في كل مرة يقدم فيها الفنان محمود حميدة على عمل، يضع الذين يحبونه ايديهم على قلوبهم. فالرجل يخاطر دائماً، يُقبل على ما يحجم الغير عنه. مجازفاته تبدأ ولا تنتهي. وهي تتراوح بين القبول بأدوار يقف فيها دائماً على الحبل المشدود، هزة من هنا او ريح خفيفة من هناك، ويضيع نعطي على هذا مثلاً واحداً: دوره في "المهاجر" من اخراج يوسف شاهين، دور استثنائي قد يكون من الصعب اقناع فنان معروف بأدائه. لكن محمود حميدة، حين قبله، لم يتردد، استوعبه جيداً، ادرك مخاطره.. لكنه في الوقت نفسه ادرك ما ينطوي عليه من قيمة فنية، وبين مجازفات من نوع آخر: الاقدام مثلاً على اصدار مجلة سينمائية انيقة وسخية في وقت تكاد السينما نفسها ان تصبح جزءاً من الماضي، او الاستنكاف عن العمل في التلفزة، حباً في السينما، في وقت يعتبر فيه العمل في التلفزة ملجأ للفنانين في زمن الكساد السينمائي، او، حتى، الاقدام على انتاج فيلم صعب ينصحه الجميع بأن لا مكان له في السوق، حتى ولو ان مكاناً كبيراً سيكون له في تاريخ السينما. نعني هنا بالطبع: "جنة الشياطين" ثاني افلام اسامة فوزي، الذي كان حميدة نفسه قد سانده - مجازفاً ايضاً - في فيلمه الأول "عفاريت الاسفلت". ولو ان مجازفة محمود حميدة في "جنة الشياطين" اقتصرت على تمويل الفيلم، بأمواله الخاصة، لكان الأمر بسيطاً، لكن محمود حميدة فعل اكثر من هذا. رضي ان يلعب دور البطولة، والبطولة لجثة! قبل محمود، الشاب المولع بالحياة، ان يلعب على مدى ساعتي الفيلم، دور رجل ميت. السؤال البسيط هو: علام يتكل محمود حميدة حتى يصل به الرهان الى هذا الحد من التهور والجنون؟ والجواب البسيط هو: يراهن على الفن وعلى ان الفن الحقيقي، حتى لو خسر، مادياً ومعنوياً، على المدى القصير، سيكسب على المدى البعيد. من هنا يمكن القول ان رهانات محمود حميدة كانت - وستظل على الأغلب - رهانات فنان، وفنان من النوع النادر، فنان لا يتردد دون الاعلان ان قدوته يحملون اسماء مثل زكي رستم واسماعيل ياسين وسراج منير ومحمد عبدالمطلب. ولأن محمود حميدة فنان حقيقي، كان لا بد لرهاناته ان تنجح، وحين تنجح رهاناته لا يعود من حق الذين يحبونه ان يضعوا ايديهم على قلوبهم. صحيح ان "جنة الشياطين" لم يقيض له ان يعرض تجارياً بعد، لكنه نال حتى الآن من التكريم والاحتفال آخر العنقود، ذهبية مهرجان دمشق السينمائي ما يجعل من صاحبه، كمنتج وممثل، شخصاً يشعر بالسعادة الغامرة. فكيف اذا تواكب هذا النجاح، مع فوز آخر، في فرنسا، حققه فيلم آخر، اي رهان مجنون آخر من رهانات محمود حميدة: نعني الفيلم الطويل الاول للسينمائي الشاب عاطف حتاتة، "الابواب المغلقة" وهو فيلم آخر يلعب فيه محمود حميدة دوراً هشاً، قد يكون من الصعب على اي فنان ممثل آخر ان يرضى لعبه، إن هو آثر الانخراط الدائم في لعبة النجومية؟ "عين"