للمرة الأولى يتعرّف الجمهور اللبناني الى حركة «السقاخانة» الفنية الإيرانية والى بعض فنانيها في معرض جماعي تقيمه «غاليري جانين ربيز»، بعنوان «كتابة فن». وفي أعمال الفنانين يندمج الفن التشكيلي على اختلاف أنواعه بفن الخط أو الكتابة لتنجم عن هذا الاندماج مقاربة فنية جديدة، إيرانية الهوية. هنا مقالة عن المعرض ترجم عن اللغة الإيرانية. خلال الأعوام الأخيرة في الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي، حصل أول ظهور جدّي للخط الفارسي في الفن الإيراني الحديث في أعمال فناني «السقاخانة»، بوحي من الفن الشعبي التعبدي وتعبيراً عن إرادة الفنانين في إبراز تراث وطني مميز في الأعمال الفنية. بدأ هؤلاء الفنانون حركة لنقل الفن الإيراني الحديث نحو التراث الإيراني الذي كان الى ذلك اليوم يصف مشاهد من الحياة الإيرانية بأساليب قديمة من الفن العربي. ولأجل إتمام مهمتهم أدخلوا عناصر من التراث الوطني والشعبي والديني كالكتابة مثلاً. ولعل مقاربة الكتابة في الفن الإيراني المعاصر ترسخت حينذاك بعد فترة طويلة من الانحطاط وغياب للتجدد في هذا المجال. «السقاخانة» حركة فنية تبلورت كجواب إيراني على الفن المعاصر في الغرب. وهي نتيجة صراع مستمر داخل الفن الإيراني بين التقليد والحداثة. ان استعمال الكتابة في هذه الأعمال هو على عكس ما كانت عليه. كانت الكتابات تقول ان لا أهمية لمعنى الكلمات المستعملة، ذلك أن القدرة الأساسية للفن المعاصر ركزت على الشكل الى حد أنها سعت الى التخلص من المضمون والوصف الذي تحمله الكلمات. إن عناصر الخط، كما المئات من العناصر التقليدية، استعملت فقط كأشياء لها أشكال غريبة وتختزن طاقات بصرية عالية. هكذا كان الخط كسائر العناصر المزيّنة مفصولاً عن خلفيته الأصلية وموضوعاً في بيئة جديدة وفي حقل غريب. كان شارل حسين زندرودي، برويز تناولي، فارامارز بيلارم، مسعود آرابشاهي، صادق تبريزي، منصور غندريز وناصر عفيسي، من أهم الفنانين في مدرسة «السقاخانة». وقد حصلت هذه فور ظهورها على شهرة كبيرة، وترحيب عالمي وقلّدها كثيرون. في الأعوام الأخيرة، ظهرت أعمال مستلهمة من الكتابة قام بها فنانون، عملوا على عكس ما قام به فنانو «السقاخانة» الذين سبقوهم، إذ جاءت أعمالهم سطحية تسعى الى التجاوب مع ما يطلبه سوق الأعمال الفنية لجهة تضمّنها نكهة غربية وشرق أوسطية. وقد كانت الكتابة أحد العناصر الملبية لهذا المطلب وأوضحها، فخلق هذا حركة مفاجئة طارئة ميزتها حشر الكتابة الإيرانية في اللوحة الفنية بأي طريقة. هذا الميل المزيف فرض الحاجة الى دراسة التيارات في الفن الإيراني المعاصر دراسة دقيقة وبخاصة تلك الأعمال التي تستعمل النصوص والكتابة. وبحيث إن «السقاخانة» هي حركة فنية انطلقت من الغرب ودخلت ساحة الفن الإيراني، فكان من الطبيعي أن نرى فناني هذه المنطقة يدخلون في هذه الحركة حاملين أساليبهم ولغتهم الذاتية. يقدم هذا المعرض ثمانية من هؤلاء الفنانين مع اثنين من مؤسسي «السقاخانة» برويز تناولي وصادق تبريزي. خلال تجربته الممتدة على أكثر من خمسين سنة تعاطى برويز تناولي، النحات، العالم وصاحب المجموعات الفنية، كل أنواع الأعمال الفنية والتشكيلية. استماله شكل اللفظة «الهيتش» بسبب الشبه بينها وبين شكل الجسم البشري. واعترف تناولي أيضاً بهذه الدلالات الواضحة والمستسرة، ف «الهيتش» تصبح شيئاً في حين أنها في معناها الحقيقي تدل على اللاشيء. أبدع صادق تبريزي منمنمات فارسية مستعملاً الكتابة في شكل «نستعليق» مكسرة مالئاً بها الفراغات في اللوحة. وتخلص في ما بعد من التصاوير المعبّرة بالأشكال واخترع أشكالاً تجريدية منطلقة من الكتابة على المخطوطات. تستخدم الكتابة في العادة لتقول معنى، وقيمة مضمونها هي أكثر ما استخدمه واستوعبه الفن. دخلت الكلمات والجمل العمل الفني ليس فقط بسبب مظهرها المرئي بل أيضاً لأجل ما تتضمنه من معنى. هذا المنحى الذي عاد الى الظهور أخيراً في اللوحات المجردة المنطلقة من الأدب التي وضعها شهريار أحمدي، ومن اللوحات التعبيرية آزاده رزاق دوست وفي مجموعة «من هون جيلي؟» لهورا يعقوبي. في لوحات شهريار أحمدي يتوقف الزمان عن مسيره. رسم هذا الفنان دائماً في فترات البحث عن المعنى والمضمون في الأدب القديم وفي تاريخ إيران، وبما أنه متمرّس في الكتابة، فهو أدخل الى التركيبات التجريدية مقاطع من الشعر في شكل كتابة مسترخية مدفوعة الى أقصى حدودها والى ما دون الشكل. هكذا تحفل أعمال أحمدي بالألغاز والأسرار. تأخذ لوحاته المشاهد الى أرض وزمن بعيدين عبر الأسطورة والخرافة فقط، فهي حافلة بالحكايات والقصص التي لو جمعت في كتاب لاستغرقت قراءتها أياماً. لكنها على صفحة اللوحة، تخبر المشاهد أسرارها مباشرة ودفعة واحدة. استولى اللون الأحمر عند آزاده رزاق دوست على الورد والقلب وفي مجموعة «أزاهير الشر» المسماة باسم المجموعة الشعرية لشارل بودلير، فإن قوة تعبير اللون الأحمر هي أول ما ينتبه إليه الناظر الى أعماله، ضربات الريشة القوية والمساحات المنضبطة بيد الفنان توحي بالدم، بالحب والشغف وتحرك شعوراً داخلياً. تسأل هورا يعقوبي مرتكزة الى بيت من ديوان الشاعر الملحمي الإيراني الكبير فردوسي، عن مكانة المرأة في المجتمع، وتستعمل صوراً من حقبتين مهمتين في التاريخ الإيراني. في الصورة الأولى، المجموعة المسماة «من هو جيلي»، صورة مقتطعة لامرأة صفوية حاملة الراية لفريق من النساء اللابسات الغطاء الكامل للوجه وعلى الراية جملة معناها أن في الخط ما يربط المرأة الإيرانية اليوم بكل من سبقوها وبصرف النظر عن الزمن أو الموقع الذي تشغله المرأة. في الأعوام العشرة الماضية دخلت التيارات المنبثقة من الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا، الى أعمال الفنانين الشباب الذين راحوا يبتعدون من الأشكال غير النصية في الفن مرتكزين أكثر فأكثر الى الأعمال النظرية. هنا لا تستعمل اللغة كأشكال مصورة بل هي تستفيد من معناها المقروء لتؤدي غرضاً لغوياً. أحد هؤلاء الفنانين باربد كلشيري، الذي ينتمي الى هذا النوع وهو يخلق «عملاً يدوياً». وعمل كفنان وناقد فن، وسائله الفنية متعددة: من الفيديو، الى التركيب، الى الصورة الفوتوغرافية الى التصوير الوثائقي للشرائط المصورة والشعر المرئي. وأكثر أعماله يعتمد على اللغة والمضمون في الفن، ومستويات الأدب. ولعل متطلبات الإعلانات والتجارة في القرن العشرين أدخلت الرسم التخطيطي (غرافيك آرت) الى إيران بعيد ظهوره في الغرب. وفرض التواصل والأفكار الحاضرة والرسائل البصرية استعمال الأشكال الفارسية، وهذه أعادت الى الواجهة تراث الكتابة القديم. في هذه التخطيطات تظهر وجهتان تتقابلان دائماً في الفن الإيراني وهي تراث الماضي والتكنولوجيا الحديثة. ولم يلتقط هذا التداخل مثلما التقطه رضا عابديني. ان الهوية العميقة الإيرانية من جهة ونجاحه في الرسم التخطيطي عالمياً من جهة أخرى، يفصحان عن التزاوج المتزامن والعملي بين هذين العمودين الأساسيين في أعمال. أما شيده تامي، الشاعرة والفنانة التي لم تلق تدريباً فنياً رسمياً، فتركّز على «ذاتها» في لوحات ترسم وجهها على القماش، على علب الصودا وعلى الكراسي. في آخر أعمالها، تدور تامي حول شعرها في كتاب فني فريد من نوعه معروف تحت اسم «كتب الفنانين». هذا النوع يعود الى أشكال فنية حيث الكتاب هو ذاته عمل فني، يعترف به القرن العشرون إبداعاً فنياً. العمل كتاب موضوع في نسخ منفردة، يمكن أن يأخذ أشكالاً مختلفة، بما فيها اللفائف، مطويات أو أشياء مبعثرة محفوظة في علبة من الاوراق المطبوعة. صفحات تامي مملوءة بشعرها مكتوباً بيدها على اللوحات التي تمثل وجهها. فن الكتابة - الخط، جزء أساسي من الثقافة البصرية في الشرق الأوسط. أما هذا المعرض فيتميز بالطريقة التي استعملها الفنانون الإيرانيون. ولعل هذا المعرض مدخل يفتح أمام هذا المنحى الفني مجالاً أكبر.