ليس ثمة من شك في أن تطور فن النحت المعاصر يرينا، مقارنة بفن الرسم، نقصاً حاداً في فكرتي "الترابط" و"التحديث". ففي الرسم، كان هناك تأكيد متنام على منحى التعبيرية التجريدية، وهو ما أدى الى بزوغ مدرسة جديدة معنية في الأساس برسم الفعل. وعلى الرغم من أن رسم الفعل كان حركة مميزة، لها موقعها الجغرافي المحدد في مدينة نيويورك الاميركية تحديداً، إلا أنه يُعد تطوراً منطقياً للأسلوب التعبيري، وما يميزه - من انغماره في الواسطة والخضوع ل"الانفعالات الصورية المحسوسة" - هو كونه أساساً شيئاً تصنعه الأصباغ والألوان. فالنحات لا يقوى على إعادة صوغ تصريح "بولوك" المعروف: "حين أكون في نحتي، فأنا لا أعي ما أفعل". النحات على الرغم من المحاولات المعروفة، وأبرزها محاولات ايتيان مارتان الجريئة،، ينبغي أن يبقى - لا محالة - خارج نحته، حرفياً واعياً، كما قال هربرت ريد. ومع ذلك، بإمكان المرء أن يضع تصنيفاً لما اختمر بعد الحرب العالمية الثانية من أساليب في فن النحت، على رغم الاعتراف بأن ذلك يدخل ضمن نطاق المهمة النقدية وليس التاريخية. فنحن نواجه تشعباً وشيوعاً للأساليب، واستثماراً للابتكارات، وتجارب متواصلة مع مواد جديدة، وليس انتشاراً لأية "حركات" مترابطة منطقياً. لقد وجدت الأساليب أو المدارس، أو أنها موجودة فعلاً: الانطباعية، ما بعد الانطباعية، التكعيبية، البنائية، السوريالية، التعبيرية، التعبيرية التجريدية، والفنان الفرد - قياساً بمزاجيته - ينتمي الى إحداها أو إلى الأخرى، تماماً كما ينتمي الفرد إلى إحدى الطوائف أو المذاهب الدينية. من هنا نستطيع تلقي أعمال بعض فنانينا العرب البارزين، والتي شكلت - مع غيرها - روحاً متمردة على الدوام على فكرة السائد أو الاكاديمي أو المألوف، واتخذت من "التفكير الفني الحر" نزعة أساسية لها، كانت في الأرجح سمة الاساتذة العظام في أي مرحلة. ففي عصرنا الراهن، مثّل بيكاسو منصة الانطلاق نحو حركات جديدة متعددة، ورفض باستمرار أن يُحسب على أي منها. أما نحت هنري مور نفسه، فيمكن أن يُحسب - ولأسباب وجيهة جداً - على السوريالية، على رغم أنه لم ينتسب الى هذه الحركة أو إلى غيرها. وهو ما لا يعني أن الفنان مهما يكن عظيماً ومستقلاً، بمقدوره الاكتفاء بمنصة الانطلاقة وحسب، وخذ في هذا الإطار الكثير من فنانينا العرب البارزين: فاتح المدرس، محمود سعيد، محمود مختار، ضياء العزاوي، جورج البهجوري، حسن سليمان، سمير رافع، حامد ندا، عدلي رزق الله، حامد عبدالله، تحية حليم. ويعد الفنان التشكيلي المصري جميل شفيق آخر هؤلاء الفنانين البارزين، الذين اتخذوا من "التفكير الفني الحر" نزعة أساسية لهم، عبر معرضه الأخير، في غاليري "راغب عياد" مركز الجزيرة للفنون، ضاحية الزمالك، ففي هذا المعرض، يغير الفنان اتجاهه للمرة الأولى، وبعد مرور أربعين عاماً كاملة على احترافه الفن، إذ يغامر هذه المرة في نحت الخشب، بعدما ظل لسنوات عدة أحد أبرز التشكيليين المصريين في مجال التصوير والرسم الصحافي، وعُرف عبر لوحاته التي حيّد فيها جميع التقنيات والألوان، لمصلحة الأبيض والأسود. يقدم جميل شفيق اليوم 28 عملاً من النحت، استخدم فيها الكثير من الأخشاب التي جمعها على مدى عشر سنوات من نوبات "طرح البحر"، ليبدأ في التعامل معها تارة بتذويب طمي البحر في مادة التربنتين، وتارة بدهن الأخشاب بالكروسين وسد مسامها تماماً، كي يمنع ظروف تآكلها أو تلفها، ثم تأتي مرحلة الرسم على فروع هذه الأخشاب وصفحات لحائها، لنجد وسيلة أخرى تظهر عبرها تيمات الفنان الرئيسية على مغامرته الفنية الجديدة. فالوجوه المشربة بالملامح القبطية والفرعونية، نجدها ماثلة أمامنا، وكذلك تيمة "السمكة" التي كنا ألفناها في لوحاته المنفذة بالأبيض والأسود تارة، وتارة بالألوان المائية والزيتية. يقول شفيق عن تجربته الجديدة: "في تصوري، الفن هو إبداع مغاير على الدوام، لن أكون فناناً عندما أكرر أو أعيد ما سبق عمله أو تنفيذه، وأعتبر أنني لو نفذت عملاً مركباً، فأنا أنفذ تصميم أو "ديزاين". ولكن في هذه التجربة كانت المصادفة هي الأساس، اذ أنني أسكن في قرية حسن فتحي الخاصة بالصحافيين، ويطل بيتي على البحر مباشرة، مما جعلني ألتقط قطع الأخشاب التي تلقيها نوبات "طرح البحر" على الشاطئ، ولم أفكر للحظة واحدة في سر جمعي لهذه الأخشاب، لكن كانت هناك رغبة في الاكتشاف، هو مجرد إحساس خاص بالجمال في الطبيعة، مما جعلني لا أتدخل بالمرة في هذه الأخشاب ذات الأشكال المكتملة بطبيعتها". تظل أعمال جميل شفيق الأخيرة، واقفة على الحد الفاصل بين المغامرة التجريبية ومواصلة ما سبق وتم إنجازه عبر مشواره الفني الطويل، فنحن لا نعدم تلك اللمسات الأثيرة لدى الفنان، الوجوه المصرية ذات العيون الواسعة الحزينة والملامح القبطية والفرعونية، الاستخدام الايجابي للاشياء الصغيرة، مثل رؤوس المسامير في صنع الهالة الضوئية حول الوجوه، أو توظيف بعض ثمار النباتات المجففة فوق هالات هذه الوجوه، وكذلك المفاضلة الدائمة ما بين البورتريه والبروفيل سعياً الى ايصال أكبر شحنة من روح الوجه الى المشاهد، أو- حتى - الابقاء على حالة الأخشاب كما رمتها مياه البحر، فهي على رغم تلقائيتها هذه، تحتوي كامل الاحاسيس والمشاعر التي يريد فناننا ايصالها الى متلقيه. معظم هذه الأعمال، يُبقي جميل شفيق على حسه الذي رسخه عبر أعماله التي نفذها - غالباً - بطريقة "الليتوغراف"، لكنه في الآن نفسه يخترق أفقاً جديداً من التجديد، ربما تؤكده مغامرته الجديدة في تلقائيتها وعفويتها ومغايرتها لمشروعه الفني في كليته. فليس جديداً أن نقول اليوم إن كل ما ميّز فن النحت في الماضي قد ضاع وانتهى نهائياً، وأصبح النحت الجديد، المفتوح شكلاً في أساسه، الدينامي في قصده، يسعى جاهداً إلى اخفاء ثقله وكتلته، فهو ليس متماسكاً بقدر ما هو متواصل، وليس تأويلاً أو ترجمة لنظريات الاكاديمية بقدر ما هو خروج عليها وهدم لها. أصبحت الكتلة مختصرة في ما يشغل حيزاً من الهواء، أو يتفاعل معه في الآن نفسه. وبعيداً عن بلوغ نقطة استراحة أو استقرار على المستوى الأفقي، نجد أن المنحوتات صارت تنطلق من أرضيتها لتنشد حركة شبه مثالية في الفضاء، وبعيداً عن تجانسها مع مفهوم الاحتواء، صارت هي بنفسها مفصلية في أساسها، تخاطب العين الرائية بكل ماض شأنه أن يكون حاداً واستفزازياً. وقد تقدم احياناً سطوحاً ناعمة ومصقولة، لكن غايتها تهدف الى تأكيد سمة الخشونة المخربشة في مطلق حدتها ووحشيتها.