يدعو الأستاذ جلال أمين في مقالته المعنونة "ما حقيقة حقوق الانسان؟"، والتي نشرت على هذه الصفحة من جريدة "الحياة" بتاريخ 24 تشرين الثاني نوفمبر 1999، الى مفهوم خطير في دلالاته وعواقبه لا ينبغي ان يمر بدون تعقيب ومراجعة. فحوى المقال ان حقوق الانسان هي قيمة نسبية تختلف من أمة الى امة، ومن عصر الى عصر، ومن موقع جغرافي الى آخر. ويسخر الكاتب من محاولة الولاياتالمتحدة احتكار مفهوم حقوق الانسان في العالم وفرض رؤياها له على سائر امم الأرض من واقع هيمنتها السياسية والعسكرية. لست أريد ان أدافع عن الولاياتالمتحدة - حاشا لله - فليست ازدواجية المعايير والنفاق الصريح الذي تعتمده في تطبيق سياستها تجاه حقوق الانسان مما يحتاج الى شرح او تنويه، وليس تفضيلها مصالحها الاستراتيجية وأسواقها التجارية وتحالفاتها الاقليمية على مسائل الضمير وحقوق الانسان حين تتعارض الأولى مع الأخيرة مما يستلزم اقرار او اعادة. كل هذا في حكم تحصيل الحاصل وتأكيد المفروغ منه. اما ما نحتاج الى تأكيده فهو ان حقوق الانسان هي قيمة مطلقة لا نسبية، وان التصور الاميركي لهذه الحقوق، وهو تصور يشاركها فيه الاتحاد الأوروبي وينبع اساساً من اعلان حقوق الانسان العالمي الذي صدر عن الأممالمتحدة هو تصور صحيح، وان تركيز هذا التصور على مفهوم الديموقراطية والعلاقة بين الفرد وبين الدولة هو تركيز صائب وأساسي وذو قيمة مطلقة. وكون السياسة الاميركية تجعل قضية حقوق الانسان تبدو احياناً وكأنها "حق يراد به باطل" لا ينبغي ان يغيّب عن اذهاننا ان الحق حق وإن أريد به باطل، وليس ينبغي ان نزهد في الحق كوننا نراه ملوثاً بالباطل. ثمة بديهية ينبغي الا نغفلها أبداً هي عدم الخلط بين صحة المبدأ وخطأ التطبيق. فكون الولاياتالمتحدة ليست مجتمعا مثالياً، وان ثمة حقوقاً للانسان تنتهك فيها لا ينتقص من قيمة المبدأ ذاته الذي هو مسعى انساني مشترك قطع بعضنا فيه اشواطاً ابعد من بعضنا الآخر. ان حقوق الانسان بمفهومها الغربي ليست اختراعاً اميركياً وإنما هي محصلة الخبرة البشرية المتراكمة من أقدم العصور حتى بلورها الفكر الأوروبي العقلاني في العصور الحديثة من خلال عدد لا يحصى من الحركات السياسية والاجتماعية، من صراعات الأفكار وصراعات الطبقات، من الثورات والانقسامات والحروب بين الأمم التي توجتها الحربان العالميتان في هذا القرن الموشك على الانصرام. هذا هو المصدر الاصلي والحقيقي لحقوق الانسان، وليست الليبرالية والديموقراطية الاميركية في الواقع الا تجلياً من تجليات الانتصار التاريخي التدريجي لمبادئ حقوق الانسان. فالمجتمع الاميركي نشأ في جانب منه من جماعات المهاجرين الأوروبيين الهاربين من اضطهاد الانسان وغمط حقوقه وقتما كانت هذه لم تقو بعد جذورها في أوروبا. وليس يعنينا هنا على سبيل المثال ان هؤلاء الهاربين من الاضطهاد لم يعترفوا بحقوق الانسان الهندي الأحمر وشنوا عليه حرب ابادة. هذا امر شنيع وسبة لا تنسى في تاريخ اميركا والانسان، ولكن هذا لا ينتقص من جوهر مبادئ الديموقراطية الليبرالية فهذه مبادئ نشأت اصلاً لتنظيم العلاقات داخل المجتمع الواحد بين الأفراد والأفراد وبين الأفراد والدولة بحكم القانون واختيار الجماعة. اي انها نشأت لمصلحة الذات وليس لمصلحة الآخر، ولذلك تزامن عصر الكولونيالية التي هي من أبرز مظاهر انتهاك حقوق الانسان مع عصر ترسخ قيم الديموقراطية والليبرالية في الدول الاستعمارية الكبرى، بل انه من الجائز ان نقول ان تبلور هذه القيم داخل بعض القوى الأوروبية وما نتج عنه من حسن تنظيم المجتمع وترتيب العلاقة بين عناصره المختلفة سهل من ناحية اخرى عملية انتهاك حقوق الآخر في المستعمرات. ولذلك فإن تبني اميركا اليوم ومن وراءها دول الاتحاد الأوروبي لقضايا حقوق الانسان ومبادئ الحكم الديموقراطي عالمياً هو في رأيي - على ما يشوبه من شوائب نفاق وازدواج معايير - خطوة بشرية الى الأمام، لأنه لأول مرة في تاريخ الحضارة الانسانية يقول مجتمع من المجتمعات ان المعايير العليا التي اعيش بها ليست حكراً عليّ كوني الأرقى والأقوى، وانما الآخر ايضاً يستحق ان يعيش بمثل هذه المعايير. هذا اساساً اعتراف بالآخر وبأحقيته وبامكان تساويه مع الذات. قبل نصف قرن كانت مثل هذه الافكار حرية ان تثير الضحك لو صدرت عن سياسي اوروبي او اميركي. اليوم صارت جزءاً اساسياً من القاموس السياسي اليومي. هذا شيء جيد رغم كل الاعتبارات والتحفظات على الدوافع والأغراض. لعل هذا التطور نشأ اصلاً كأسلوب من أساليب محاربة الأنظمة الفاشية والشيوعية من قبل الغرب الديموقراطي الليبرالي، الا انه قد ترسخ اليوم بين المفاهيم السياسية المتداولة وامتد ليشمل دول ما يسمى بالعالم الثالث. وأكرر ان هذا ليس بالشيء السيئ، بل هو علامة تاريخية طيبة يرجى منها خير بعيد، بل أظننا لا نختلف انه قد اصابنا منها خير قريب. والا فليقل لي من عنده العلم اي شعب عربي اليوم يضيره شيء من الضغط المباشر او غير المباشر على حكومته حتى تمشي شيئاً يسيراً في طريق الحكم الديموقراطي الانتخابي، او تطلق شيئاً يسيراً حرية التعبير، او ترفع رفعاً يسيراً يد التنكيل عن المخالفين في الرأي وعن المختلفين في العراق، ويد التهميش عن المختلفين في الدين. وليقل لي ايضاً من لديه العلم اي نظم حضارية وضعية في العالم اليوم هي افضل في تنظيم المجتمع والعلاقة بين الحاكم والمحكوم من نظم التمثيل النيابي عن طريق الانتخاب الحر المباشر والفصل بين السلطات الثلاث الاشتراعية والتنفيذية والقضائية. الى ان تخترع البشرية نظاماً افضل لا بد ان نقرر ان "حقوق الانسان" كما يمليها هذا النظام الفكري والسياسي هي قيمة مطلقة ينعم بها من البشر من تسود في مجتمعاتهم ويطمح اليها من هو محروم منها، وكل ضغط او حثّ او وعظ في هذا الاتجاه - مهما كان مشكوكاً فيه ومهما ضقنا به لما فيه من شبهة استعلاء - وهو شيء حسن في المحك الأخير لأنه يدفعنا خطوة على الطريق المرغوب. ان الاقرار بنسبية حقوق الانسان وان هذه الحقوق ليست بالضرورة مرتبطة بعلاقة الدولة بالفرد وان النموذج الغربي ليس النموذج الوحيد - مثل هذا الاقرار في بلادنا وما شابهها في لحظته التاريخية من بلاد العالم لهو من قبيل اسلام العنق الى الجلاد. هو بمثابة دعوة مفتوحة لكل الأنظمة القامعة ان تواصل قمعها هادئة مطمئنة لأن "حقوق الانسان" التي يطالب بها محكوموها هي من النوع "الاجنبي"، النوع "الامريكاني"، الذي هو غير جائز، وغير مناسب لأهل البلد. كما ان القول - كما يقول الاستاذ جلال أمين - بأن المعيار الوحيد لحقوق الانسان ليس المعيار الذي تتبناه دولة كبرى بسبب من قوتها وسيطرتها وإنما "هو الضمير الانساني نفسه" هو قول خطابي لا غير. فليست الفلسفات والقوانين الوضعية التي تنظم المجتمع وتحدد حقوق الانسان والتي يتبناها الغرب اليوم الا من تراكمات الضمير البشري وتبلوراته عبر العصور. وحري بنا ألا نسخر منها وألا نضيق بها بل ننافح عنها ونبشّر بها ما استطعنا الى ذلك سبيلا، عسى ان يأتي يوم نتظلل فيه بفيئها. * كاتب مصري. أستاذ في جامعة اكستر بريطانيا.