دارت دورة الزمن، سنوات طويلة، فإذا بالمطربة وردة الجزائرية تعود جزائرية وتستقرّ في الجزائر حيث مسقط الرأس ومطلع الحياة. أكثر من ثلاثين سنة من الاجتهاد والعمل والمناخ الفني المصري، وفي اللحظة الحاسمة قررت وردة أن تكون كما تحب أن تكون، بلا أي مجاملات، بلا أيّ رتوش، بلا أي اضطرار لإخفاء الحنين الصعب والانتماء الصعب. كأنما وردة الجزائرية، وذلك اللقب "الوطني" الجزائرية الذي ظل يلاحقها ولم يغب لحظة عن مرافقة اسمها حتى في عزّ الانتشار والشهرة والأضواء وبليغ حمدي الزوج والأسماء الكبيرة في موسيقى مصر... كأنهما معاً حالة واحدة لا تستطيع التراجع، بل كأنها أدركا أن كل شيء زائل، وان ما يبقى هو العودة الى الجذور، فالتصقا على حبّ. والزائل هو ذلك الضجيج الإعلامي والفني، وما يبقى هو تراث له اعجاب وعليه نقمة في آن... والواقع أن وردة الجزائرية في السنوات الأخيرة كانت نقطة سجال لدى الجمهور. أحبّها جمهورها وأضافت اليه جمهوراً آخر في الأغنية الإيقاعية الطنانة الرنّانة التي افتتحت عهدها الملتبس ب"بتونّس بيك" وأكملت الطريق بمثيلاتها، بل بأكثر انحيازاً للإيقاع العالي الذي كاد يلتهم صوتها أحياناً. كما أن جمهورها، في بعض متذوّقيه العارفين، كان غاضباً لأنها أضاعت "تاريخاً" جميلاً فيه كوّنت التجربة الغنائية المميّزة بالألحان "الطويلة"، ولأنها كانت في كل مناسبة إعلامية تعلن موت "الأغنية الطويلة" فيزداد حنق الذين يعرفون أن صوت وردة لم يأخذ حجمه الحقيقي في المكتبة الغنائية العربية إلاّ بقدرته الطيبة على أداء تلك الأغنيات المكثفة في حالاتها التعبيرية. كانت وردة الجزائرية في مرحلة خطرة من مراحل حياتها الفنّية تبحث عن خروج من الصورة الجاهزة التي وضعت نفسها فيها، ليس بسبب أجواء تلك الأغنيات وإنما بسبب التكرار الذي راح ينتاب صوتها في أسلوبه الأدائي، فما وجدت أفضل من خشبة خلاص في اغنية "بتونس بيك" التي حرّكت نبضاً شبابياً معيّناً في حنجرتها ثم في مزاج جمهور الشباب الذي أقبل بقوّة يستمع الى وردة الجديدة. وقد استساغت وردة ذلك الإقبال، وحفرت فيه عميقاً وأشبعت نفسها وصوتها منه عملاً غنائياً بعد عمل، وشريطاً بعد شريط حتى دخل هو الآخر في الصورة الجاهزة نفسها التي أخرج نفسه منها ذات يوم، ولم يكن الوقت طويلاً جداً بين الدخول في هذا الجوّ والخروج منه أو المحاصرة داخله، ولو سئلت وردة الجزائرية اليوم عن حالتها الفنية لأجابت أنها تبحث عمن يخرجها من الأغنية "القصيرة". وقد يكون الانقلاب في السياسة مفاجئاً ويستمر، لكن الانقلاب في الفن لا يمر بسهولة. يحتاج الانقلاب الفني الى وقت والى اختمار والى معرفة بالزمن والإيقاع النفسي للجمهور، ويحتاج أيضاً الى من يغذّيه بشكل يروح فيه يشبه السكين القاتل. وضربة الحظ في الأغنية قد تصيب، لكنها لا تبني العمارة الفنّية الثابتة، لأنها ليست ذات قواعد ثابتة وحقيقية. انها عبارة عن موضة ما أن تنتشر حتى تموت، وقد انتشرت "بتونّس بيك" وزميلاتها نحو عشر سنين، وشيئاً فشيئاً بدت كأنها تلعق دمها بعد لحس المبرد، وطحنت في طريقها أيضاً صاحبها الملحن صلاح الشرنوبي الذي كان يزهق روحه انتاجاً لأغنيات مماثلة جاهزة وتحت الطلب، فإذا به، الآن، هو الآخر، يطلّ على موضة أخرى، ولكن بطلتها المطربة سميرة سعيد، في جعل الإيقاع الذي تختصره الطبلة والطبلة الأصغر والطبلة الأكبر والطبلة التي بين بين، هو صوت المطرب أو المطربة بلا منازع، وإذا بقيت مساحة فارغة بين ثنايا القرقعة فيملأها الصوت، ويبدو أن وردة الجزائرية التي كانت سبّاقة في عُرف نفسها وعُرف بعض النقاد، في "ابتكار" موجة الأغنية الإيقاعية الشرنوبية، لا تزال تتلكأ عن ركوب مركب مشابه ل"ع البال" السميرة سعيدية حتى لا يقال ربّما أنها تقلّد. وردة الجزائرية، أخيراً، في الجزائر. قبل مدة أجرت عملية القلب المفتوح، ويقال أنّها تأثّرت سلبياً، في نفسها وصوتها بالعملية، وتريد أن ترتاح. غير أن قرار الاستقرار في الجزائر بعد حفلات ناجحة هناك، وبعد عودة أمن مفقود للبلد، قد يرمي أسئلة حول اعتزال قريب يجري الكلام عليه في الكواليس، بحيث يكون "اعتزالاً" في "القمّة" كما يصفه البعض. وأي اعتزال هو اعتزال نجمة في حجم "وردة".