عندما قرر يوسف شاهين أن يسند دور ابن رشد، في فيلم "المصير" الى نور الشريف، كان بكل تأكيد ينطلق من تقديره لقيمة الرجل الفنية وقدرته الكبيرة على تقمص مثل ذلك الدور الصعب. لكنه كان في الوقت نفسه يعرف انه يعطي لنور مواقف وحوارات تدخل في صلب اهتمامات وهواجس هذا الفنان الذي سترتبط به، لزمن طويل، صورة فيلسوف قرطبة، صاحب المشروع العقلي ومؤلف "تهافت التهافت". من هنا ذلك الإحساس الذي يخامر المتفرج على فيلم "المصير"، بأن كل كلمة يقولها "ابن رشد" في الفيلم، على لسان نور الشريف، تطلع من قلب وروح هذا الأخير، وكأنها تعبر عنه وعن المعارك التي يخوضها منذ أكثر من ربع قرن. فنور، وهو الإسم الذي يطلقه الأصدقاء والمقربون على محمد جابر المعروف بنور الشريف، غالباً ما يفاجئك وأنت تحدثه عن الفن، بالحديث عن السياسة. وإذا ناورته لتقوده الى كلام على التلفزة، سيداور ويحدثك عن الاقتصاد والمجتمع والوحدة العربية وضرورة التضامن بين الأشقّاء. وإن سألته عن سر النجاح الكبير الذي حققه مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" سيتجاهل السؤال ليحدثك عن القطاع العام وضرورة إعادته، وقد يطيل الفنّان استطراداته لكنّه لا يتخلّى لحظة عن العقلانية والنزاهة. وهو ان التقى يوماً بمسؤول اقتصادي عربي كبير وحاول هذا ان يكشف للفنان نور الشريف، مدى إعجابه بفنه، اسكته هذا بحركة من يده وراح يسأله، كمن يحاكمه: لماذا تخربون اقتصاد بلدكم؟ لماذا تبيعون مؤسسات الشعب لرأس المال. ثم يحض محدثه بالكلام لأنه، كما يقول، يعرف عنه انه كان ناصرياً سابقاً، فيسأله معاتباً عما إذا كان نسي "الميثاق" و"أحلام الأمة الكبيرة"! هكذا هو نور الشريف، منذ اطلالته على الحياة الفنية في دور لا ينسى في فيلم "السراب" لأنور الشناوي، وحتى وقوفه امام كاميرا يوسف شاهين ليمثل "ابن رشد": عاصفة من الوطنية والاهتمام بكل ما يخص الوطن العربي. وحين تقطع عاصفته متسائلاً عما اذا كانت كل الأفلام التي مثلها تتماشى حقاً مع مصالح هذا الوطن، يقول: معليش، لكل منا لحظات ضعفه. والحقيقة ان لحظات ضعف نور الشريف لم تكن كثيرة، فهو من ذلك النوع من الفنانيين الذين يفضلون، دائماً، ان يكونوا صادقين مع أنفسهم. من هنا نجد أفلامه تحمل توقيع كبار المخرجين في تاريخ السينما المصرية، لكننا نجده كذلك في الواجهة في أفلام شبان كانوا يحققون أفلامهم الأولى، ولم يكن من السهل على "نجم" من طراز نور الشريف ان يغامر بالعمل معهم. لكن نور، حين كان يطلب منه ذلك لم يتردد. هكذا بدأت علاقته بمبدعين من طراز عاطف الطيب ومحمد خان. بل هناك مخرجون لم يكتف بالتمثيل في أفلامهم - مع كل ما يحمله ذلك من مخاطرة - بل ساند أفلامهم كلية ورعاها وأمن لها الانتاج... ويمكننا أن نذكر في هذا السياق اسماء لا تقل أهمية عن سمير سيف ومحمد النجار. وما هذا إلا لأن نور، يرى ان المرء لا يمكنه ان يكون مناضلاً هنا، متراجعاً هناك. فأن تكون في صف التقدم معناه ان تعي دورك كسينمائي، في المجتمع، ولكن في المهنة ايضاً. ودورك كسينمائي يحتم عليك، يقول نور، ان تستطلع امكانات الشبان الجدد. الأمر قد يكون مجازفة. لكن نور الشريف كان محظوظاً في أكثر الاحيان لأن مجازفاته كشفت كم كان على صواب وكم ان رهانه كان مضموناً. اليوم بات نور الشريف "معْلماً" من معالم السينما العربية. وفناناً استثنائياً عرف حتى كيف يعطي ملامحه لأبن رشد، ولكن كذلك لناجي العلي وليوسف شاهين نفسه في "حدوتة مصرية". وفي وسط ذلك كله عرف كيف يكون دائماً صاحب "استقامة سياسية" على الطريقة العربية.