قد يجلب الوقوف عند صورة الفنان التشكيلي، اليوم، صوراً مضللة وينشىء أحاديث عامرة بسوء التفاهم، إن لم نحسن تعيين الموقع الذي نرى منه إلى الفن والفنان: فمن أنا المتحدث عن الفنان، ومن هو بالمقابل؟ وكيف أعين علاقتي بإنتاج الصورة هذه، أو بإنشائها؟ كان بودي، بداية، وتسهيلاً للعرض، أن أقف إزاء الفنان، في مواجهته، في موقع المصور الفوتوغرافي، إلا أن تلبية هذه الرغبة تحتاج مني الانتقال إلى بلدان وأمكنة عمل وعرض عديدة، وتقتضي مني معرفة تقنيات ولغات وسبل اتصال مختلفة، وظهر لي - في خاتمة الرحلة التصويرية - أننا نطلق اسماً واحداً، "الفن"، وعلى صانع، هو "الفنان"، فيما لا يشترك الاسم، ولا الصانع، بالمسميات نفسها، في هذه الثقافة أو تلك، ولا في هذا المجتمع أو ذاك. وحتى لا يبدو كلامي خفيفاً بخفة رحلتي هذه، أسوق مثلاً أو مثلين عما أذهب إليه: فما نطلق عليه تسمية "الفن" يعني في اليابان حفل شاي أو تصميم باقة زهر، فيما يندرج هذان العملان في أوروبا في آداب الطاولة. وما كان سيقول قريبي في قريتي لو قيض له، مثلما قيض لي في الثمانينات، رؤية الفنان كريستو، وهو "يرزم" أحد الجسور في باريس بأقمشته البيضاء؟ الصور متعددة، عدا أن معانيها مختلفة، وقد لا تشترك في فيلم تصويري واحد. ومن أراد جمع الصور يحتاج - مثلما أحتاج في رحلتي - إلى دليل وشروحات، لا تخفي مصاعب الانتقال. ومن هذه المصاعب الوقوع في الترجمة - على نفعها - ومن أنواع الترجمة ما نحتاج إليه عند الوصول إلى منطقة حدودية بين بلدين: الاضطرار إلى تبديل العملة، وفقدان بعض قيمة ما تحمله مقابل ما تشتري منه، عملاً بما تقوله العبارة الفرنسية: "نفقد دوماً في التبديل". إلا أنني لست بخفة ابن بطوطة لكي أتنقل بين المواقع المختلفة للفنانين، وليست معرفتي بسعة ما يقدم عليه كتاب الموسوعات الجامعة، لكي أتحدث عن معاني "الفن" المتعددة. ما أقوى عليه هو تصفح صور متداولة عن الفن والفنان، على أن أجري مقارنات بينها، مثلما نفعل عندما نُقَلِّب "ألبومات" الصور، وننتبه إلى تغيرات في الهيئة والوقوف والتصرف بين عهد وآخر من حياة الشخص عينه. ويشفع لي في هذا التصفح كوني عرفت بعض الفنانين، من غير تجربة، وعرفت بعض معاني هذا الفن المختلفة، خصوصاً أنني، مثل غيري، أميل في صورة متزايدة إلى الانتقال والاتصال بين التجارب الثقافية والفنية المختلفة، وأقبل في صورة مزيدة - وفي هذا مصدر خشيتي مما أتحقق منه - على عهد من التنميط الفني، وبعضهم يسميه "العولمة الفنية". العولمة قديمة، بخلاف ما يظنه بعضهم، وأدلتي على ذلك كثيرة. ومنها أنني أرتدي هذا البنطلون منذ أن قرر السلطان محمود الثاني سنة 1826 ارتداء الزي الأوروبي، وتعميمه على البلاط، والناس كذلك. ومن أدلتي كذلك أن فائق حسن انتقل مع عدد من تلامذته والفنانين المتأثرين فيه إلى الريف العراقي طلباً لتصويره، مثل فان كوخ أو أقرانه، ولو بعد أربعين سنة على حصول حركة الانتقال من المحترف إلى الهواء الطلق. وهو ما فعله صليبا الدويهي بانتقاله في السنوات عينها من بيروت إلى وادي قاديشا شمال لبنان، أو عمر الأنسي بدوره إلى جرود كسروان جبل لبنان. والعولمة قديمة، وإن كانت حركة الاتصال والتفاعل أقل سرعة في القرون السابقة مما هو عليه انتقال صورة الفنان كريستو عبر الشاشات الصغيرة، في أيامنا هذه. إلا أنها الحركة عينها كذلك التي جعلت عبدالرحمن الجبرتي ينظر بعين الدهشة والاستغراب إلى فعل المصورين الفرنسيين في حارة السناري، في القاهرة، أثناء حملة بونابرت على مصر، وهي التي جعلت كذلك داود القرم ينتقل بحراً من بيروت إلى روما، سنة 1870، لتعلم فن اللوحة المسندية. عولمة قديمة، إذن، وتدعونا إلى تصفح ألبوم التصوير الغربي على أن نجد في بعض صوره المؤسسة بعضاً من صور الفنانين السابقة، على أمل التقاط صورة "حية" للفنان، اليوم. *** لن أستعرض ما في الألبوم من صور، إذ أن بعضها متكرر، أو لا يضيف سوى تفصيلات أو تعديلات خفيفة عما هي عليه هيئات الفنانين. أكتفي بعدد من الصور، بل بصورتين، واجداً فيهما "وضعيتين"، أو "طلتين" للهيئة، مثلما يقال في التصوير الفوتوغرافي. 1 : الصورة الأولى : الفنان المتميز المنعزل أعلق على هذه الصورة بحكاية، بل بطرفة أجد فيها الداعي إلى التقاط هذه الصورة وتكريسها: رفض الفنان الايطالي دوناتيلو في القرن الخامس عشر نزع قبعته احتراماً واجلالاً لمطران "بادو" اسم منطقة ايطالية، بحجة انهما متعادلان في الأهمية، أي أن المطران في الكنيسة هو بأهمية الفنان في المجتمع. الدعابة ظريفة، ربما، إلا انها لم تكن كذلك ابداً، وحملت في وقتها دلالات لافتة، فتداولتها الأسر الثرية والأوساط الكنسية والجماعات الحرفية في المدن الايطالية: الفن يستقل عن الكنيسة، ويقف إزاءها وقفة الند للند، وتبدلت بالتالي علاقة الفنان بمواقع السلطة. طرفة أخرى: يبعث الثري فرنسيسكو غونزاكا رسالة إلى ممثله في روما، يأمره فيها بالطلب إلى الفنان ميكيلنجيلو، "مع فائق الاحترام والتقدير"، "التكرم والتفضل، والتنازل لتنفيذ وإنتاج لوحة لي، تبعاً لذوقه"، ويضيف غونزاكا: "لا يعنيني كثيراً هل كان العمل الفني لوحة أو منحوتة. يعنيني فقط الحصول على عمل فني من وضعه. وإذا حدث مصادفة أن سألك عن الموضوع الذي نرغب به، فقلْ له إن رغبتنا تقتصر فقط على الحصول على عمل منتج وفق إلهامه الخاص". .... حدث هذا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، في المدن الايطالية "الحرة"، حيث تم انتقال القرار من الكنيسة إلى الوكلاء والوسطاء العلمانيين، اي إلى المجالس المحلية والمجموعات الحرفية الكبرى والأعيان والأسر الثرية، وسط ازدهار قوي للاقتصاد الحضري. حدث هذا في المدن الأساسية، مثل سيينا وفلورنسا، وفي المدن الصغيرة، مثل بيزا ولوقا وغيرهما. وكانت الطبقة الجديدة تطلب من الفنانين، بداية، إنتاج أعمال فنية لتقديمها هدايا الى الكنائس والأديرة، ثم ما لبثت ان طلبت منها أعمالاً فنية... دنيوية. باتت تزدان، واقعاً، منذ منتصف القرن الخامس عشر، قلاع الأمراء والنبلاء وقصورهم باللوحات والمنحوتات. واحتفظت كتب التاريخ بأوصاف تلك القصور والقلاع المزينة، كما عرفناها في ممتلكات عدد من الأسر. تغيرٌ في المجتمع، في مواقع السلطة، يطاول أيضاً موقع الفنان الاجتماعي. فحتى بدايات القرن الخامس عشر كان الفنان في مرتبة دنيا، ويعد صانعاً من مرتبة عالية، عدا ان أصول الصناع الاجتماعية أو تحصيلهم العلمي ما كانت تؤهلهم أو تدفعهم في سلم الترقي الاجتماعي: اندريا ديل كاستانيو ابن فلاح، وباولو أوتشللو ابن حلاق، وفيليبو ليبي ابن قصاب، والأخوان بولاجولي ابنا بائع طيور. يجمع أكثر من مؤرخ فني ل"عصر النهضة" على ان ميكيلينجيلو هو أول فنان صممم وحده، وفي صورة مستقلة، عمله الفني كله، ويعتبر بذلك أول الفنانين المحدثين. فحتى نهاية القرن الخامس عشر كان أداء الأعمال الفنية يتم في قوالب جماعية، وكان عدد من المساعدين والعمال يحيط بالفنان - المعلم، خصوصاً أن الأعمال الفنية المطلوبة اللوحات الجدارية خصوصاً تحتاج، على مستوى التنفيذ، إلى خبرات وجهود عدة، لا يقوى فنان واحد على القيام بها مطلقاً. من هذه الورش انبثق الفنان - الفنان الحديث..... 2 : الصورة الثانية : الفنان المشّاء ذو المخيلة: يحلو لي، وأنا أقَلِّب ألبوم الصور هذه، أن أتوقف عند صورة سينمائية، عند المشهد الختامي للفيلم الفرنسي "يوم أحد في الريف": يقوم الفنان العجوز، إحدى الشخصيات الرئيسية في الفيلم، بفتح النافذة الشديدة الإغلاق في محترفه، ويغير وضعية الحمالة المسندية بأن يوجهها صوب النافذة المفتوحة، وباتت بالتالي أنوار الحديقة تنعكس على ألوان اللوحة. خرج الفنان العجوز بلوحته، ولو بعد عمر طويل، إلى الحديقة، إلى الطبيعة، وهذا ما فعله شعراء قبل الفنانين الانطباعيين، وشهدنا معهم - بل مع "مشيهم" - التعريفات الأولى للحداثة. وشارل بودلير 1821-1876 هو الذي أعطى الصفةmoderne "الحديث"، والمصدرmodernitژ "الحداثة" محتوياتها الشعرية والمعرفية، وذلك في عدد من المراجعات الفنية، ورد ذكرها في مؤلفاته الكاملة تحت عنوانين: "صالون 1859" للفنون التشكيلية و"مصور الحياة الحديثة". هكذا يفتتح بودلير رسالته المعنونة ب "الحداثة": "هكذا يمضي، يجري ويبحث. عمَّ يبحث؟ من المؤكد ان هذا الرجل، الذي رسمته، هذا المنعزل المتمتع بمخيلة نشيطة، المسافر أبداً في صحراء البشر الكبرى، يهدف إلى عمل أسمى مما يقوم به المتنزه العادي، إلى عمل أكثر عمومية، هو غير البهجة الظرفية العابرة، انه يبحث عن هذا الشيء الذي أرجو السماح لنا بأن نسميه بالحداثة، لأنه لا توجد كلمة أفضل للتعبير عن الفكرة المقصودة. يقوم هذا العمل عنده في الاستخراج من الموضة السارية ما يمكن أن تتضمنه من شعرية في التاريخي، ومن أبدي في الموقت". يؤكد لنا محققو الطبعة الاولى 1886 من أعماله الكاملة، التي خرجت فيها مقالاته هذه، أنه عني ب"المصور الحديث" هذا، الفنان قسطنطين غيس، مكتفياً بالإشارة إلى الحرفين الاولين من اسمه في متن المقالات، إلا أن ما يرسمه بودلير في هذا "البورتريه" للفنان يشبه "البورتريه" الذي يقوم به الفنانون لأنفسهم، والمسمى ب"البورتريه الشخصي": انه "بورتريه" بودلير نفسه، ومن خلاله "بورتريه" الحداثة الاول. ففي نتاج هذا الشاعر، كما في حياته، نتعرف الى انبثاق الحداثة، وعليها بوصفها القطيعة التاريخية. ففي نتاجه يقطع الشاعر مع الرومانسية مثلما يفتتح معالم شعرية مغايرة، حدد بودلير أعلاه بعض معالمها: الشاعر المشاء، الباحث، المنعزل، صاحب المخيلة النشيطة، المستهدف لجمالية تنطلق من الساري إلى التاريخي، ومن الموقت إلى الأبدي. ومعه يتحول الشعر إلى عملية تطهيرية روحية تحرر القوى الداخلية باللجوء إلى المخيلة، ويصبح بالتالي أشبه ب"الكريستال"، أو ب"البيت الذي ينير حواليه أيضاً"، راسماً آفاقاً لقصيدة لا تزال مجهولة .... لهذا "يبدو الجمال غريباً دائماً"، لا بل نشازاً أيضاً، أي خارجاً على المألوف حتى أن بودلير جعله بمثابة المفهوم الشعري: طلب Tالغريب في الموجودات. أين يجد الشاعر هذا "الغريب"؟ يجده أينما كان، طالما انه "مراقب، متنزه وفيلسوف" في آن. يجده "في العصر، في الموضة، في الأخلاق، في الشهوة"، بوصفها عاملاً نسبياً وظرفياً، وليجعل منه "عاملاً أبدياً ثابتاً": "هو مصور الظرف وكل ما يوحي به من أبدية". ويخلص بودلير من هذا كله إلى القول بأن "الحداثة هي العابر، الهارب، المحتمل ونصف الفن، الذي يعد نصفه الآخر الأبدي والثابت". .... 3 : الصورة الثالثة : صورة "حية": كيف لنا أن نقلِّب ألبوم الصور عن الفنانين، وهو يغص بالكثير مما يعود إلى العقود الأخيرة، وهو متناقض أو متداخل بما لا يتيح إيجاد ترسيمة نمطية؟ والسؤال عن صور الفنانين هو سؤال، قبل ذلك كله، عن الفن، أو عن صيغه. وهي صيغ - إذا شئنا التذكير، ولو سريعاً - كثيرة، تتوزع وتتعدد حتى أن الواحدة منها، بخلاف الانتقالة من الكلاسيكية إلى الانطباعية، ومن التشبيهية إلى التجريدية، تتلو السابقة عليها في سنوات قليلة، ما يدعونا ربما إلى اعتماد الصورة التلفزيونية المتتابعة، بدل الصورة الفوتوغرافية، لالتقاط صور الفنانين الحالية. وهي صور ترسم في تتابعها، في تلاحقها السريع، مشهداً شديد التنوع والتعدد، يحكمه في صورة ثابتة ومتجددة: طلب الإدهاش، طلب التميز، وتجديد صيغ التنافس علي "إنتاج النادر" كما يسمي بيار بورديو حركة الفن الحديث منذ أواسط القرن التاسع عشر. ولقد بلغ التنافس في التمايز حدود القطيعة مع أساسيات اللوحة المسندية، كما جرى إيضاحها في الصورتين السابقتين، وذلك في تجارب "الفن الاختصاري" MINIMAL ART، أو "فن المنشأة" INSTALLATION، أو "الأداء التشكيلي" PERFORMANCE، أو "الفن الجسدي" BODY ART أو "الفن البيئوي" وغيرها. خرج الفنان، إذن، من الكنيسة إلى محترفه، ثم منه إلى الطبيعة، وها هو ينزل إلى الساحة العمومية، في الشارع أو في الحديقة، أو يتوسل لفنه وسيلة جماهيرية تذيعه على أوسع نطاق، وعلى مدى أيام. وهو، عهد "الخروج من اللوحة البيتية" لإنتاج أعمال فنية، وبمشاركة العابرين أحياناً. وفي ذلك يتأثر الفن، في مفهومه وصيغه، بما أصاب غيره، ولا سيما المطبوعات على أنواعها، من هيمنة المرئي الجماهيري على غيره، حتى أن بعض التجارب مثل أندي وارول طلب قبل غيره معالجة للصورة، لا على أساس فيزيائيتها مثلما قامت عليه تجارب الفن الأوروبي، وإنما بوصفها صورة تلفزيونية أو إعلانية متكررة. وهي الصورة التي نجدها في الساحة الواقعة أمام "مركز بوبور" الباريسي، حيث أن الفنانين الطالعين مثل جمهور الذواقة والفضوليين يلتقون في الساحة للتعرف علي معروضاتها السريعة والزائلة بقدر ما يأتون لتتبع معروضات "المركز" نفسه. ونتحقق في دعاوى هذا الفن لنفسه من كونه طلب "الضدية" عمداً مع التجارب التشكيلية السابقة: تهرب من المعارض كاحتفالات تجارية منظمة، ومن صالات العرض بدعوى "الاتصال الحي" بالجمهور، إلا أنه أقام تواطؤاً أقوى، إذا جاز القول، مع مؤسسات أخرى مهيمنة ونافذة من المتحف والبلدية إلى جهات "الرعاية"، لا بل أوسع تأثيراً من المتحف وصالة العرض، وهي مواقع تواجد الجمهور أو التلفزيون والفيديو وخلافها. .... لن نعدد هذه الدعاوى، فغرضنا لا يقوم على السجال، بل على التبين. وهو يؤدي بنا إلى ملاحظة الأمر التالي، وهو ان هذه التجارب انطلقت من الولاياتالمتحدة في المقام الأول بالإضافة إلى ألمانيا وايطاليا، وأنها "تحددت" بأعراض هذه النشأة بالمقابل. هذا يتصل بمواد هذا الفن، حيث جرت الاستعاضة عن الريشة والمنقاش وخلافها بشاشة التلفزيون أو بالصور المحسوبة إلكترونياً وغيرها. أي أنه فن تحدد في إنتاجه بمعطيات غالبة في مجتمعه نفسه. وهو ما نتبينه في الأعراض التي وسمت تكويناته: فن متصل بشروط الاتصال الحديث فيديو، كومبيوتر...، بل بالعروض الحية مثل "الشو" - SHOW- الأميركي، وهو ما نسميه: "الحدث" السمعي - البصري. بتنا أمام عمل لا تستقيم عناصره بالرؤية البصرية وحسب، بل بالسمع ايضاً، ولا تقوم الرؤية على الالتفات أو التأمل في صورة مقترحة بل على "تتبع" صورة معروضة. التغير، إذن، بل القطيعة تصيب طبيعة العمل الفني ومؤداه أيضاً. بتنا نرى في طريقة مختلفة: نرى ونسمع في آن، نرى ونقرأ، نرى إلى حدث ذي سرد حكائي في فقرات، اي إلى عمل متصل ومتتابع في الزمن. هذه التجارب تقطع بالتالي مع اللحظة، أي مع الوقع المكثف والمركز والسريع الذي كنا نتلقاه مع اللوحة، وتجعل من المتابعة الزمنية أساساً لتقبل العمل الفني. تقطع مع اللقطة السريعة لصالح جلسة المتابعة، التي هي اختصار مكثف للجلسة أو القعدة أمام التلفزيون أو في صالة السينما، لا الوقفة أو الالتفاتة إلى اللوحة في صالون أو في صالة عرض. تغير الزمن، إذن، وتغيرت أيضاً علاقة العمل الفني بالمكان: انتفت الصلة بين اللوحة والصالون البيتي، لا بل في بعض الاحيان بين العمل وصالة العرض لصالح المتحف تحديداً، أو الساحة العمومية. هذا لا يتصل بإسقاط اللوحة عن حائطها القديم وحسب، بل بجعل المتحف والمجال العمومي أساساً للعرض: الفنان في ذلك هو الوسيط، وأشبه بالمخرج السينمائي، إذ أن له القدرة على "التحريك"، وله سلطة البدء والإيقاف وتوزيع المواد والعناصر المشاركة في إنتاج العمل. كما يمكن لنا أن نتحقق من هذه القطيعة في المادية التي يظهر بها صنع العمل الفني: فالعمل في "الفن الاختصاري" لا يحكي، على سبيل المثال، في صورة مباشرة أو غير مباشرة، تاريخ صنعه أو سيرته، مثلما هو عليه الحال في الفن السابق عليه، ذلك انه فن تنفيذي يقوم على إنزال الشكل في قالبه المادي، بعد ان استقرت صورته سابقاً، أي قبل صنعه. تفتقد اللوحة، إذن، ماديتها المعلنة لها، أي ما تقوم عليه من صلة تتابعية في الصنع، ودالة على الصنع في تجاوره وتخالطه. .... لذلك لا "يموت" هذا الفن، مثلما يروج البعض، بل يبحث عن وسائل ذيوع جديدة، تتعدى انتقال اللوحة السابقة من بيت إلي آخر، أو من متحف إلي آخر. وله في ذلك قدرة على الانتشار، على أن يصبح نمطاً معمماً في عهد "العولمة المتفاقمة"، بسرعة انتقال أنماط الغناء والذوق والزي وخلافها من بلد إلي آخر. .... ولكن ألا يفقد الفن في عهد العولمة هذه بعضاً من حساسيته الفردية، مفقراً في ذلك قوة التلقي الجمالي وشدة الصنع التي طالما وثقت أسباب الفن بالحرفة؟