يلتقي في فرنسا قادة الاحزاب الاشتراكية والاشتراكية - الديموقراطية، والحدث مهم لسببين سياسي وايديولوجي. اما السبب السياسي فهو ان قادة هذه الاحزاب يحكمون في معظم الدول الأوروبية. وإذا سلمنا بوجود تقارب بين بعضهم وبين الحزب الديموقراطي الاميركي فهذا يعني ان غالبية الدول الصناعية الكبرى تعيش في ظل حكومات "يسارية". وبما ان هذه الدول مسؤولة عن صياغة العالم الذي نعيش فيه فإن التقاء قادتها أمر يهم الجميع. وأما السبب الفكري، فهو ان هذا التيار يعيش سجالاً داخلياً افتتحه حزب العمال البريطاني الجديد ثم أوصله البيان الصادر عن طوني بلير وغيرهارد شرودر الى مستوى جديد. وبغض النظر عن التسمية، "الطريق الثالث" أو "الوسط الجديد"، فإن الاطروحات التي تبلورها أحزاب محسوبة على هذه المدرسة تطرح تحدياً على احزاب اخرى تعتبر أن في الإمكان التعايش مع "العولمة" من دون كمية التنازلات التي يدعو اليها الثنائي البريطاني - الألماني. ستخيم على اجواء الاجتماعات أصداء البيانين "الاشتراكي - الليبرالي" و"الاشتراكي الفرنسي" المعنون "نحو عالم أكثر عدلاً" الذي تفتتحه هذه العبارة من جان جوريس: "ان الاخلاص لتقليد ما هو اخلاص للشعلة وليس للرماد". الشعلة لجوسبان والرماد لبلير وشرودر. يدعو البيان الأول الى أخذ الحقائق الجديدة بالاعتبار، وتقليص دور الدولة، واعتماد المرونة في سوق العمل، وتوفير الإطار التشريعي للاقتصاد التنافسي، ووضع الضريبة في خدمة الاستثمار. أما البيان الثاني فيركز على ضرورة ايجاد صيغ لضبط السوق، والإصرار على العمالة الكاملة، والاهتمام بالحماية الاجتماعية، ويدعو الى دولة حديثة يعاد النظر فيها على قاعدة تحالفات تأخذ في الحسبان الثورة العلمية وقواها. وإذا كان يبدو، للوهلة الأولى، اننا أمام مشروعين متناقضين فلا داعي لأن يعتقد أحد ان الأممية الاشتراكية ستكرر، هذه المرة، واقعة 1920 عندما انشقت الى براغماتيين وجذريين. كلا، ان حضور عدد من الأحزاب التي كانت شيوعية يشير الى ان 1999 هي، بمعنى ما، ثأر من 1920 وان "الغلاة" عادوا الى بيت الطاعة، في معظمهم، ولو انه بيت واحد بغرف متعددة. ثم ان نظرة عن قرب الى السياسة التي يتبعها الحزب الفرنسي تؤكد ان الصلة ضعيفة بين التشدد اللفظي وبين الممارسة العملية. ولعل هذه سمة دائمة لهذا الحزب الذي تعجز أفكاره عن اللحاق بما يعتبره أحد قادته ميشال روكار الدروس المستفادة من تجربة السلطة. غير ان روكار نفسه لا يبدي حماساً فائقاً لجنوح بلير وشرودر ويطالب بالاعتراف بوزن التاريخ داخل كل أوروبي من اجل ألا تفرض وحدة قسرية على حساب تنوع طبيعي. ان العنوان الكبير لمؤتمر باريس يتناول مصير وأطروحات هذه "الأممية الاشتراكية" في ظل العالم الناشئ الذي يراد له ان يلغي السياسة تقريباً لمصلحة الاستسلام أمام القوى الصاعدة. وبهذا المعنى، واذا كان ممكناً القول ان التفتيش عن الاشتراكية في لقاءات فرنسا هو اضاعة وقت، فإن ما يمكن اضافته هو عبث التفتيش عن الأممية ايضاً. فلا كلمة عن احوال العالم لدى "الرفاق" البريطانيين والألمان، أما الفرنسيون فيفردون لذلك بعض العناوين: الشرعية الدولية، اصلاح النظام النقدي العالمي، دور المنظمات الاقليمية، الخ... غير انها عناوين بعيدة جداً عن تقديم جواب شافٍ على الزيادة الهائلة في الهوة الاجتماعية داخل كل بلد أو على صعيد عالمي. لا أممية ولا اشتراكية، اذاً، في مؤتمر باريس، انه مجرد محاولة للتكيف مع عولمة ظافرة... وبشروطها.