التقرير - السعودية شهدت السنوات الأخيرة -ولا تزال- صراعات طاحنة بين التيار الديني المحافظ والتيار الليبرالي في الساحة العربية بشكل عام والسعودية بشكل خاص. أنصار كل تيار يحاولون تشويه التيار الآخر وتصفية أتباعه ويعتقدون بأن التصفية ستتم كما يريدون، أو أن نتائج التصفية هذه ستنعكس بشكل إيجابي على المجتمع. والأسوأ من هذا أن كلا التيارين يضمان تحتهما مجموعات أصغر تمارس نفس الأسلوب. وتبقى معركة الليبرالية والمحافظة الدينية هي أم المعارك. أما المؤسف جدا هو أن معظم أطياف المجتمع لا تعرف ما هو المعنى الحقيقي للّيبرالية، وكيف نشأت تكونت وما هي مبادئها وأهدافها الرئيسية. قد يُعذر الشعب الذي تم تغييب وعيه و(تلقينه) بمصطلحات شحيحة ليس من بينها الليبرالية. وقد يُعذر المحافظون بدرجة أقل لأن من أساسيات منهجهم الجمود الفكري واتباع السلف. لكن عندما يأتي شخص يصف نفسه بأنه ليبرالي وهو لا يفقه منها شيء فهذه كارثة بحاجة لحل. فهل يعقل أن يأتي شخص يصنف نفسه كليبرالي ويطالب بتكميم أفواه المخالفين أو معاقبتهم على معتقادتهم؟ هذا ينافي أهم أسس الليبرالية!! سأحاول من خلال هذا المقال توضيح مفهوم الليبرالية في العصر الحديث بأبسط طريقة ممكنة حتى يتسنى للمتلقي فهمها بشكل جيد، مع العلم أن الموضوع معقد ومتداخل عموما، ويزداد تعقيدا إذا ما أردنا إسقاط مفاهيم الليبرالية بشكلها الصحيح على المجتمع السعودي. حتى إن الكاتب والصحفي أحمد عدنان، والذي يعتبر أحد الكتاب الجيدين والممثلين للتيار الليبرالي، أخطأ في مقابلة أجرتها معه صحيفة الوئام الالكترونية قبل عدة أسابيع حين ذكر بأن (الليبرالية الغربية) يمينية، مناقضة لليسار كما يدعي بعض الجهلاء، كما جاء في الصحيفة. وقد لا يكون خطأ بقدر ما هو تسطيح وجهل. الليبرالية انطلقت كفكرة فلسفية في القرن السابع عشر، ويعد الإنجليزي توماس هوبز أحد آبائها المؤسسين، حيث هدفت لضمان الحريات السياسية والدينية والتجارية ومعاداة الحكم الملكي الإقطاعي، ذو الحق الإلهي المدعوم من قبل الكنيسة. لكنها اليوم تتفرع لليبرالية سياسية، وليبرالية اقتصادية، وليبرالية فلسفية/دينية، والارتباط بين هذه الفروع الثلاثة شديد. وأستطيع القول بأن الصراع الدائر بين التيارات السعودية لا يشمل أي منها بشكل دقيق لأنهم كما ذكرت لا يفقهون ماهي في المقام الأول. فهل يقبل العقل أن يكون هناك ليبرالي محافظ يدعم استبداد الحكومات؟ في علم السياسة وبحر العلاقات الدولية تحديدا، هناك تياران أساسيان هما التيار الواقعي والتيار الليبرالي/المثالي. التيار الواقعي يؤمن بالمبدأ القائل (الغاية تبرر الوسيلة) حيث لا مانع أن يلتهم القوي الضعيف طالما الغاية هي الوصول للسلام مثلا. لكن دوران عجلة التاريخ وحقيقة تداول القوة بين الحضارات من عصر لعصر يجعل من هذه الواقعية أداة حرب لا منتهية. فالضعيف اليوم سيكون قويا غدا ولن يتوانى في الثأر، والنتيجة النهائية ستكون حروب متواصلة وسلام شبه مستحيل على الصعيدين الداخلي والدولي. ويعد ميكافيلي وهوبز ومورجنثاو أشهر أعلام هذا التيار. في الطرف الآخر يأتي التيار الليبرالي المتبني لفكرة خيرية البشر، تقييد الحكومات والتقليل من نفوذها، وإعطاء زمام تسيير الأمور السياسية للمنظمات والمؤسسات الدولية. أما أفكار هذا التيار فتدرجت وتطورت خلال القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين. ففي القرن الثامن عشر تميز هذا التيار بأفكار فلاسفة عصر التنوير الأوروبي المتفائلة، وإمكانية الوصول لحرية وسلام على جميع الأصعدة، ووصفه بالتفاؤل ناتج عن الأحداث التي شهدها العالم الغربي خلال تلك السنوات من حروب وثورات حيث كان من الصعب أن يتبادر للأذهان أن السلام أمر ممكن في ظل تلك الحروب. أما القرن التاسع عشر فتوسعت فيه التوجهات الليبرالية السياسية ليتشكل مفهوم الاقتصاد الليبرالي الناتج عن التوسع في الاستعمار الأوروبي مما أدى إلى الرأسمالية الجشعة، وآثارها باقية ليومنا هذا. وفي القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الأولى تحديدا، تم توقيع ميثاق عصبة الأمم (League of Nations) اتباعا لآراء الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون المثالية، الذي كان يعتقد بأن الدول الموقعة على الميثاق بإمكانها إرساء السلام حول العالم، لكن هذه الفكرة لاقت فشل ذريع نتج عنه إلغاء الميثاق لاحقا. أما كبار أعلام التيار الليبرالي فهم مونتيسيكو وكانط وويلسون. إذاً كما يظهر أمامك عزيزي القارئ، فالليبرالية بدأت كمفهوم أو نظرية فلسفية، ثم أصبحت نظرية سياسية، وبعدها كنظرية اقتصادية. لكن كون دولة ما تنتهج الليبرالية السياسية لا يعني أنها ليبرالية اقتصاديا بالضرورة. فمثلا في فرنسا وهي موطن كبار فلاسفة عصر التنوير والليبرالية الفلسفية، وبعد عقود من الصراع السياسي بين الليبراليين والمحافظين مالت الكفة لصالح الليبراليين عام 1905 بشكل كامل حيث تم إعلان فرنسا كدولة علمانية تفصل بين حكم الدولة والكنيسة. لكن اقتصادها في المقابل كان اشتراكيا —في علم الاقتصاد تتناقض الليبرالية مع الاشتراكية— حتى عام 1983. والنموذج الفرنسي وكيفية تشكل فرنسا الحديثة والتطرف الشديد في ليبراليتها، حالة تستحق القراءة بتمعن. هنا أعود لنقطة أحمد عدنان والمنحنى السياسي أو الاقتصادي من اليمين لليسار. ففي علم الفلسفة والسياسة تأتي الليبرالية في يسار المنحنى، مناقضة للمحافظة الدينية كمثال، بينما الليبرالية الاقتصادية تأتي في يمين المنحنى وهي مرادفة في المعنى للمحافظة ونقيضها هي الاشتراكية على يسار المنحنى. وهنا أتحدث عن المفهوم الأصلي وليس عن الأحزاب السياسية الحالية في بعض الدول. فأمريكا مثلا دولة ثنائية الأحزاب (جمهوريين وديمقراطيين) حيث يوصف الجمهوريين بالمحافظين والديمقراطيين بالليبراليين، مما يجعل الكثيرين يتصورون أن الديمقراطيين يساريين بينما هم في الواقع حزب يميني محافظ، لم يختلف تاريخيا في توجهاته بشكل كبير عن الجمهوريين. وأظن أن الكاتب أحمد عدنان خلط بين الفكرة والأحزاب. إذاً فالليبرالية كفكرة في اعتقادي هي سامية، لا يرفضها إلا من جاهل أو مستبد، فهي تدعو لحرية الاعتقاد دينيا وحرية التعبير سياسيا، وحرية التملك والاتجار اقتصاديا، لكن تطبيقها يختلف من دولة لأخرى، وقد يسيء مناصريها لها كما يسيء كثير من المسلمين للإسلام والمسيحيين للمسيحية مثلا. ففرنسا التي أنجبت كبار الفلاسفة تطرفت بعنف في ليبراليتها من بَعدهم، مما أدى للمقاطعة مع كل مظاهر التدين لدرجة أن المناهج الدراسية هناك خلت من مواد الدين بعد علمنة الدولة، لكن هذه العداوة مع الدين كانت نتيجة طبيعية للاضطهاد والتطرف الديني وتصفيته لكل مخالفيه في عصور الظلام. وفي أمريكا أدى التطرف في الليبرالية والرأسمالية إلى اتساع الفجوة بين الأقلية الثرية والأكثرية ذات الدخل الأقل من المتوسط، واتساع هذه الفجوة له آثار سلبية عديدة على جميع الأصعدة. طبيعي أن يتبادر لذهن القارئ السؤال التالي: كيف يمكن لدولة أن تكون ليبرالية بدون الوقوع في شر الرأسمالية أو استعداء الدين؟ والجواب ينقسم لجزئين: أولا: لابد أن يكون للشعب حق إدارة شؤون الدولة، لأن الليبرالية تعارض تماما استبداد الحكومات وسيطرتها على زمام الأمور دون الأخذ بصوت الشعب. ثانيا: بتبني نموذج مشابه للنموذج الألماني الحالي سياسيا واقتصاديا. أي بمزج الاشتراكية والليبرالية الغربية اقتصاديا، ومزج الاشتراكية بالديمقراطية الغربية سياسيا حيث تتشارك الدولة والمؤسسات سنّ الأنظمة وصناعة القرارات كي لا تطغى الأولى على الثانية أو العكس. الحديث عن ألمانيا يطول وسأكتب عنها في مقال مستقل لاحقا، وأقترح على القارئ أن يلقي نظرة على تاريخ ألمانياالشرقية والغربية والقانون الأساسي (Basic Law) واتحادهم سويا بعد سقوط جدار برلين. أخيرا سأتحدث عن مجتمعنا وصراعاته الحالية. هل تريد تيارات المجتمع (دينية بمختلف مسمياتها، إصلاحية، ليبرالية، شيعية) أن تصل لحرب حقيقية وتصفية للآخر كما حصل في أوروبا؟ الشيطنة الحالية للمخالفين قد تمدد فترة الركود والاستقرار الكاذب لبعض الوقت، لكنها ستزيد من الحقد والكراهية مما سيؤدي بدون أدنى شك لحرب دموية لا يريد أي منا أن يكون شاهدا عليها، والمطّلع على تاريخ الحضارات وكيفية دوران عجلة التاريخ يُفترض أن يعي هذا جيدا، ولا داعي لتضليل أنفسنا. لابدّ من إيجاد حل للجمود والصنمية الفكرية التي كانت ولا زالت أحد أهم أسباب رجعية الشعب وقلة وعيه لكي نبدأ باللحاق بركب الحضارات الأخرى التي سبقتنا بأشواط. أيضا، التسامح وقبول الآخر كما هو أي كان معتقده ومرجعيته والدفاع عن حقوقه كاملة والمطالبة بها ضروري للغاية، وهذا ليس بالأمر المستحيل. فبدلا من العمل على حرق وطن بمواطنيه، ينبغي الإيمان بشعب هذا الوطن والدفاع عنه. وبدلا من الكفر بالإنسان، علينا الإيمان به وبحقوقه.