حدث في مرات أن شاركت أفلام تحريك (رسوم متحركة) في مهرجانات سينمائية كبرى، ومنها مثلاً الفيلم الأميركي «شريك»، الذي عرض جزؤه الأول في احدى دورات مهرجان «كان». وحدث في مرات أن فازت أفلام من هذا النوع بجوائز كبرى في مهرجانات من هذا العيار. ولكن لم يحدث أبداً، قبل دورة هذا العام من مهرجان «كان» أن كرست ليلة الافتتاح، ليلة النجوم والجواهر والأزياء الفاخرة، لفيلم تحريك. انها بدعة، بالتأكيد، لكن اللافت أن أحداً لم يستهجنها، ولا ارتفعت أصوات ولو بقدر أدنى من الاحتجاج. ومن الصعب أن نقول هنا ان الفيلم الذي تم اختياره لافتتاح التظاهرة الرسمية في هذه الدورة، التي تبدأ أعمالها مساء الأربعاء المقبل، فرض نفسه لمستواه الفني أو غرابة موضوعه... فالفيلم لم يشاهد بعد، إلا من جانب صانعيه (شركة بيكسار) ومن قبل لجنة الاختيار في «كان». أي بكلمات أخرى، ان الموافقة العامة على عرض هذا الفيلم - أو، على الأقل، عدم الاحتجاج على عرضه - في الافتتاح، لا علاقة لها بقيمة الفيلم، علماً أنه إذا كان من المعتاد في شكل عام أن يكون فيلم الافتتاح في مهرجان ما، واحداً من أقوى الأفلام المعروضة في المهرجان، فإن هذا التقليد لم يعد وارداً، منذ زمن بعيد، لا في «كان» ولا في غيره... وذلك بسبب بسيط تم التنبه اليه، أخيراً، وهو أن ما من أحد يمكنه، أصلاً، أن يحدد أن فيلماً ما هو الأفضل أو الأقوى، إلا لجنة التحكيم وفي ليلة الاختتام. ومن هنا لم يعد العرض في الافتتاح حكم قيمة، بل تعبيراً عن أن الفيلم المعروض يشكل ظاهرة ما. والحقيقة أن الفيلم الذي نحن في صدده هنا، والذي سيشاهده أهل «كان» في عرضه العالمي العلني الأول، بعد أيام، وهو «!UP»، هو فيلم - ظاهرة في كل معنى الكلمة. ولم يكن في حاجة الى أن يتم اختياره في افتتاح «كان»، كي يؤكد هذا. جوائز بالجملة ففي الدرجة الأولى هو فيلم من انتاج «بيكسار»، لحساب والت ديزني. وبيكسار هي المؤسسة التي تقول سمعتها الآن إنها أحدثت خلال السنوات الأخيرة واحدة من أهم الثورات في تاريخ سينما التحريك. بل يقال أيضاً إن «بيكسار» باستوديواتها، وابتكاراتها الجديدة في عالم التحريك، هي التي أنقذت «ديزني» من تفوق دريم ووركز عليها في ميدانها السينمائي الأمثل، أفلام التحريك. وحسبنا أن نذكر بعض انتاجات «بيكسار» الأخيرة حتى نتيقن من هذا: «توي ستوري» (1995) و «حياة بقة» (1998) و «توي ستوري2» (1999) و «وحوش وشركاهم» (2001) و «العثور على نيمو» (2003)، و «سيارات» و «راتاتوي» بعد ذلك وصولاً الى «واللي» الذي كان آخر الفائزين بالأوسكار حتى اليوم. ونعرف أن بيت دوكتر وبوب بيترسون، صاحبي «واللي» هما اللذان حققا «UP»... وهنا قد يكون مفيداً أن نذكر أن أفلام بيكسار حققت حتى الآن 22 جائزة أوسكار (في مختلف المجالات الفنية والتقنية) و4 غولدن غلوب، و3 آمّي... غير أن UP، يبدو مجدداً، حتى خارج اطار أفلام «بيكسار» في موضوعه وأجوائه أيضاً. إذ هنا، ومن جديد، يعود فيلم التحريك الى الانسان ليروي حكاية عنه وعن مغامراته... حكاية قد تكون حافلة بالمواقف المضحكة والمغامرات الطريفة، لكنه في خضم ذلك، لا يبتعد من الدراما والمواقف العاطفية. وذلك بدءاً من حبكته نفسها التي تروي لنا حكاية السيد كارل فردريكسن، الذي تقاعد بعد عمر قضاه في بيع البالونات. وسنفهم هنا أن كارل حين كان صبياً التقى فتاة حسناء تدعى ايلاي ورغب في الزواج منها... وهي كانت تحلم دائماً بزيارة أميركا الجنوبية. لكن المسكينة ماتت قبل أن تحقق ولو جزءاً يسيراً من أمنيتها هذه. واليوم، إذ وجد كارل نفسه أمام خطر أن يُبعد عن بيته ويوضع في مأوى للعجزة، يقرر أن يقوم برحلة في بلدان أميركا الجنوبية تحية لذكرى فتاة أحلامه الطفلة الراحلة، إذ كان وعدها بذلك. أما الرحلة فسيقوم بها على متن «مركبة» طائرة صنعها من عدد لا يحصى من البالونات. لكنه لن يكون وحيداً في رحلته، بل يصحب معه صبياً في الثامنة يدعى راسل، وكذلك كلباً صغيراً يسميانه داغ. ان هذا هو إطار فيلم UP. ولنا أن نتصور، حتى من قبل مشاهدة الفيلم، أي وعد بصري أخاذ يقدمه لنا: منزل من بالونات يطير من مدينة الى أخرى ومن بلد الى آخر. ولكن أيضاً من مغامرة الى أخرى. ويمكن منذ الآن الحكم بصرياً، في شكل شديد الإيجابية على الفيلم، من خلال صور منه وزعت ونشرت حتى الآن، ومن خلال عرض لبعض المخاطر والمجازفات التي يتعرض لها رحالتنا الثلاثة. ظاهرة قديمة لكن هذا ليس كل شيء. وقد يكون من الصعب الافتراض أنه وحده قادر على جعل دورة أساسية وكبيرة من دورات «كان» تضع UP في حفل افتتاحها. إذ يبقى عنصر أساسي، هو الذي يجعل العرض في حد ذاته مناسبة للاحتفال بثورة تقنية جديدة/ قديمة، بدأت تتفاعل مع واقع السينما معطية اياها بعداً انتقالياً مدهشاً. وهذا العنصر هو أن الفيلم مصور ومعروض بأسلوب الأبعاد الثلاثة... اذ ان الفيلم مجسم، ومن المنطقي ان نظارات خاصة (زرقاء وحمراء) ستوزع على المتفرجين قبل دخولهم الصالة. وهي نظارات، من دونها لا تمكن مشاهدة هذا الفيلم... أما معها، فإن الفيلم يتحول الى عالم رائع من الخيال البصري، حيث وكما هو معروف يحول هذا الأسلوب الصور والمشاهد الى عالم مجسم يبدو على الشاشة وكأنه يخرج منها ليملأ الصالة، مشعراً المتفرجين أنهم - هذه المرة - في قلب الحدث. لقد قلنا هنا إنه أسلوب جديد/ قديم، ونعنيه حقاً... لأن أسلوب السينما المجسمة الثلاثية الأبعاد، كان وجد للمرة الأولى بشكله التجاري التطبيقي أواسط الخمسينات من القرن الماضي وصورت به أفلام عرضت بالفعل ووزعت النظارات نفسها لمشاهدتها. غير ان الظاهرة سرعان ما خبت يومها، لأن التطور التقني للفن السينمائي كان لا يزال يجعل التنفيذ باهظ الكلفة، والنتيجة غير دقيقة بل مزعجة أحياناً، ومن هنا صُرف النظر يومها عن الاستمرار، ووضعت المشاريع على الرف، كما وضعت على الرف تقنيات عدة أخرى. أما العودة اليها اليوم، فناتجة، من ناحية من التقدم التقني الذي حصل، مقابل الاستفاضة في الانفاق على كل أنواع الأفلام، ومن ناحية ثانية، من أن السينما تبدو في حاجة متزايدة الى الالتفاف على تقدم التلفزة وتقنياتها في شكل ينافس السينما أكثر وأكثر. ولئن كان الجديد الآن يكمن في أن أسلوب الأبعاد الثلاثة المجسم يطبق على سينما التحريك، فإن السينما تبدو منذ زمن في حاجة الى الاستفادة من هذا الأسلوب السينمائي المتجدد والمستعاد، إذ يبدو أن ثمة الآن مشاريع عدة لتحقيق أفلام مغامرات ضخمة، بالتحريك أو من دونه، ستعرض في الصالات مجسمة... ثم في التلفزيونات بتقنية عالية مدهشة انما من دون تجسيم. ومن هنا يمكننا القول منذ الآن، ان ثمة في الأفق مرحلة انتقالية لفن السينما، ربما هي في انتظار ما ستكون عليه ردود الفعل، الأكثر أهمية من ردود فعل الجمهور المراهق الذي لا شك يستهويه هذا الأسلوب الجديد، كي تواصل طريقها، محدثة في سينما اليوم ثورة قد تقارن بثورة السينما الناطقة، ثم ثورة السينما الملونة فثورة السينما سكوب... والحقيقة أننا إذا نظرنا الى الموضوع من هذا المنظور، سندرك أهمية عرض الفيلم الجديد UP في افتتاح «كان». أما محبو تاريخ السينما ولعبة التكريمات، فقد يحبون للمناسبة أن يعرفوا أن مخرجي UP، حين رسما ملامح شخصية الفيلم الرئيسة، كارل فردريكسن (وينطق عنه الممثل المعروف ادوارد آزنر)، أصرا على أن تكون ملامحه مقتبسة من ملامح ذلك النجم الهوليوودي الكبير والذي عاش بين 1900 و1967... سبنسر ترايسي ما يعني أن هذا الفيلم قد يصح اعتباره، أيضاً، تكريماً لذكرى واحد من أفضل الفنانين في تاريخ السينما الهوليوودية.