في كتابه "طغيان الاعلام"، يتناول اغناسيو رامونيه واحدة من السمات التفسيرية التي سبق له ان تناولها في كتابه السابق "جيوسياسية الفوضى". لكنه، هنا، يمعن في تطويرها فنراه يتساءل حول المعنى الذي يجب ان نعطيه ل"الظاهرة الاتصالية" ولأسباب نموّها. وهو، منذ البداية، يرسم جردة للأوضاع التي انتجها هذا الشكل الجديد من اشكال "حشو الأدمغة"، ميالا الى الاستنتاج بأن هذا الشكل القديم من اشكال الحرية حمل في اعماقه اسباب تبدّله الضال، بحيث تحولت فضائله مساوىء. يمكننا ان نستنتج من اطروحة رامونيه ان الكثير من الاعلام يقتل الاعلام. والمؤلف يغوص في تحليل الامّساخ الاعلامي الذي يحمل التضليل في داخله. وهذا الأخير، في رأيه، ظاهرة جديدة تُحدث شرخاً عميقاً داخل مجتمع تهيمن عليه وسائل الاتصال هيمنة واسعة. ورامونيه، على شاكلة مؤلفين كثيرين، يتساءل عن الشكل الذي ترتديه هذه التقنية قبل ان تسفر عن النتائج التي يمكنها، او، وهذا الأرجح، التي يتوجب عليها، ان تؤدي اليها. وهنا يلاحظ كيف ان الاعلام بدأ يفقد معناه تحت ضغط التكنولوجيات الجديدة. الاتصال الاعلامي يلعب اليوم، بالتالي، دور ايديولوجية جديدة غير مرئية. وهو يمارس، بوصفه "سلطة ثانية"، هيمنة هائلة الحجم. ومعنى ذلك أنه لئن اعتُبر الاعلام تقليدياً "سلطة رابعة" بعد السلطات الثلاث التي عرّفها مونتسكيو التشريعية والتنفيذية والقضائية، فقد بات من السهل ان نلاحظ ان التصنيف هذا فقد بعض صحته: اذ باتت السلطة الأولى اليوم اقتصادية، والثانية للاعلام. ولا مراء ان الانترنت يمثل حال "الاكتمال الاشمل والامثل والانجح" للأدوات التي يرتكز الاتصال اليها. وفي هذا السياق ينطلق رامونيه من ملاحظة بسيطة تتعلق بالدور المهيمن الذي يلعبه الاتصال وجهازه الاول: التلفزيون، في الخليط الذي يشكله المشهد الكوني راهناً. اذ يلاحَظ عن حق اسبقية "الترفيه" على الاعلام الحقيقي. ومن هنا الاهمية المتزايدة لأخبار الجرائم والأحداث المتفرقة التي تحرف الانتباه عن المشاكل الحقيقية. وضمن هذا المنطق يورد رامونيه قضيتين تصوران هذا التوجه بشكل جيد: قضية الأميرة دايانا وقضية كلينتون - لوينسكي. والحال ان القاسم المشترك بين الحكايتين هاتين يكمن في انهما اسستا رسميا لنوع من اعلام جديد يبالغ في اضفاء الطابع الاخباري على الحادثة، الى درجة مذهلة تؤذي نقاء العمل الاعلامي الاصيل. لقد باتت هاتان القضيتان الرمز الحي لزمننا المعاصر. ويورد رامونيه تحليلا مهما من حول "المحاكاة الاعلامية" حيث يشرح الطريقة التي بها يحل هذا المفهوم محل الاعلام، اذ التكرار يصبح بديلا للبرهان. هنا، عبر تجاهل الاعلام وظيفته الاصيلة والاساسية التي كانت تكمن في القيام بعمل تعليمي وحضاري يوفّر للمواطنين الأدوات التي تمكّنهم من الفهم والتحليل للتوصل الى تكوين رأي خاص بهم في صدد هذه القضية او تلك، تتشكل الوظيفة الجديدة من حول "حقيقة مكررة" تجعل من اي خبر يؤخذ ويُكرَر مرات ومرات في عدد من وسائل الاعلام، خبرا يُفترض به ان يكون حقيقياً. ويكون من نتائج هذا المعطى، كما يرى المؤلف، ايمان الناس المطلق ب"حقائق مزيفة" مثل تلك التي ارتبطت بها حربا الخليج والبوسنة ومدينة تيميشوارا الرومانية. وضخّم من هول هذه الظاهرة الدور الهائ الذي يلعبه التلفزيون وواقع ان وسائل الاتصال السمعية - البصرية صارت هي الوسائل المهيمنة. وفي السياق هذا قد يكون من المهم ان نلاحظ مع المؤلف العدوى التي باتت تصيب الصحافة المكتوبة - التي تتسم تقليدياً ب"استعراضية" اقل وجدية اكبر - بفعل الهيمنة التي تمارسها سرعة التلفزيون وطابعه المثير. فالصحافة المكتوبة التي باتت تجد نفسها مكتملة بفعل آنية نقل الخبر تلفزيونياً، تبدو اليوم وكأنها انهزمت في المعركة واستسلمت عبر تبنّيها مواصفات صحافة التلفزيون. وهنا يستعير رامونيه من باتريك شامباني الذي كتب في نص له بعنوان "هذه الصحافة المكتوبة التي تركض خلف التلفزيون"، ان "واحدة من المشكلات التي يعيشها الكثير من ادارات تحرير الصحف، بشكل محسوس، تتعلق تحديدا بكون الصحافة المكتوبة اصبحت اكثر فاكثر ميلا لتقليد الصحافة المرئية: اذ ها هي ترجّح المقالات القصيرة، وتعنون المقالات بشكل لافت وجذّاب حيث ان معادل قياس حجم المشاهدة الاوديمات دخل عالم الصحافة المكتوبة على شكل تسويق تحريري يتطور بالتماشي مع تقنيات موروثة عن عالم الاعلان، من اجل تحديد ماهية المواضيع التي يمكن ان تجذب اعرض قطاع من الجمهور". والحقيقة ان في الامكان رد هذه الظاهرة الى سببين، اولهما موضوعي والثاني ذاتي: فالموضوعي يتجسد في الخضوع البيّن الذي تعيشه المنظومة الاعلامية حياة منطق الربح والمردود الاقتصادي. وهذا ينطبق على ادوات الاتصال انطباقه على الصحافيين أنفسهم. والمنطق هذا هو ما يجعل مختلف اجهزة الاعلام يجد نفسه، عمليا، مرغما على التحرك قبل الآخرين، وعلى ان "يفضح" و"يكشف" قبل الآخرين. وباختصار: ان يفعل دائماً افعل واسرع. ومن الواضح، منطقيا، ان هذه المنظومة سيكون من شأنها افساد العالم الاعلامي كله. ومن ناحية اخرى فالسبب الثاني يساهم في هذا التطوير المدمر، وهو ذاتي او سيكولوجي يكمن في تجلي رغبة الطرف المعني اكثر من غيره: الجمهور - هذا الجمهور الذي ينتهي الامر به لأن يرضى كل الرضا عن هذا التطور. وهنا يلعب التأثير المباشر دوره الفاعل. فمتفرج التلفزيون يجب ان يشعر انه لاعب في التاريخ، والتأثير الذي ل"الصورة" او لراهنية الحدث، يجعل التاريخ يدور امام عيني هذا المتفرج مباشرة وعلى الهواء. وهكذا نجد، كما يشرح رامونيه، كيف ان اهمية اتفاقات اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية حُوّلت كلها لتتلخص في مصافحة رابين - عرفات. ولقد ولّد هذا ايديولوجيا جديدة هي ايديولوجية الصورة. وفي المحصلة لا بد للمرء من ان يحسب النتائج المنطقية التي تترتب على هذه الظواهر، وهي ما يلخصه المؤلف بعبارة ينقلها عن وليم راندولف هيرست: "لا تقبلوا أيضاً أن تحرمكم الحقيقة حكايةً جيدة". وفي هذا المعنى يصير البحث عن الحقيقة امراً ثانوياً، هذا إن لم يخل مكانه لما هو ظاهري فحسب.