يشير عنوان الكتاب «لقاءات مع رواد السينما الجديدة»، الصادر أخيراً، ضمن سلسلة الفن السابع التي تصدرها مؤسسة السينما السورية، الى مضمونه. فالكتاب، الذي أعدّه وترجمه الصحافي والمترجم السوري سعيد محمود، يضم نحو ثلاثين لقاء مع من يعتبرون اليوم نجوماً ورموزاً وصناعاً للسينما على مستوى العالم، سواء في مجال التمثيل أو الاخراج او الانتاج او التقنيات الفنية، وهي لقاءات منشورة في أهم صحيفتين فرنسيتين، هما «لو موند»، و «لو فيغارو». ولعل قيمة الكتاب تكمن في جمع هذه اللقاءات المنشورة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وترجمتها وتقديمها للقارئ العربي كي يتعرف الى آخر الانتاجات السينمائية، وقبل ذلك الى طبيعة تفكير السينمائيين وعملهم، وكيف تكون العلاقة بين فريق العمل السينمائي، وما هي العقبات التي تعترض صناعة الفيلم... وسواها من القضايا والهموم السينمائية التي يبوح بها سينمائيون معروفون، يدركون، بالطبع، جوهر هذا الفن وتاريخه وشجونه ووعورة الطريق التي تقود الى الاعتراف ومن ثم الشهرة والجوائز والحياة الرخية. قصيرة وسريعة واللافت ان اللقاءات قصيرة وسريعة، ذلك انها أُجريت لمطبوعة صحافية يومية، ومن هنا لا مجال للاسترسال والإسهاب، بل هي عبارة عن ومضات سريعة خاطفة، وتكاد تكون تلقائية وعفوية تقول الهم السينمائي بأقل مقدار من التنظير، ومن دون الإغراق في المصطلحات المعقدة، والعبارات النخبوية على رغم ان بعض الأسماء، بل جلّها، يملك رصيداً سينمائياً لا يمكن، بأي حال، تجاهله. وهذا لا يقلل من قيمة الآراء بل يمنحها نوعاً من التكثيف والتركيز، ذلك ان السينمائي يعلم ان محاوره سيصوغ الحوار من جديد، بما يتناسب مع المطبوعة، وبالتالي هو يقول جملاً قليلة متماسكة يصعب اختزالها او تعديلها. أسماء كثيرة ستحضر في هذا الكتاب من فرانسيس كوبولا إلى بيدرو آلمودوفار وجيمس كاميرون وأمير كوستوريتسا وستيفن سبيلبرغ وكونتين تارانتينو ومارتن سكوسيزي وكلينت ايستوود وجاك اوديار، مروراً بأسماء نجوم سينمائيين حققت نجاحاً وحضوراً سواء بمقاييس شباك التذاكر أو بمعايير النقاد مثل جولييت بينوش وميريل ستريب وجوليا روبرتس وجورج كلوني وليوناردو دي كابريو ومايكل دوغلاس... وصولاً الى عدد من الفنيين والتقنيين البارزين في مجال الصناعة السينمائية. هؤلاء وغيرهم، وكل من موقعه ومهنته، يتقاسمون صفحات هذا الكتاب، ويرسمون معاً لوحة بانورامية لصورة السينما في السنوات الأخيرة. يعبّرون عن خيباتهم وأحلامهم ومتاعبهم وهم يخوضون تجارب سينمائية اصبح بعضها علامات مضيئة في تاريخ الفن السابع، فيما لم يحظَ بعض الشرائط بالقدر ذاته من الاحتفاء على رغم الآمال الكبيرة التي داعبت خيال صنّاعها. إنها لعبة السينما، وحظوظها الخفية التي تسحر الألباب حيناً من دون سبب معروف، مثلما تخفق في تسجيل نجاح منتظر من دون سبب معروف أيضاً، ولعل هذا ما يعبر عنه كوبولا: «أسوأ شيء في الحياة هو عدم المحاولة». ويضيف صاحب «القيامة الآن»: «لسوء الحظ، لا يشجع صنّاع السينما على التجريب والمغامرة. شركات الإنتاج السينمائي لا تدار من جانب فنانين يحلمون بالإبداع، بل من تجار ورجال علاقات عامة. بالنسبة الي، الفن مخاطرة ولا توجد ضمانات للنجاح». ويشاطر كوبولا هذا الرأي الفرنسي ميشيل هازانافيسيوس مخرج فيلم «الفنان»، الذي حصد خمسة اوسكارات، «لم اكن احلم بالنجاح: ربما هو الحظ أو البرج الفلكي»، بل نُقل عنه ان كل أمانيه تتمثل في ألا يشتمه الجمهور وهو يشاهد فيلمه الصامت بالأبيض والأسود. «كان يعاملنا كأننا قطيع من الماشية». بهذه الجملة يختزل الممثل مالكولم مكدويل طبيعة تعامل المخرج ستانلي كوبريك مع فريق العمل في فيلمه «البرتقالة الآلية»، ويضيف: «لم يكن يعرف دائماً ماذا يريد، لكنه كان يعرف تماماً ما الذي لا يريده. كان من المستحيل أن يطفئ الكاميرا قبل أن يصور شيئاً سحرياً». أما تيم بيرتون، المخرج المعروف بصنع عوالم سينمائية متخلية، والذي كلِّف تقديم نسخة سينمائية حديثة من «أليس في بلاد العجائب»، فيرد على سؤال حول اختياره رئيساً للجنة التحكيم في أهم مهرجان سينمائي، وهو «كان»: «إن مهرجان «كان» عبارة عن نسخة جديدة من «أليس في بلاد العجائب». إنه مزيج من الانفعالات والدراما والطرافة». استغلال السلطة الاسباني آلمودوفار يصرح برأي جريء، اذ يقول: «بعض المخرجين يستغلون سلطتهم بطرق غير شرعية، كمثال على ذلك ألفريد هيتشكوك الذي كان يرغب بعلاقة جسدية مع الممثلة تيبي هيدرن، وبما أنه لم يحقق غايته، أعاد تصوير أحد مشاهد فيلم «الطيور» لمدة يوم كامل، وفي المشهد تهجم الطيور على الممثلة حيث انتهى الأمر بذهابها إلى المستشفى». أمير كوستوريتسا المتمرد، بدوره، على كل شيء في السينما، واللامبالي بالمنتجين والمتلقين، يجهر بأنه لا يخشى من عدم تفهم المتلقي لأفلامه، «ففي أيامنا هذه، كل شيء يصنع كي ينال إعجاب الجمهور، أنا أشعر بالاستياء تجاه هذه الفكرة. السياسيون يرغبون في إرضاء الناس، الفنانون يرغبون في إرضاء الناس، لذلك نجد أن الجمهور قد تحول إلى مجرد مجموعة من المستهلكين». ويرى صاحب «زمن الغجر» أن «صناعة الفيلم، أو صناعة الفن بالعموم، هي أمر مختلف، التواصل مع الجمهور أمر مهم لكنه ليس كل شيء... وبعودة بسيطة إلى جذور الفن، نجد أنه قد بدأ من خلال بعض الرسوم على جدران الكهوف. المخرج يعاني الكثير من التحديات أثناء صناعة فيلمه، مثل الممثلات الجميلات اللواتي يرغبن في تغيير كل شيء وفق أذواقهن، لذلك لا توجد أية ممثلة جميلة في أفلامي...». وثمة مساحة في الكتاب للممثل الذي ينقذ افلاماً رديئة من السقوط، مثلما يهبط بأفلام هامة الى الحضيض وذلك تبعاً لأدائه وحضوره. مايكل دوغلاس يعلق على دوره الشرير في فيلم «وول ستريت»، قائلاً: «تقديم الأدوار الشريرة أمر جيد، أنا أعشق هذا النوع من الأدوار. الأشرار الجيدون في السينما يسحرون العالم بأسره لأنهم قادرون على تجاوز كل الحواجز الأخلاقية والجمالية». أما ليوناردو دي كابريو، بطل «تايتانيك»، فيختزل مهنة الممثل في جمل عدة: أن تكون ممثلاً يعني أن توقع عقد شراكة مع مخرج يقول لك: «ها هي شخصيتك، اذهب وابحث عن انفعالاتها». عندئذ، تدخل إلى أعماقك للبحث عن أدوات تصطادها من طفولتك وحياتك الشخصية وقراءاتك ولا وعيك». ويضيف النجم الشاب بلسان الممثل الحكيم: «لا حلول وسط في السينما، النجاح أسطوري والفشل كارثي». هذه بعض الآراء التي يطرحها السينمائيون خلافاً لما تقوله كاترين دينوف في هذا الكتاب من ان «أجوبة كل الأسئلة موجودة في أفلامي، فالمهم هو ما نفعله وليس ما نقوله». لكن يبدو ان زملاءها السينمائيين لا يتفقون معها، فهم يتحدثون وبعبرون عن آمالاهم ومشاعرهم ومخاوفهم، ولا تخلو هذه الآراء من بعض الجرأة والطرافة مثلما يرد كوستوريتسا على سؤال حول مستقبل السينما، فيقول: «مستقبل السينما هو في طيران الإمارات»! في اشارة الى ان السينما، وإنْ ابتعدت عن طقسها التقليدي في الصالة المعتمة، فإنها ستكون حاضرة على أقراص (دي في دي)، وفي المولات التجارية وعلى شاشات التلفزة وال «آي فون»، وال «آيباد» وكذلك، ولمَ لا؟، على متن رحلة جوية، فيجد المسافر نفسه محلقاً في سحر الفضاء، ومأخوذاً، في الآن ذاته، بسحر شاشة صغيرة تعرض له تحفاً لبونويل او كوروساورا او بازوليني او سكورسيزي... وعدّ ما شئت من أسماء صنعت فناً سابعاً لم يكتف برحابة الأرض، بل راح يعانق السماوات السبع!