عندما انتشرت الحداثة في جميع أصقاع العالم سواء عن طريق استعمار دول العالم الثالث أو عن طريق استيراد منجزاتها المادية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، دخلت معها أي مع الحداثة معظم مستتبعاتها، مثل العلمانية والديمقراطية وحقوق الانسان والليبرالية وغيرها، بيد أن هذه المفاهيم التي وردت لهذه الدول لم تأت بكامل حمولاتها من المصدر الأساسي لها، إنما تم تحويرها وتكييفها لهذه الدولة أو تلك وفق الظروف الثقافية والاجتماعية لكل دولة على حدة، فما هو مقبول مثلا من العلمانية في اليابان قد لا يكون مقبولا في غيرها، كما أن الحداثة نفسها لم تكن على وتيرة واحدة وتطبيق واحد في جميع الدول الأوربية التي ظهرت منها، فالإصلاح الديني في ألمانيا سبق بقية دول أوروبا والتطور الصناعي في بريطانيا كان الأسبق عن بقية الدول الأوربية المجاورة لها، وكانت إسبانيا مثلا من أواخر الدول الأوروبية التي تبنت الديمقراطية، وهذا ما ينطبق على الليبرالية كذلك فهي في فرنسا غيرها في بريطانيا، كما ان مفهوم الليبرالية نفسه مفهوم له دلالات وتعاريف متعددة وهو مفهوم متطور ومتغير في البلد نفسه الذي نشا فيه، ناهيك عن تطوره في الدول الأخرى، لذلك نرى من المفكرين من يعتقد ان الليبرالية مرت بمرحلتين رئيسيتين أثناء مسيرتها، وهي الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة (النيو ليبرال)، ويرى هؤلاء أن الليبرالية الكلاسيكية أفضل وأكثر أخلاقية من الليبرالية الجديدة. أما ظهور الليبرالية كمفهوم فقد بدأ في القرن التاسع عشر رغم انه كان كتطبيق على أرض الواقع قبل ذلك بقرون وتحديدا منذُ القرن السادس عشر، وهناك من يرجع ملامح الليبرالية إلى العصر اليوناني، ويستشهد بقول سقراط (اعرف نفسك بنفسك) أو بعبارة بروتاغوراس السفسطائي الشهيرة (الإنسان مقياس الأشياء جميعا) عن مبدأ الفردية، وإلى مفهوم المواطن العالمي عند الرواقيين وإقرارهم بوحدة الجنس البشري. ولكننا نعتقد أن ظهور الليبرالية اقترن بعصر الحداثة الفكرية ومستتبعاتها وخاصة الحداثة السياسية والاقتصادية، الحداثة التي نادت «بتحرير الإنسان من الحاجة إزاء الطبيعة وذلك من خلال معرفة الطبيعة والسيطرة عليها وامتلاكها، وتحريره من الخرافة والجهل ومن خلال اعتبار العقل مصدر المعرفة والعقلانية الرؤية الوحيدة المقبولة بالعالم بحكم مصدرها ذاك، وكذلك تحريره من الاستبداد عبر تأسيس الدولة المدنية وتحديد شروط الاجتماع السياسي وأهدافه من منظور عقلاني» (الليبرالية مشارب متعددة) منوبي غباش. أما الليبرالية على صعيد الممارسة فهي غيرها على صعيد المفهوم، سواء كان ذلك في الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وقد تصطدم بوقائع أخرى في هذا المجتمع أو ذاك، على سبيل المثال تناقض الليبرالية مع العدالة أو تعارضها مع السلطة السياسية أو بين حقوق الإنسان وطبيعة النظام الاقتصادي والسياسي، وهذا ما ينتقده بعض المفكرين على الليبرالية الجديدة وخاصة الاقتصادية منها والتي تتبناها بعض الدول الغربية وتعمل على سن قوانين وأنظمة تراعي طبقة اجتماعية على حساب الطبقات الأخرى.