"ليس لدينا استعداد للهجرة من اليمن إلى إسرائيل لئلا نصبح غرباء هناك". هذا ما يقوله من بقي من اليهود في اليمن، وعددهم لا يتجاوز ثلاثمئة شخص معظمهم يقطن مدينة ربدة في بيوت متجاورة تشبه قرية، ويمارس الرجال والشباب أعمالاً حرفية، وبينهم النجار والحداد وصائغ الفضة. "لم نسع الى الانخراط في وظائف حكومية أو الالتحاق بالشرطة أو الجيش، لأننا نعتمد على حرفتنا في كسب الرزق"، يقول حاييم يعيش بن يحيى، النجل الأكبر لحاخام اليهود في ربدة. ويضيف: "لم يحدث ان واجهنا نحن اليهود مضايقات أو تقييداً لحرياتنا، من الدولة أو المواطنين المسلمين. لديَّ جواز سفر وبطاقة شخصية وعائلية وبطاقة انتخابية. كنت في إسرائيل قبل أشهر لزيارة أقرباء هاجروا منذ زمن ولم يعترضني أحد لدى عودتي". وهل فكر بالبقاء في إسرائيل، رد حاييم بسرعة: "لم أفكر بالبقاء، أو الهجرة للعيش في إسرائيل فذلك لا يناسبني، ووطني اليمن هو خيارنا الوحيد، ولماذا نعيش غرباء في إسرائيل ولنا وطن"؟ في اليمن لا شيء يميز اليهود عن غيرهم، تقاسيم الوجه واللهجة والملابس وأسلوب العيش، اندماجهم مع التقاليد والأعراف الاجتماعية والقبلية، بما فيها تناول القات إلى درجة الادمان. ويقول يوسف يعيش بن يحيى: "لم أفكر بالهجرة إلى إسرائيل لأنه لا يوجد قات هناك، بل هو ممنوع فيها". ويعيش اليهود في ربدة في بيوت لها الطابع الريفي للمنطقة، متقاربة مع بعضها بعضا، ويمكن اعتبارها قرية صغيرة مغلقة. "لنا عاداتنا كيهود، في العبادة وطقوس الأعراس والدفن وغيرها، لذلك تتجمع بيوتنا في هذه القرية"، يقول إبراهيم يحيى يكون، وهو يشير بسبابته إلى منزله القريب إلى سوق ربدة حيث لا يمكن التمييز بين اليهود وبقية المواطنين إلا من خلال خصلات شعر الرأس المتدلية على شكل ضفيرتين. وعندما دخلنا منزل يعيش بن يحيى، وهو رجل مسن وحاخام الجماعة اليهودية في ربدة، استقبلنا بفتور بادئ الأمر. وذكر نجله الأكبر حاييم أن والده الذي تجاوز السبعين يعاني السكري وأصبح يضيق بالصحافيين والسياح وغيرهم من الزوار الذين يترددون كثيرا على المنطقة، وهدفهم زيارة اليهود وحاخامهم وتوجيه الأسئلة عن أحوالهم في اليمن. ويبدو ان الحاخام يعيش بن يحيى يشعر ب"حرج" مع جيرانه وأبناء منطقته لكثرة تردد "الأجانب"، خصوصاً ان إسرائيل ودوائر إعلامية وسياسية في أوروبا وأميركا تتناول بين فترة وأخرى "اليهود في اليمن" من منطلق يُفهم منه ان الهدف هو الإساءة الى السلطات والمجتمع في هذا البلد، بذريعة تعرضهم لضغوط وتقييد حرياتهم والانتقاص من حقوقهم. ويرد الحاخام: "لم نتعرض لأي قيود، ولنا كامل الحقوق الدستورية مثل بقية اليمنيين. أنا وأبنائي نحمل جوازات سفر، وزرت اسرائيل قبل سنة ونصف سنة لأن عمي هناك وهو الذي رباني ودرسني. عرفت أنني لا استطيع ان اعمل شيئاً لو عشت في إسرائيل ولدى عودتي كنت مقتنعا بالبقاء في بلادي". ويستطرد "يعيش" 73 عاماً الاكبر سناً في اسرته المكونة من ثلاثين من الأبناء والأحفاد: "نحن هنا نعيش بكرامتنا أحراراً". ومعروف أن كثيرين من اليهود يذهبون إلى الدولة العبرية، ومنهم من يعود، وعلى رغم جهود منظمات يهودية متخصصة في تهجير اليهود الى تلك الدولة، عبر وسطاء أو عن طريق "التهريب" ينفي يعيش وغيره من يهود اليمن محاولات من هذا النوع. "يمكننا ان نسافر من دون قيود وأنا ذهبت الى اميركا للدراسة وعدت، فلماذا نواجه ضغوطاً للهجرة إلى اسرائيل، وكيف يمكن القول اننا نواجه مثلها في اليمن، نحن أحرار في ما نختار"، يقول ابراهيم يحيى يكون 20 عاماً ويؤكد انه ومواطنيه لا يجيدون اللغة العبرية بل "العبرانية لغة التوراة التي تعلمتها في اميركا وعدت الى بلادي. انا لا أفكر بالهجرة الى اي مكان، فهذه بلادي وبلاد آبائي وأجدادي، ولم نلمس أي تفرقة أو تمييز". سئل: لكنكم في قرية صغيرة شبه مغلقة عليكم، فأجاب: "لا نفضل الاختلاط كثيراً مع المسلمين، بخاصة اننا نحافظ على العلاقة في ما بيننا ولا نحب أن يتدخل أحد في شؤوننا وطقوسنا الدينية. نحن اليهود نصلي معاً ولنا أعراسنا وتقاليدنا". ويوضح حاييم يعيش بن يحيى أن هناك حوالى مئتي يهودي في ربدة وحوالى مئة في مناطق أخرى في صعدة وأرحب وخارف، وهي مناطق شمال صنعاء ممتدة بين قبيلتي حاشد وبكيل اكبر القبائل اليمنية. ورداً على سؤال يقول يوسف يعيش بن يحيى الابن الشاب ل"الحاخام": "لدينا كنيس للعبادة، والوالد هو الحاخام حقنا". ولمن يلجأ يهود اليمن في حال نشبت خلافات بينهم وبين اليمنيين المسلمين، يجيب: "نلجأ إلى قسم الشرطة وهو يحل المشكلة، أو الشيخ شيخ القبيلة فيحلها بالعرف القبلي، وفي حال وجدنا ظلماً نلجأ الى العميد مجاهد أبو شوارب أحد كبار مشائخ قبيلة حاشد، مستشار الرئيس علي صالح الذي ينصفنا ويقف معنا دائماً". ويؤكد اليهود في ربدة انهم يشاركون في الانتخابات النيابية والرئاسية، ويشير يوسف الى انه انتخب علي صالح كونه "مُجرِّباً ويهتم بشؤون اليهود في البلد، ويحرص على حقوقنا ومعاملتنا مثل بقية المواطنين". نسأل يوسف عن منظمات اسرائيلية وأوروبية واميركية تدّعي ان يهود اليمن يواجهون ظلماً وضغوطاً، فيرد باللهجة اليمنية: "ما دخلنا في ما يقول غيرنا، المهم إحنا، وانت تشوف حالنا وغيرك كثير يزورونا دائماً". ويؤكد ابراهيم يكون أن الفرصة متاحة لأبناء اليهود للالتحاق بالمدارس العامة: "لكننا نفضل الدراسة عند الحاخام ونسافر الى اميركا أحياناً". أما الحاخام يعيش فيتحدث عن تبادل أبناء طائفته الزيارات مع المسلمين في المناسبات. وأتاحت التغيرات في البلد بعد الوحدة عام 1990 حرية السفر لمن بقي من اليهود اليمنيين من دون قيود أو محاذير، وبعضهم رحل وعاد. وتشير احصاءات غير رسمية في اليمن الى ان اكثر من ثمانين الفاً غادروا بهدف الهجرة الى الدولة العبرية بين عامي 1948 و 1996، ونُفِذت اكبر عملية تهجير أواخر الاربعينات وأوائل الخمسينات، فغادر اليمن نحو سبعين الفاً في العملية التي عُرِفَت آنذاك ب"بساط الريح"، برعاية التاج البريطاني وعبر ميناء عدن، ثم توالت عمليات التهجير عبر وسطاء ومنظمات يهودية. وتفيد إحصاءات انه لم يبق من اليهود في اليمن سوى 42 اسرة تضم ثلاثمئة شخص.