يرتبط اسم اغناسيو رامونيه ارتباطاً وثيقاً بشهرة الصحيفة التي يديرها، اي صحيفة "لوموند دبلوماتيك" المشاكسة. فاستاذ مادة الاتصالات هذا، الناقد السينمائي السابق، لا يتردد، كما تفعل صحيفته، عن خلخلة، وبالتالي احداث شرخ في "الحس المشترك" الذي صنّعه الفكر الاحادي الشهير. و"لوموند دبلوماتيك" تعتبر اليوم، من قبل الشريحة الاجتماعية الأفضل تركيباً من الناحية الثقافية والأكثر علما، الشهرية الوحيدة التي يمكن اعتمادها مرجعاً. والحال ان هذه الصحيفة هي آخر حصون النزعة العالمثالثية الواعية، وبشكل اكثر عمومية، آخر معاقل الفكر الحر. ومن هنا تتطلع "لوموند دبلوماتيك" على الدوام الى ان تقف ضد الاحادية الثقافية. وللوصول الى هذا، يحرص الفريق العامل فيها على الحفاظ على تماسكها ونزاهتها عن طريق الحفاظ على استقلالها الحالي في مجتمع اعلامي تسيطر عليه التجمعات الاقتصادية والمالية الكبرى، ويديره "كلاب الحراسة الجدد" - حسب تعبير قديم لبول نيزان. وفي هذا الاطار نرى كيف ان رامونيه نشر في 1996 مقالاً حول "معركة الملايين العشرة" وهي المعركة التي اطلقتها الصحيفة في ذلك العام، وفسرها المقال انطلاقاً من الضرورة المطلقة لتعزيز استقلالية الصحيفة، حيث قال: "ان حرية التعبير واستقلالية الصحافة، في مجتمعاتنا الديموقراطية، مهددان بفعل سلطة المال والسلطة السياسية. حيث ان الاعلام، وقد تحول الى سلعة، صار خاضعاً بالضرورة الى قانون العرض والطلب المقدس". وهذا المنطق، يشجع، كما يلاحظ رامونيه، نزعة الاثارة والاستعراضية التي باتت تسم الاعلام. في منطق معركة رامونيه كانت "الملايين العشرة" تعني ما يمكن لقراء الصحيفة جمعه، اي الثمن المتوجب دفعه مقابل استقلال الصحيفة الفكري وحريتها. والحال ان "لوموند دبلوماتيك" كسبت يومها معركتها، الى درجة ان مجلة "كورييه انترناسيونال" نقلت خلال شهر تشرين الاول اكتوبر الماضي، فقرات من مقال ظهر في صحيفة "فرانكفورتر التجمين تسايتونغ" الألمانية جاء فيه: "اننا نعيش اليوم نهاية الألفية الثانية بعد مولد السيد المسيح. وها هي اوروبا كلها خاضعة لهيمنة الاسواق المالية العالمية والثقافة الجماهيرية الاميركية. اوروبا كلها؟ لا… اذ ان هناك صحيفة، وصحيفة واحدة، يصنعها فرنسيون عنيدون، ولا تزال حتى اليوم مصرة على مقاومة الغزاة". ومع هذا فان عالم هذه الصحيفة لا يستثير التقريظ وحده. اذ علينا ان نلاحظ، في هذا الصدد مثلاً، الانتقادات الشديدة التي وجهها البروفسور المغربي اياد المهور، العامل في مركز التوجيه والتخطيط التربوي في الرياض، الى مقال نشره رامونيه في "لوموند دبلوماتيك" في آب اغسطس الفائت تحت عنوان "المغرب الى أين؟"، وفيه يلاحظ رامونيه في معرض القائه نظرة موضوعية على فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، انه، على الرغم من السمات الايجابية العديدة التي طبعت نظام الحسن الثاني، لا يمكن اعتبار المحصلة ايجابية كثيرا… مهما يكن فان العديد من مقالات رامونيه يبقى في الذاكرة، حيث اعتاد، شهراً بعد شهر، على تناول العديد من المواضيع، ورائده رصد الواقع بنزاهة وقدرة مهنية دون اية تسريبات ايديولوجية. في تلك المقالات تتنوع اهتمامات رامونيه، من قضايا الجنوب، الى النظام العالمي الجديد، ومن حرب الخليج الى جديد تونس الى الاحادية الاجتماعية وضرورة احداث تغييرات واصلاحات في عمل الأممالمتحدة. ان المشكلات المعاصرة الكبرى التي تطرح نفسها على عالمنا، عند نهاية هذا القرن، تشكل جزءاً أساسياً من اهتمامات رامونيه. وفي هذا الاطار نراه يتناول "توسعية الهيمنة الاميركية"، و"لا يقينات الاقتصاد المالي العالمي" و"المعضلات المرتبطة بانبعاث النزعات القومية والاثنية الجديدة" ناهيك بانحراف نظام الاعلام العالمي وأزمة الديموقراطية. هذه المواضيع وغيرها تكمن، اذن، في خلفية فكر رامونيه الذي كان اصدر قبل عامين كتاباً عنوانه "جيوسياسية الفوضى" 1997، رسم فيه صورة متكاملة لوضعية العالم الشموليّة، بعد سقوط جدار برلين. وما في ذلك الكتاب كان تحليلاً متكاملاً - اقل ما يمكن ان يقال عنه انه متشائم - لما يمثله اليوم المجتمع "المندمج" الذي بات خاضعاً لاقتصاد معولم ومحرر، كما يخضع في الوقت نفسه لضغط سياسي افقده بوصلته. فالحال ان ما نشهده اليوم انما هو تبدل اساسي، نوع من مرحلة انتقالية غير محددة ومضيّعة، حيث ان المرجعيات التقليدية اخلت المكان امام شبكة قراءة جديدة للواقع يصعب التقاط علاماتها، كما يصعب فهمها وبالتالي السيطرة عليها. ان المشهد العالمي الجديد، يقترح فكراً مهيمناً لا يمكنه ان يقبل بأي منافس له، ويجد دعامته الأساسية في تلك النيو - ليبرالية الاقتصادية التي تؤدي الى، وتسرع من وتيرة، الاندماج العالمي والترابط الكوني. وفي هذا الاطار نجد عنصرينت يفرضان انفسهما كنموذجين للتعميم: السوق، والاتصالات. وهذان يستجيبان الى منطق فعالية، وخصوصاً منطق سرعة، هما سمتان اساسيتان، ان لم تكونا وحيدتين لزمننا، ويمكنهما ان تقودا - كما يبرهن رامونيه في كتابه ذاك - الى كوارث لا سابق لها. ان المنطق الذي يحمله كتاب "جيوسياسية الفوضى"، يجيب عن تساؤل جريء يضع نصب عينيه التطور الراهن الذي يعيشه الوضع العالمي. فالأمر هنا يقوم في سبر الاسباب التي تجعل الجيو - سياسة المعاصرة تتخذ سمة مطبوعة بكل هذا القدر من الفوضى. فالمؤلف يرى ان ثمة تبدلاً أساسياً في ماهية السلطة، واننا بتنا من الاندماج في زمن "اللايقينات" الى درجة ان "الدول"، والمؤسسات التقليدية، والمواطنين، فقدوا جميعاً كل مرجعية ثابتة، ليدخلوا في وضع يختلط فيه كل شيء بكل شيء، ولا يعود امامهم الا الاستسلام لفكرة ان يعيشوا "خيبة العالم" حسب التعبير المستعار من ماكس فيبر. في نقطة المركز من هذا الوضع الفوضوي الجدي، ثمة قوة كبيرة منفردة، هي التي تفرض ارادتها وتملي مواقفها، هذه القوة هي الولاياتالمتحدة الاميركية التي باتت في طريقها الى ممارسة "نيو هيمنة" صارمة، عبر سيطرتها المطلقة في المجال الاقتصادي كما في المجالات السياسية والثقافية. فأميركا، اذ تخلصت من القوة العظمى الاخرى التي كانت تفرض نفسها، تشكل في الوقت الراهن، البيدق الوحيد في لعبة شطرنج القرارات، بحيث ان ما من قوة اخرى يمكنها منافستها. وفي هذا المنظور نفسه يتعين ان نذكر، كعناصر مكونة لهذا العالم الجديد المتمحور من حول الاحادية والهيمنة، التأثير الذي تمارسه المنظمات الاقتصادية العالمية التي تطلق بصورة لا سجال فيها، مفهوماً اقتصادياً متفرداً، سواء كان ذلك عبر الفعل التجريبي او المفهومي. وهي بهذا، تشارك في المقام الاول، في التطور الانفصامي الذي تعرفه "السياسة العالمية" بالمعنى العريض للكلمة. ان اغناسيو رامونيه ينطلق، هنا، من ملاحظة عامة تتعلق بوضعية العالم الاجمالية بعد سقوط جدار برلين، ليصل الى استخلاص وتفسير النتائج التي ترتبت على ذلك، اي الصعود الهائل للاعقلانية التي يعيشها العالم الغربي في الوقت الراهن، هذه اللاعقلانية التي تتناقض مع التطورات التكنولوجية، لكنها في اعماقها تعثر على تفسيرها في الحاجة التي يحسها المواطنون الى التسلح ضد افراطات التقدم، والى اعادة الارتباط بأخلاقية معينة افتقدوها خلال الزمن الذي سيطرت العقلانية فيه. والحقيقة ان الملجأ الذي تمثله اللاعقلانية، ينبعث في كل مرة تسود فيها الأزمات وحقبات الضياع. وضمن اطار نفس منظومة الافكار هذه، تأتي الانعزاليات الهوياتية، وانبعاث النزعات القومية التي يعرفها العالم اليوم، لتجسد مخاوف المواطنين وضروب حذرهم ازاء العولمة والنزعة الاندماجية. ينهي رامويه كتابه ذاك بتأمل يتعلق ب"عصر الانترنت" وبشكل اكثر عمومية، بعصر الاتصالات التي باتت تمارس سلطة تتنافى مع مبررات وجودها الاولى. وهذا التأمل كان هو الذي مهد لكتابه التالي الصادر حديثاً بعنوان "طغيان الاتصالات". وهذا الكتاب الجديد يتناول بالدرس حيزاً حاسماً في عملية صنع التاريخ السياسي المعاصر وتطوره: أي ظاهرة وسائل الاتصال التي باتت ذات ابعاد هائلة وتبدو - حسب تعبير الكاتب - وكأنها تمارس "طغياناً حقيقياً"، والذي سيكون لنا معه لقاء آخر.