إذا كانت رحلة برترام توماس قد تمّت في الثلاثينات من هذا القرن، فانّ ويندل فيليبس قام برحلته في سنة 1958. وإذا كان توماس اخترق صحراء الربع الخالي انطلاقاً من صلالة، فانّ فيليبس تجوّل في الأرض العُمانية ذاتها، ودخل مدنها وعبر سهولها وجبالها، وقدّم وصفاً دقيقاً في كثير من جوانبه للحياة الاجتماعية التي يعيش الناس في كَنَفها، وللطبيعة التي تضفي على البلاد جواً من الشاعرية والرومانسية وفي الوقت نفسه تمتاز بالقساوة وبخاصّة حين تشحّ الأمطار وتنتشر الفاقة بين السكّان فيضطرون الى الهجرة من أرضهم... حتى إذا عادت الأمطار عادوا اليها، فكأنها "حجر المغناطيس" المذكور في قصص السندباد الذي يعتقد أهل صُحار بأنّه من مدينتهم. يرتكز فيليبس في فهمه للأوضاع العُمانيّة في سنة 1958 على مقولة مستكشف سبقه بفترة طويلة هو سير جون مانديفيل الذي قرّر "انّ وجود مثل هذه الدولة العربية كدولة مكتملة البنيان فوق هذه الصحراء حيث تصعب المعيشة على الانسان، هو أوضح مثال للذكاء والفطنة". أوّل ما يطالعنا في رحلة فيليبس وصفه للجبل الأخضر الذي يستكشفه عبر نوافذ طائرة من نوع "داكوتا"، وهي الطائرة التي نقلته من عدن عبر صلالة باتّجاه مسقط، فرآه "بالفعل وبلا أية مبالغة، ليس جبلاً عادياً لأنّ الصخر الذي يتكوّن منه هذا الجبل له لون أخضر قاتم مثل العقيق، أو كالبرونز العتيق. والجبل كتلة صخرية ذات عشب وأشواك تمتدّ في أماكن متّسعة متفرّقة، وعلى رأسه ترقد قمّة ضخمة غير مستوية... أما الجانب الآخر فقد كان جدباً وقاحلاً، وقد جمعنا بعض الصور التي التقطناها، وهي بمثابة بانوراما رائعة خيالية من الصخور والقمم، قطعتها عصور جيولوجيّة منذ حقب بعيدة". وحين تصل الطائرة الى مسقط يقف فيليبس بذهول أمام الجمال الخلاب الذي تطالعه به تلك المدينة الساحرة، فيؤكد مقولة مستكشفين آخرين سبقوه: "انّه لا يوجد في العالم كلّه ما يماثل هذا المنظر الجميل والرومانسي لمسقط. فعلى الجانبين تمتدّ الصخور الشديدة الصلابة على ارتفاع 350 قدماً وتنتشر في كلّ الاتجاهات، ثم المدينة البيضاء المطلّة على الشرق والغرب بصخورها العمودية، وعلى أعلى نقطة لتلك القمم العمودية تنتصب الأبراج بنوافذها ذات الأشكال المختلفة". آنذاك، وبحسب مشاهدات فيليبس، كانت مسقط لها قدم في الجزيرة العربية وأخرى في الهند، حيث شاهد الهنود ينتشرون في الأسواق، ومعظمهم من بومباي. وبعد مجيء فريق التجار الهنود كانت العملة الهندية هي وسيلة التبادل، والعمال والحمّالون يعودون في أصولهم الى السنغالوإيران، أما العرب فقد كانوا يشكّلون أكثر من نصف السكان. ويتحدّث فيليبس، ربما أكثر من غيره، عن الأديان والعناصر البشرية في البلاد. فيقرّر إعجابه بالحرية الدينية، والتفتّح العقلي الذي يتمتّع به الناس. فأتباع الأديان الأخرى كانوا يحظون بالاحترام حين يحترمون دينهم، وكذلك كان الغرباء يحظون باحترام وحماية من قبل السكّان الأصليين. ويرى أن الناس هناك آنذاك "كان يجري في دمهم الأساس العقلي الديني الراسخ الجميل للاسلام، وهو انّ الحياة الدنيا قصيرة ويجب أن ينظر الانسان الى ثواب الآخرة. وتؤثر الثقافة الاسلاميّة وخبرة الحياة على المجتمع العُماني كثيراً، بحيث لا يمكن للطفل أن ينساها. وفكرة التملّك الفردي والحريّة الاقتصادية وهو ما سيسمّى في سلطنة عُمان في ما بعد بالقطاع الخاص يحظى بالصيانة والاحترام. والفقراء منهم لا يعود فقرهم الى تخاذلهم أو ضعفهم، ولكن فرص العمل قليلة". وعلى العموم فقد وجد فيليبس انّ المجتمع العُماني صادق الايمان، ويعتقد الفرد فيه بأنّه من الاثم أن يشير الى المستقبل من غير أن يذكر عبارة إن شاء اللّه. ويجد فيليبس في هذا دليلاً "على أن الزمن لم يستطع التأثير على القيم الموجودة. فالمسلم العُمانيّ فخور، معتزّ بنفسه، مستقلّ بذاته، ذو نفس قانعة راضية، هادئ الطبع لا يفقد اتّزانه حتى في المشكلات التي يثيرها أعداؤه". غير انّ هذه الصفات الرائعة، بحسب وصفه، تصطدم بحقيقة تناقضها وتعمل على تقويضها، في ما لو أتيح لها الاستمرار، وهي الفقر وانعدام التعليم. ويعترف فيليبس بأنّ بعض الجهات كالبعثات التنصيرية وبعض الايديولوجيات حاولت استغلال هذين العاملين إلا انّها لم تنجح "لأن الاسلام في عُمان قد بُني على أسس قويّة تنسجم مع فطرة الناس وطبيعتهم، فأصبحت عقيدتهم راسخة وإيمانهم لا يمكن أن يتزعزع، ليكون الاسلام بذلك هو الديانة الوحيدة الحقيقية، لذا فإنّ الارتداد عنها هو حماقة واضحة". وبعد أن يستعرض فيليبس العقائد الاسلامية وأطيافها في المجتمع العُماني ومحاولات التنصير الفاشلة، يصل الى النتيجة التالية: "وخلاصة القول انّ الدين الاسلامي يعني الكثير في حياة المسلم اليومية، أكثر مما يعنيه الدين المسيحي في حياة المسيحيين اليومية. ويمكن لمسيحيّ الغرب أن يتعلّم من مسلم الشرق، فالمسيحي ذو القلب الضعيف والكلام ما زال لفيليبس لا بدّ أن يتأنّى وهو يسير في الوضاعة والتذلّل، فينظر لاحترام المسلم لنفسه، حيث الروح والكرامة وتساوي المسلمين أمام الله. ويجب أن نشهد لهؤلاء الرجال بلا خوف أو تردّد انّهم هم المؤمنون". ويستشهد فيليبس بقول عالم اللغويات جوزيف بيت الذي عشق اللغة العربية ووهبها كل جهوده: "هل كان المسيحيون على استعداد للاعتراف بالمسيح والاخلاص له بشدّة على النحو الذي يخلص به أتباع محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم له؟ وهل كانوا على استعداد للسير كما سار المسلمون في طريق الاسلام الحنيف؟ إن الحقيقة كلّما كانت أقوى كان الانسان أشدّ حكمة وإيماناً. ولهذا فللمسلم دور سليم يعرفه، فاذا كان له قدرة على تغيير المنكر كان عليه أن يغيّره، وإذا لم يكن له تأثير فليُنكره، وليس هذا بالدرجة الأفضل". من مطرح إلى صُحار تشكّل مَطرح اليوم امتداداً لمسقط وتكثر فيها المحلات التجارية والمصارف والمؤسسات الاقتصادية والأسواق والمكتبات، أما في سنة 1958 حين قام فيليبس بجولته، فلم يكن فيها شيء من ذلك، بل كان النشاط فيها مقتصراً على تلاقي سفن البحر بسفن الصحراء التي هي الجمال، حيث يجري التبادل التجاري بين الخارج والداخل. كما كانت تضمّ متحفاً صغيراً واحداً، ويتكوّن مجتمعها حينذاك - إضافة الى السكان الأصليين - من بعض الأقليات التي جاءت مهاجرة من اليمن أو أفريقيا أو إيران. وهناك استراحة خارج سور المدينة على الطريق الرئيسي للقوافل، وتشحن بها مئات الجمال، وتفرّغ يومياً. أما أنظمة الريّ في الوادي، كما يراها فيليبس، فلها جذور تمتدّ نحو 15-25 ميلاً وراء السهل في جبال الحجر العالية، وتقع وراء سلاسل الحجر المحافظتان الظاهرة وعُمان: الظاهرة في الغرب، وتطلّ على الصحراء بكثبانها الرملية في الربع الخالي. وتُعتبر عُمان الأم المركز الحيوي الرئيسي لعُمان، وتقع فوق سطح البحر 1500 - 2000 قدم تجاه المحيط الهندي. ووراء الجبال الشرقية تقع محافظتا الشرقية وجعلان، وترتبط الشرقية بعُمان الحديثة أما جعلان فتقع بين المحيط الهندي والركن الجنوبي الشرقي من محافظة الشرقية. ويتّخذ فيليبس من سهل منطقة الباطنة طريقاً لرحلته الى صُحار، واصفاً أهم الواردات الزراعية في ذلك السهل وهو التمور التي لا حصر لأنواعها ولا مثيل لجودتها. ونظراً الى أنّ الطريق الى صُحار لم يكن معبّداً فقد قضى هو وصحبه ليلة في العراء "وكان المرشدون يتناوبون الحراسة ببنادقهم". أما اليوم فانّ الطريق السريع الذي يربط مسقط بصُحار يوصل بين المدينتين في ساعة واحدة. وبعد قرى ووديان عدة يصل الركب الى مدينة صُحار، تلك المدينة التي أنجبت واحداً من أعظم أطبّاء العرب بعد ابن سينا، وهو أبو عبداللّه محمّد بن عبداللّه الأزدي الذي توفّي في الأندلس بعد أن ترك وراءه تراثاً جيداً في الطب والكيمياء يمثّله "كتاب الماء"**. وحين يصل فيليبس الى صحار يتذكّر حكايات السندباد التي جاءت في ألف ليلة وليلة، فيقرر أنّ السندباد شخصية تاريخيّة كانت موجودة بالفعل وأنّ أصله من صُحار "ومع منتصف القرن العاشر صارت صُحار أهمّ مدينة في عُمان، وأجمل مدينة في الخليج". وكانت في زمن هذه الرحلة أغنى مدينة في عُمان وأكثرها سكّاناً "ومن المستحيل أن تجد على الخليج مدينة إسلاميّة أجمل وأعظم من صُحار التي كانت مركزاً للتجارة". ومما يلفت نظر المستكشفين في صحار وغيرها من مدن عُمان وقراها نظام الريّ الموروث والقائم على أساس الأفلاج أي السواقي المحفورة داخل الأرض وفي الجبال الصخرية ذاتها، والتي تشكّل شبكة دقيقة للريّ وتوزيع المياه على المناطق المختلفة التي تحتاج اليه. وأمام هذه الشبكة الإروائية يقف فيليبس قائلاً: "وعلى امتداد النهر وجدنا نفقاً قد شُقّ في الصخر الصلد، به انحدارات مائية، وهذه الأنفاق متّصلة بالسطح خلال فتحات رأسية للتهوية، وهذه الأنفاق تجنّب ضياع المياه نتيجة للامتصاص والتبخّر. من الذي صمّم هذا النظام العبقريّ الذي يعمل بالجاذبيّة الأرضية؟ أيّا كان فلا بدّ انّه احتاج لعدد كبير من العمّال، بالاضافة الى قدرته على تنفيذ المشروعات الجماعيّة الضخمة في المجتمع، كي يقوم بحفر مثل هذه القنوات في مثل هذا الجفاف". ومن صحار وأفلاجها ينتقل فيليبس فجأة الى المعتقدات والأساطير التي كانت تغلّف حياة الناس آنذاك، وما تزال لها شواهد في مناطق متعددة من العالم كالعلاج عن طريق الكي، والتداوي بالأحجبة والتعاويذ، واللجوء الى الطالع وقراءة النجوم، وغيرها. رأس مسندم من صحار ينتقل فيليبس ومجموعته الى رأس مسندم الذي يفصل بين الخليج العربي وخليج عُمان. ومسندم شبه جزيرة على ارتفاع كبير، تتكون من صخور مدبّبة وتُعرف برأس مسندم، صخورها سود غير مستوية، ويعيش سكانها في أكواخ أو في مساكن نُحتت في الصخر، وتعيش على الصُدف أو صنع الأكواخ. ولأن معظم سكان الشواطئ يمتهنون مهنة الصيد، فقد التفت فيليبس الى طريقة صنع شباك الصيد حيث يصل طول الواحدة الى حوالى أربعمئة ياردة طولاً، ولها قطّاع في المنتصف يبلغ اثنتي عشرة قدماً، ويتمّ غزل الشباك غزلاً يدوياً، هذا غير فخاخ الأسماك التي تُصنع من خشب النخيل بقطر يبلغ أربع أقدام أو أقلّ قليلاً. والمياه هنا مليئة بالدرافيل والسلاحف البحرية والسردين وغيرها من الأسماك. ويتمّ تصدير كميات هائلة من كلاب البحر للصين. ويستخدم الصيادون الهوري وهو قارب صغير من خشب معيّن. عادت البعثة الى صُحار ليتابع أعضاؤها عمليات التنقيب عن الآثار، تلك العمليات التي أثبتت لهم كفاءة فريدة للعمال، والتي تشبه في صلابتها الصبر اللامحدود للمزارعين الذين لا يأبهون كثيراً لتقلبات الأجواء وهبوب الرياح وشدّة الحرارة أثناء عنايتهم بمزروعاتهم، فيصفهم بقوله: "إنّ العُمال العُمانيين يحبون العمل ولا يحبّون النقاش أو الجدال، ويدّخرون قواهم لعمل اليوم التالي". باتّجاه صلالة وبعد جولة واسعة شملت جميع مدن الشاطئ المتصالح، يعود فيليبس ومجموعته عبر مدن عُمان الداخلية الى صلالة. غير انّه لا يذكر شيئاً عن تلك المدن والقرى التي مرّ بها الركب، ربّما لتشابهها مع ما سبق أن ذكره، غير انّه يتأنّى لدى صلالة طويلاً، فقد سحرته المدينة وطبيعتها وسكّانها وآثارها الممعنة في القدم والتي لم يستطع الآثاريون والجيولوجيون تحديد عصرها بشكل دقيق. ويصف الناس وعاداتهم هناك، فقد لاحظ أنهم حين يلتقي بعضهم بعضاً يتبادلون القُبل والمصافحة التي تأخذ في بعض الحالات صورة تشابك الأيدي، وقسم من الناس يحملون السيوف، ولأبناء قبيلة القرا بشكل خاصّ قوّة تحمل كبيرة كما يتميّزون ببنيان جسديّ قويّ، وهم عادة حليقو الذقون. أمّا نساء قبيلة القرا فهنّ صغيرات يتميّزن بجاذبية محبّبة، وهنّ غير محجبات على عكس النساء الأخريات جميعاً، ويتزيّن باستخدام الألوان المختلفة في تجميل وجوههنّ، ويتزوّج الأبناء هنا عادة في سنّ الخامسة عشرة. ويعقّب على ما سبق أن ذكره الرحّالة والمستكشفون القدماء قائلاً: "انّهم لا يعرفون مثلما نعرف نحن الآن عن هذه المنطقة، حيث الأشجار العالية والنخيل والأطلال والمدن القديمة والفنون التي كانت هناك. لقد عرفنا صلالة التي لا يعرفونها، والتي إذا ما قورنت ببقيّة الجزيرة تُعتبر جنّة بأشجارها وعيون الماء فيها، وكذلك ببحيراتها وشلالاتها، والجبال التي تكسوها النباتات والأحراش. وهناك تناقض كبير بين قارّة آسيا ككلّ، وصلالة وما حولها من جمال ينبئ بصدق ما يعتقده أهلها من أنها أوّل جنّة على سطح الأرض بعد نزول آدم من الجنّة السماويّة". * المجمع العلمي للبحوث والدراسات - لندن. ** طبع في مسقط بثلاثة مجلدات سنة 1416ه/1996م تحقيق د. هادي حسن حمودي. * النصوص من كتاب "رحلة الى عُمان"، تأليف ويندل فيليبس، مسقط 1406ه/1986م.