كانت نظريتا الحل السياسي والحسم العسكري في الصراع العربي - الاسرائيلي، تنتميان الى مشروعين متناقضين لحل ذلك الصراع، يشملان كل جوانبه، وبنية وغايات اطرافه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بالاضافة الى التفسير التاريخي وأبعاد الحاضر والمستقبل، فضلاً عن طريقة إدارته. كما يشمل تصوراً لنوع السلطة وشرعيتها في الجانب العربي، وليس لكل ذلك علاقة بفكرة الحق كأساس للصراع والغاية منه، بقدر علاقته بطبعية تركيب تلك القوى. ولد المشروعان بالتأكيد مع بداية الصراع الشامل 1948. ولا بد من التوضيح، بادئ ذي بدء، أن قوى الحل السياسي السلمي ليست بالضرورة هي قوى السلام، وإن كانت الأخيرة جزءاً منها. وقد تضاءلت قوة أنصار الحل السياسي في الجانب العربي بعد الهزيمة في حرب 1948، وبعد سلسلة الإنقلابات العسكرية في سورية ومصر، من 1949 الى 1952، وفي خضم صرخات الانتقام للهزيمة التي نتجت بدورها عن صرخات الحرب. لكن قوى الحل السياسي في اسرائيل، تأخر اختفاؤها الى 1955، وقد انتصرت نظرية الحسم العسكري وسادت تماماً لدى الجانبين بعد صراع حاد متفاوت القوة بين انصار النظريتين لدى الجانبين، وبالتالي قادت الصراع في اهم مراحله وحتى منتصف السبعينات تقريباً، وبعد هزائم العرب الاستراتيجية، وضياع إمكان اللجوء الى العمل العسكري تماماً. ولا ينفي ذلك وجود قوى وجماعات من بقايا انصار الحسم العسكري لدى الجانبين حتى الآن مع فارق جوهري، وهو أنها لا تقود الصراع الآن خصوصاً بعد سقوط نتانياهو وهو ما يؤكد التلازم بين تلك القوى على الجانبين. وكان أنصار نظرية الحسم العسكري من العرب يرفعون شعار "إزالة إسرائيل" أو "التحرير من النهر الى البحر" أو "تحرير كامل التراب الفلسطيني". وكان نظراؤهم في اسرائيل يرفعون شعار "إسرائيل الكبرى" أو "أرض اسرائيل التوراتية"، أو "اسرائيل على أرض فلسطين الانتدابية ضفتي النهر"، وهكذا كان أنصار تلك النظرية على الجانبين وجهين لعملة واحدة. ولم يكن هذا التلازم يصنع شرعية متبادلة يمنحها كل طرف للآخر فحسب، بل صنع ذلك التلازم تعاوناً موضوعياً غير مباشر، نابعاً من طبيعة تلك القوى وتركيبها الأيديولوجي للقضاء على أنصار الحل السياسي لدى الجانبين. ويكفينا هنا توضيح كيفية تعامل أنصار نظرية الحسم العسكري من العرب بقيادة جمال عبدالناصر مع أنصار الحل السياسي من الاسرائيليين، وهو أوضح صفحات هذا الملف وأكثرها توثيقاً، ويوفر لنا ذلك الكشف المزدوج لطبيعة تلك القوى بالإضافة الى آليات التعاون غير المباشر في أخطر مراحل الصراع، غير انه يضيف كشفاً إضافياً مهماً ومستقبلياً، هو إثبات وجود جبهة أخرى "مستعرضة" داخل الصراع العربي - الاسرائيلي. هذا اذا اعتبرنا أن جبهة المواجهة العسكرية هي جبهة "طولية" حدودية، وتلك الجبهة الاخرى هي جبهة المواجهة بين قوى الحرب لدى الجانبين وفي مواجهتها قوى الحل السياسي وفي القلب منها قوى السلام لدى الجانبين ايضاً، بصرف النظر عن قوة تلك المواجهة أو ضعفها خلال مراحل الصراع الماضية. بعد انتصار اسرائيل في حرب 4819 وتوقيع اتفاقات الهدنة مع دول المواجهة العربية، خلال النصف الاول من 1949، وحصولها على اعتراف العرب في تلك الاتفاقات. ونتيجة الحرب حصلت على النصف الغربي لمدينة القدس كانت ذات صفة خاصة، وتحت ادارة لجنة دولية 10 سنوات في قرار التقسيم، وحصولها على 2500 ميل مربع اضافي، زيادة على حصتها في قرار التقسيم وهي 5600 ميل مربع بدأت الحرب وكان الاسرائيليون يسيطرون على 2000 ميل مربع فقط، ثم حصولها على الشرعية الدولية وعضوية الاممالمتحدة، كان من الطبيعي أن يحدث خلاف بين النخبة الحاكمة فيها حول التصور لصيغة تلك الدولة، ونوع علاقاتها مع جيرانها العرب. وانقسمت الآراء الى تيارين رئيسيين هما: اولاً: معسكر الحرب الذي كان يرى أن الفرصة سانحة لتأسيس اسرائيل الكبرى، وان لا بد من رفض أي حل سياسي يمكن أن يتحول الى ورطة ووسيلة ضغط على اسرائيل. كان يقود هذا المعسكر ديفيد غرين المعروف باسم ديفيد بن غوريون، مع يمين حزب "الماباي" الحاكم، ومنهم بنحاس لافون، وزير الدفاع، وموشى ديان وغولدا مائير سون وشمعون بيريز واسحق رابين وبنيامين جبلي وارئيل شارون. وكان يشايعه اليمين القومي والاحزاب القومية الدينية. ثانياً: معسكر الحل السلمي، وكان يرى أن الفرصة تسمح بإجراء تسوية تاريخية بين العرب واسرائيل، وانه يمكن بحث مشكلة اللاجئين، وعقد اتفاقات مرور، ومشاريع مياه مشتركة وتنمية قاعدة المصالح الحدودية والاقليمية المشتركة، كبداية للسلام الشامل. ثم نما ذلك التصور حتى قدّم موشيه شاريت زعيم هذا المعسكر برنامجاً متكاملاً لبدء التفاوض حول السلام الشامل، كما قدم ناحوم غولدمان، احد اعضاء هذا المعسكر، برنامجاً للتعاون الاقليمي، وبالإضافة اليهما ضم ذلك المعسكر يسار حزب "الماباي" الحاكم ومنهم يوسف تكواع وجدعون روفائيل وإلياس ساسون واليعازر ليفنه، وكان يشايعه أحزاب اليسار مثل "المابام" والاحزاب الاشتراكية والشيوعية، ورئيس الدولة حاييم وايزمان. ويمكن اعتبار الصراع بين المعسكرين هو صراع بين الامن والسلام في صورة قديمة، لكن المثير في الأمر هو أن المعسكرين كانا جناحين في الحزب الحاكم، وكانا اعضاء في المجموع الحاكمة، أي مجلس الوزراء. وكانت الهدنة العالمية السائدة بعد الحرب العالمية الثانية تعتبر خلفية مناسبة للمعسكر الثاني، الذي شرع في الاتصالات مع بعض القيادات العربية، ومن بينها بعض القيادات السياسية في مصر مثل: اسماعيل صدقي باشا والدكتور محمد حسين هيكل باشا قبل قرار التقسيم، ثم أثناء الحرب، ولم يكن الموقف في الحرب يدعم الشروط المصرية فتوقفت الاتصالات. ثم اتصل هذا المعسكر بأحمد عبود باشا رجل الصناعة الأشهر في مصر آنذاك في سنة 1950، وطلبوا منه التوسط من اجل المرور في الممرات المائية الدولية، فوافق بشرط ان ترسو السفن التجارية المصرية في كل موانئ اسرائيل وكان عبود باشا يملك اكبر شركة للنقل البحري، وان تقوم شركة "مصر للطيران" برحلات غير مقيدة الى اسرائيل، فرفض الاسرائيليون الطلب خوفاً من سيطرة وسائل النقل المصري، واحتكارها لتجارة اسرائيل، لكنهم عادوا فاتصلوا به سنة 1953، ووافقوا على شروطه، لكنه اوقف الاتصالات، وقال: "إن مصر تحكمها عصابة، ونحن لا نعرف الى أين نحن ذاهبون". كان شاريت يرى ان مثل تلك الامور يمكن حلها بالوسائل الديبلوماسية. لكن لافون وزير الدفاع ومن خلفه كل معسكر الحرب، كانوا يؤمنون بأن مشاكل اسرائيل لن يتم حلها إلا بالقوة. ولد شاريت في قرية فلسطينية هي عين سينان في قضاء رام الله، وتعلم اللغة العربية، وتربى بين العائلات العربية، ويبدو من مذكراته انه تأثر بذلك، وكان يعتقد أنه يعرف العرب بدرجة تجعله اقرب الى فهمهم. وقال عن ناحوم غولدمان: "كان قائداً اسرائيلياً نادراً لأنه من قلائل كانوا يرون العرب شعباً يساوي الشعب اليهودي، وأنه من الممكن التعايش بين الشعبين في المستقبل كجيران وأصدقاء". في سنة 1953، وفي انتصار مرحلي، أصبح شاريت رئيساً للحكومة ووزيراً للخارجية، وكان مستنداً الى دعم الحزب والكنيست، وهكذا استمر في اتصالاته السرية مع عبدالناصر. وكان عليه أن يسابق الزمن في وضع لا يحسد عليه، وكان محصوراً بين معسكر الحرب الذي احتل وزارة الدفاع، تحركه مؤامرات بن غوريون من مستوطة "سد بوكر"، وبين النظام العسكري في مصر المنخرط في صراع على السلطة، والمزايدة بالتالي على الموقف من اسرائيل، المزايدة نفسها اشتعلت مع حلفاء الامس، وهم "الاخوان المسلمون" الذين اتهموا عبدالناصر بالتفاوض سراً مع اسرائيل. وحوّل كل ذلك العالم العربي المصاب بجرح نرجسي نتيجة هزيمة 1948 الى كتلة تسيطر عليها غرائز الانتقام بعد ان سيطرت عليها من قبل غريزة الحرب ومن ثم الهزيمة وتطالب بالحرب تحت شعارات دينية وقومية فاشية… كان ذلك هو الجو العام. قبل الاحتفال بالذكرى السادسة لإنشاء اسرائيل وقف شاريت امام الكنيست في ايار مايو 1954 وأعلن انه مستعد للتفاوض في أي وقت، سواء من اجل حل شامل، او لحل جزئي تمهيداً لحل شامل، ولكن ذلك لم يؤدِ الى شيء. ولم تنقطع محاولات شاريت للاتصال المباشر عن طريق السفارة المصرية في باريس، او عن طريق الوساطات الاميركية والبريطانية. بعد توقيع معاهدة الجلاء بين مصر وبريطانيا في تشرين الاول اكتوبر 1954 حمل النائب العمالي البريطاني موريس اورباخ أول مقترحات مكتوبة من شاريت الى عبدالناصر، تصلح كبداية لمشروع سلام، وفي ذلك الوقت كانت الحدود المصرية - الاسرائيلية مسرحاً للعمليات المتبادلة، وبشكل شبه يومي بمشاركة "الاخوان المسلمين" وكانت مصر أسرت سفينة يونانية تحمل سلعاً اسرائيلية في طريقها الى إيلات، وكانت مقترحات شاريت من 7 بنود: 1- ايقاف الحملات الإعلامية ضد اسرائيل بسبب فضيحة لافون التي دبرها بنيامين جبلي رئيس قسم مصر في الموساد. 2- اطلاق سراح السفينة اليونانية بات غليم. 3- السماح بمرور السفن الاسرائيلية في قناة السويس طبقاً لاتفاقية الهدنة في سنة 1949، وطبقاً لقرار مجلس الامن في سنة 1951. 4- ايقاف الحملات الاعلامية المضادة والحرب النفسية على الجانبين. 5- ايقاف الاعتداءات على الحدود. 6- اقامة قنوات اتصال سرية للتوصل الى الصيغ العملية للعلاقات بين مصر وإسرائيل. 7- تبادل وجهات النظر حول مستقبل العلاقات المصرية - الاسرائيلية بصورة سرية. وبينما كان موريس اورباخ في طريقه الى القاهرة اعلن شاريت في مؤتمر صحافي "ان اسرائيل مستعدة لتوقيع اتفاقات سلام دائم مع من يشاء من الدول العربية، إنها مستعدة للمشاركة في تنمية وادي نهر الاردن طبقاً لمشروع لجنة "ماين" ومستعدة لتعويض اللاجئين الفلسطينيين عن كل ممتلكاتهم وثرواتهم التي تركوها. أما بشأن قرار الام المتحدة الرقم 194، الذي ينص على عودة من يريد من اللاجئين، فإن اسرائيل لا يمكنها سوى استيعاب عدد قليل منهم … كما ان اسرائيل مستعدة للسماح بخطوط مواصلات برية بين مصر ولبنان، وتقديم تسهيلات مجانية للاردن في ميناء حيفا، وطريق بري بين مصر والاردن عبر صحراء النقب، والسماح للطائرات المدنية العربية بالتحليق في الاجواء الاسرائيلية مجاناً ومن دون قيود، ومن اجل الاعتراف بحدود دائمة فإن اسرائيل على استعداد لإجراء تعديلات طفيفة على حدودها". وحتى يثبت شاريت انه قادر على التزام مشاريع السلام تقدم الى الكنيست في شهر كانون الثاني يناير سنة 1955، يطلب تفويضاً رسمياً لمواصلة السعي الى اتفاقات سلام بين اسرائيل والعرب، وصوّت الكنيست لمصلحته 54 صوتاً ضد 9 مع امتناع 7 عن التصويت. ولم يؤد ذلك الى اي نتائج لان عبدالناصر لم يرد. تعود فضيحة لافون الى 23 تموز يوليو 1954، حينما تم ضبط شبكة تخريب اسرائيلية في القاهرة، قامت بإشعال حرائق عدة في مؤسسات بريطانية واميركية ومؤسسات عامة مصرية، لأهداف عدة من بينها الاساءة الى العلاقات المصرية مع بريطانيا واميركا، غير أن الهدف الاول كما اتضح في ما بعد واثناء التحقيق مع بنحاس لافون وتبرئته سنة 1960، كان تطويق محاولات شاريت للوصول الى حل سلمي، خصوصاً انه رافقت ذلك عمليات اعتداء حدودية متبادلة، واثبتت لجنة التحقيق اولشن - دوري ان الامر كله كان مؤامرة دبّرها معسكر الحرب من وراء ظهر شاريت. وعلى رغم ذلك تواصلت محاولات شاريت مع القاهرة، غير ان إصرار عبدالناصر على الاحتفاظ بالاتصالات في حدود السرية، حتى ان أحد ضباطه صلاح جوهر في لجان الهدنة طلب من الضباط الاسرائيليين الحفاظ على سرية الاتصالات التي يجريها بعيداً عن الضباط المصريين الآخرين. ثم جاء إعدام المتهمين في قضية لافون في كانون الثاني يناير سنة 1955. وعلى رغم ان عبدالناصر هو من وقّع على الاحكام، فإنه ارسل عبر واشنطن رسالة في 10 شباط فبرابر يعتذر عن عدم اجراء اجتماع اتفق عليه مع ايغال يادين "في ظل الاوضاع السائدة في مصر"، ومع نياته الطيبة كلها لم يكن في وسعه أن يتصرف على نحو مختلف، وأنه يريد منهم أن يعلموا انه مستاء من تنفيذ الحكام الذي تم رغماً عنه. غير ان شاريت رد سلبياً على عبدالناصر، وقال: "إما ان ظاهره غير باطنه، واما انه غير قادر على تنفيذ وعوده، وسواء كان الامر هذا او ذاك، فإنه في نظرنا ليس اهلاً للتفاوض، وفي مثل هذا الوضع لا نرى فائدة من الذهاب الى اجتماع يمكن ان يفشل، ويمكن فقط أن يستغل كشهادة حسن سير وسلوك لعبدالناصر، من دون أن تتقدم المصالح شبراً واحداً". في 17 شباط فبراير سنة 1955 تنحى لافون، وعاد بن غوريون وزيراً للدفاع. فجر يوم اول آذار مارس اي بعد 11 يوماً فقط من عودة بن غوريون الى الوزارة حدثت غارة على غزة، وكان ذلك إيذاناً بأفول فرصة سلام حقيقية. في تلك الفترة كتب شاريت في يومياته الشخصية "إن شعوري العميق أنني مقبل على درب آلام جديد"، وهكذا اثبت موشيه شاريت أن محنة الرأي الآخر الذي ينادي بالحل السلمي لم تكن لدى الجانب العربي فقط لكنها كانت لدى الجانب الآخر ايضاً. في 16 حزيران يونيو سنة 1956، استقال شاريت من وزارة بن غوريون نتيجة تصويت حزبي في 11 تشرين الثاني نوفمبر سنة 1955. وهكذا بدأت حقبة جديدة في الصراع بين فكي ثنائية الحرب والهزيمة. * كاتب مصري.