختلافاتهم. أحياناً ينجح هذا الاختلاف في الظهور على السطح: كابتن ستاروس كوتياس يمانع في إرسال جنوده الى الموت المحق. انه لا يستطيع أن يرى "فتيانه" يقدمون على الانتحار. كولونيل تول نولتي يعتبر ذلك جبناً ويعفي ستاروس من المسؤولية. كلاهما على حق فالقضية ليست خياراً بين ما هو صائب ومخطىء، وليس أن الأول جبان أو أن الثاني مستهتر. المواقع العنيفة الأولى هذه تنتهي. يبدأ سجال آخر من التأملات الذهنية والفلسفية ثم نأتي الى مواقع أخرى. ما تصفه تلك التأملات هي حالات عامة ولو أنها تنطلق من ذوات خاصة. كل ما يستجدي التأمل في غمار ما يحدث، تعبر عنه تلك التداعيات الفكرية المسموعة. لكن مالك يجد دوماً معيناً لا ينضب من المصادر البصرية لكي تصاحب تلك التداعيات. مدير تصويره هو جون تول الذي ربح الأوسكار مرتين عن "برايفهارت" وعن "أساطير الظريف" قرر، على ما يبدو، أن يأخذ بجماليات المكان في كل الظروف. هناك أسلوب من الواقعية - الطبيعية الذي ينقذ الفيلم من البصمة التوثيقية ويمنحه جمالية حتى في أحلك ظروفه. وهناك أهمية مطلقة للمكان في نهاية المطاف ضحّى الرجال من الطرفين بحياتهم من أجله في موازاة السعي لتقديم حركة كاميرا سلسلة. الكاميرا المحمولة متوفرة بكثرة في هذا الفيلم، لكنها لن تسقط في حفرة أو تنهال عليها الدماء والماء والتراب كما تفعل في فيلم سبيلبرغ. هناك هي أكثر توثيقاً، خصوصاً في فصل المعارك الأولى. هنا تكتفي بالتواجد في سعي لتكون قريبة بما فيه الكفاية من دون أن تفرض وجودها أو قربها. كذلك فإن حركة الكاميرا شبه الدائمة منحت الواقع جانباً آخر مهماً: في أرض غريبة على الجنود، يبدو كل شبر من المكان جديداً ومدعاة للحذر. سياسة مالك/ تول التصويرية نجحت في نقل هذا الجانب الى الشاشة. الكاميرا تبدو كما لو كانت أيضاً غير جاهزة تماماً لما سيقع لكنه حين يقع هي هناك لتصوره بكل العدة المطلوبة. الفيلم، الموت وعز النهار هذا كله، والأكثر منه، هو بعض ما يجعل "الخيط الأحمر الرفيع" عملاً حياً على كل مستوياته: في واحد منها هو حديث عن الإنسان في ذلك الظرف، عن ذكرياته، عن المرأة التي يحب، عن خسارته لها نتعرف على ذلك من خلال جندي تتركه زوجته وسط ذكرياته المتدفقة عنها وعن حربه ومحاولة فهمه تلك الحرب أو غيرها حيث هذه الحرب تتحول الى نموذج. في مستوى آخر، هو فيلم حربي من الصنف الأول. المواقع التي يقدمها المخرج على الشاشة متقنة حجماً وضراوة وواقعية. الأميركي هو أيضاً العدو والياباني هو الإنسان. الفواصل تتبع فقط موقع سارد القصة/ الفيلم وليس وجهة نظر الجندي. في هذا الشأن هناك مشاهد لانتقام الأميركيين من اليابانيين مؤثرة وهي ذاتها وفوقها أخرى تصور المعاناة اليابانية من وجهة نظر الفيلم: تفضيل بعضهم الانتحار على الاستسلام، استسلام آخرين مدفوعين بالخوف أو الجوع أو المرض وتفضيل البعض الآخر القتال حتى النهاية. من ينتظر، في هذا المجال، مشاهدة فصل كامل يروي من وجهة نظر اليابانيين من قبل أن يمنح الفيلم شهادة العدالة بين الطرفين وعدم الحياد إنما يشاهد الفيلم بعين واحدة. مشاهدة ثانية ضرورية في كل الحالات لكنها واجبة في هذه الحالة. ذلك أن مالك يتصرف بوعي شديد عند وصوله الى القاء كلمته في هذا المجال. فبينما نرى في الأفلام الحربية الأخرى تمثيلاً، ولو رمزياً، لنشوة النصر يشترك الفيلم، وصانعوه، فيها لأن المنتصرين هم من الحزب ذاته الذي ينتمي اليه محققو الفيلم، عنصرياً على الأقل، يقطع المخرج وصلة النشوة التي يشعر بها الجنود الأميركيون على موسيقى حزينة من وضع هانز زيمر ويلغي كل أسباب النشوة بمشاهد تصور بؤس وضع الجنود اليابانيين ثم تلي ذلك مشاهد توضح الإسفاف في الاحتفال الأميركي بالنصر. هذه شرائح من التداعيات الفكرية المنتمية الى وجهة نظر معادية للحرب، ولا تنظر - كما في فيلم "سترة معدنية كاملة" - الى النصر كمدعاة للبهجة. لكن المستوى الجامع لكل هذه المستويات هو الصنعة السينمائية. الحرفة الصعبة للمهمات الشاقة الثلاث: الكتابة والتصوير والتوليف. من يرى الفيلم ولديه خبرة ما في فهم متطلبات هذه المهمات، يدرك أن "الخيط الأحمر الرفيع" هو احتفاء بالصنعة الإخراجية التي تشمل هذه المهمات الثلاث اشتراكاً وإشرافاً وفعلاً. معظم التصوير يبدو كما لو تم في الساعات الأولى من النهار أو الأخيرة منه، حيث تستطيع الظلال الطبيعية لعب دور في إضفاء اللمسات النفسية على الشخصيات الماثلة والمغطاة بالقدر المطلوب بدقة من الظل الداكن. لكن حين يصور تول مشاهد معينة في عز النهار، فإن الغاية هي للضوء أيضاً غاية أخرى: عز النهار في هذه الحالة هو الوقت الأطيب للموت.