حسمت الكنيست الاسرائيلية، يوم 4 كانون الثاني يناير، مسألة الذهاب لانتخابات مبكرة. وقبل حل نفسها قيدت الحكومة القادمة، وفرضت الحصول على غالبية مطلقة من الاصوات لاعادة الاراضي التي ضمت لاسرائيل مثل القدس والجولان، وارتفعت بسرعة درجة حرارة الصراع حول مقاعد الكنيست ورئاسة الوزراء، واصبح الفوز فيها هدفاً مركزياً لكل الاحزاب وتعرضت وحدتها للتمزق. وشرعت كلها في تكييف مبادئها ومواقفها السياسية وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية لصالح تحقيقه. وبدأت تعطيه اولوية على ما عداه، بما في ذلك صنع السلام مع العرب وتوفير الامن والهدوء لشمال اسرائيل. وانتهج البعض في حملته الانتخابية تكتيك الهجوم الشخصي المباشر واقتحام مواقع المرشحين الآخرين من دون تمهيد ناري مسبق. فوصف شاحاك نتانياهو بأنه "رجل خطر على اسرائيل"، واقدم الآخر على خلع سترته الواقية للرصاص بطريقة استعراضية امام تجمع ليكودي بعد اطمئنانه لعدم وجود "غرباء". ولا تزال المعركة مستمرة، ومع استمرارها ستشكف الاحزاب عن مواقفها الحقيقية، وستتعرض المصالح العربية وعملية السلام لقصف مركز من كل الاتجاهات الحزبية. ويفترض ان لا يكون هناك خلاف فلسطيني او عربي بين المؤيدين لعملية السلام والرافضين لها، على ان انتقال معركة الانتخابات من الكنيست للشارع الاسرائيلي ادخل المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية فترة جمود جديدة، وعطل تنفيذ الاتفاقات، وفرض على المفاوضين الفلسطينيين اجازة قسرية مدتها 6 اشهر على الاقل، وقطع الطريق امام اي محاولات اميركية لاحياء المفاوضات السورية اللبنانية - الاسرائيلية، وابقاها على حالها معلقة بين الارض والسماء، كما كانت منذ فوز ليكود في انتخابات عام 1996. وبادرت وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت الى الغاء زيارتها لاسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية. وبدلاً من الاهتمام بانقاذ عملية السلام وتنفيذ اتفاق "واي ريفر" الذي رعاه رئيسها بيل كلينتون، حصرت اهتمامها في سبل تفتيش ومحاصرة العراق. والواضح ان جهود منسق عملية السلام دنيس روس في المنطقة غير كافية لاعادة تشغيل ورشة المفاوضات بصورة منتجة. واذا كانت المصالح الوطنية العليا تفرض عدم تحمل الفلسطينيين المسؤولية الرسمية عن تعليق المفاوضات، فالقيادة الفلسطينية ترتكب خطأ جسيماً اذا راهنت على استئنافها خلال فترة الانتخابات او سعت لذلك. فاستئنافها يستخدم لتقطيع الوقت وتضليل العرب، ولن يحقق للفلسطينيين اي مكاسب سياسية او عملية، ويخلق اوهاماً في صفوف الفلسطينيين، ويربك مهمة استنهاض طاقاتهم في مواجهة المتطرفين الاسرائيليين، والتصدي للاستيطان الزاحف بقوة في الضفة والقطاع. وقد يخدم الحملة الانتخابية لقوى اليمين ويعطي نتانياهو واركان ليكود فرصة اظهار تحديهم لتطلعات الفلسطينيين، وتوجيه الاهانات المتنوعة للمفاوض الفلسطيني واذلاله امام الجميع. فمصالح نتانياهو الانتخابية وشروطه الخمسة لتنفيذ بقية اتفاق واي ريفر - تراجع السلطة الفلسطينية عن نيتها اعلان الدولة، وقف المطالبة باطلاق سراح المعتقلين، جمع الاسلحة غير المرخصة، تقليص عدد افراد الشرطة وضرب البنية التحتية للارهاب - ذريعة مفتعلة هدفها تغطية قرار تجميد تنفيذ الاتفاقات وتعليق مفاوضات الحل النهائي، واستفزاز الجانب الفلسطيني، واستدراجه لمعركة سياسية واعلامية تجعله هدفاً مركزياً لحملته الانتخابية، يبرز فيها قوة عضلاته وصرامة اجراءاته الامنية والعسكرية، ويظهر صلابته الايديولوجية ويستعيد خطابه السياسي المتطرف، على امل وقف تفكك ليكود ولملمة اوضاع الائتلاف الحاكم. ورغم الازمات المتنوعة التي يمر بها نتانياهو وتكتل ليكود وتحالف قوى اليمين، الا انه من المبكر جداً اطلاق احكام نهائية حول نتائج الانتخابات، والاعتقاد ان فرص فوز نتانياهو من جديد باتت معدومة خطأ جسيم. فأزماته الكثيرة الداخلية والخارجية لم تسقط كل الاوراق القوية التي يمتلكها. والأشهر الاربعة الباقية على فتح صناديق الاقتراع طويلة وتكفي ليلعب بها، ويعمل الكثير من اجل تغيير الصورة. فعملية التسوية مع الفلسطينيين والاتفاقات التي انبثقت عنها، رهينة بين يديه يستطيع التصرف بها وفق اهواء الناخبين وبما يخدم بقاءه في كرسي رئاسة الوزراء. والشيء ذاته ينطبق على العلاقة مع السلطة الفلسطينية. ولن يتوانى عن ارتكاب حماقات ضد القيادة الفلسطينية، وفرض الحصار والاغلاق على المناطق الخاضعة لها، واغلاق المطار… الخ. ونتانياهو يعرف اكثر من سواه ان وأد عملية السلام، وتمجيد فضائل الاستيطان وتوسيع رقعته واطلاق العنان للمستوطنين للبناء في جبل ابو غنيم، وتمكينهم من الاستيلاء على بيوت جديدة في القدس والخليل، والتهديد بضم ثلثي الضفة الغربية اذا اعلن الفلسطينيون قيام الدولة من جانب واحد… الخ انغام تطرب لها آذان قواعد وتستهوي كوادر اليمين الديني والعلماني المتطرف، وتنسيهم اخطاء حكومة ليكود، وتستنفرهم وتستنهض طاقاتهم وتدفعهم باتجاه صعود التلال الفلسطينية وخلق مزيد من الحقائق على ارض الضفة والقطاع والجولان، وتحفزهم للنزول الى شوارع المدن الاسرائيلية في مواجهة منافسيه في معركة رئاسة الوزراء، وتهيجهم وتحث خطاهم نحو صناديق الاقتراع وصب اصواتهم لصالحه باعتباره المرشح الاكثر حرصاً على مصالح اليمين. ولن يتردد نتانياهو المأزوم داخلياً وخارجياً عن استخدام الورقة اللبنانية. ولن يعجز عن ايجاد الذرائع والمبررات لتفجير الوضع العسكري في جنوبلبنان، ودفع الجيش الاسرائيلي والاذرع الامنية الاخرى نحو القيام، على ابواب الانتخابات، ببعض العمليات الامنية الخاصة هنا او هناك. والتحرش المباشر بالقوات السورية المرابطة في لبنان، معتقداً ان هذه الاعمال تساعده على تكريس نفسه كرئيس للوزراء. وغروره يدفعه لاستخلاص دروس مغايرة للدروس التي استخلصها بيريز من مجزرة "قانا" التي نفذت على ابواب الانتخابات السابقة. وأظنه يبتهل الى الله ان يمنّ عليه خلال هذه الفترة بعملية عسكرية او اكثر تنفذها الجهات الفلسطينية المعارضة لعملية السلام وللاتفاقات التي انبثقت عنها. صحيح ان تنفيذ عمليات قتالية يظهر فشل حكم ليكود بقيادة نتانياهو في توفير الأمن للاسرائيليين، الا ان اظهار هذا الفشل ابان فترة الانتخابات يزيد المتطرفين تطرفاً ويوحد صفوفهم. لا شك في ان نتائج هذه الانتخابات حاسمة في تقرير ماهية الحل الدائم مع الفلسطينيين، وتقرير مستقبل العلاقات الفلسطينية والمصرية والاردنية - الاسرائيلية، ومصير عملية السلام على مساراتها الثلاثة. واذا كانت الاحزاب الصهيونية اليسارية بقيادة باراك وشاحاك لم تتخلص للآن من مفاهيمها العنصرية التوسعية، ففوز اليمين الاسرائيلي فيها بقيادة نتانياهو هو الاخطر على المصالح والاهداف العربية في استعادة اراضيهم المحتلة وبناء مستقبلهم، وسيكون موجهاً بالاساس ضد عملية السلام ونتائجها التي تحققت للآن، وكافياً لدفن فكرة صنع التعايش والسلام بين الشعبين لسنوات طويلة، ويفتح ابواب المنطقة من جديد امام حروب مدمرة للجميع. وكل من لديه قدر من الادراك السليم لأبعاد ونتائج معركة الانتخابات الاسرائيلية على اوضاع المنطقة لا يمكنه انتهاج سياسة تقطيع الوقت، والبقاء في موقع المراقب، او الدعوة الى نفض اليدين من عملية السلام الجارية. فالسكوت على صعود التطرف في اسرائيل، وعدم بذل الجهد المستطاع لفوز انصار السلام خطيئة تدفع ثمنها الشعوب العربية اولاً. ودرء الاخطار وحماية المصالح الوطنية والقومية العليا يتطلب شروع الدول العربية في تنسيق مواقفها والتحرك على اكثر من جبهة، اولاها التخلص من حال التمزق والهوان اتي تجعل الصوت العربي ضعيفاً لا تأخذه القوى الكبرى والمحافل الدولية في الاعتبار، وتشجع نتانياهو واركان اليمين على خدعهم والتطاول على الحقوق العربية، ونقض الاتفاقات التي يوقعها مع الفلسطينيين. وبصرف النظر عن المواقف والبرامج التي تطرحها الاحزاب الاسرائيلية فاتفاق قادة حزبي العمل وليكود، بسرعة على اجرائها بعد اقل من اسبوعين من موعد انتهاء المرحلة الانتقالية 4 ايار/ مايو، مؤشر على تقاطع مواقف الحزبين حول جعل مسألة قيام الدولة الفلسطينية قضية انتخابية مركزية، وابتزاز السلطة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بشأن الاعلان عن قيامها. يعتقد نتانياهو ان تراجع السلطة وتأجيل الاعلان الى ما بعد الانتخابات انتصار لخطه المتشدد. وقيادة حزب العمل ترى في تنفيذه خدمة كبرى لنتانياهو وبقية القوى المتطرفة. ويطالب بتأجيل الاعلان الى ما بعد الانتخابات من دون ان يقدم اي التزامات رسمية بالاعتراف بها لاحقاً. ورغم ان معركة الانتخابات الاسرائيلية لا تزال في بدايتها ف "وسطاء الخير"، من الاميركان والاوروبيين والعرب رسميين وخبراء، شرعوا في تكثيف تحركاتهم، وتقديم نصائحهم الودية للقيادة الفلسطينية وحثها على التحلي بالصبر وأخذ زمام المبادرة واخراج ورقة اعلان قيام الدولة من بازار الانتخابات الاسرائيلية بأسرع وقت ممكن، وتعطيل استغلالها ضد عملية السلام وانصاره من الاسرائيليين. اعتقد ان المصالح الوطنية والقومية العليا تفرض تحويل هذه الورقة الفلسطينية الثمينة الى ورقة عربية يتم التمسك بها بكل قوة. وعدم التراجع عن اعلان قيام الدولة فور انتهاء المرحلة الانتقالية قبل تعهد قوى اليسار الاسرائيلي بالاعتراف الرسمي بها لاحقاً، وادراج حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره في برامجها الانتخابية، وضمان اعتراف دول السوق الاوروبية بها عند اعلانها، واعتراف الادارة الاميركية بحق تقرير المصير اذا تعذر عليها التعهد بالاعتراف بالدولة، وان يحدد مسبقاً موعداً جديداً للاعلان. فالتأجيل من دون تحقيق هذه الضمانات يلحق اضراراً فادحة بالمصالح الاستراتيجية الفلسطينية والعربية ويفقد هذه الورقة الثمينة قيمتها. والشيء ذاته ينطبق على التأجيل المفتوح. واذا كانت كل المؤشرات والدلائل الملموسة تؤكد بأن معركة الانتخابات الاسرائيلية ستكون زاخرة بالمواقف الاسرائيلية المعادية للعرب والفلسطينيين ومصالحهم العليا، فمن الخطأ ان يتصرف هذا المسؤول الفلسطيني او ذاك العربي وكأن معركة الانتخابات شأن اسرائيلي داخلي محض لا يجب التدخل فيه، خصوصاً ان المصير الفلسطيني والعلاقات العربية - الاسرائيلية دخلت قائمة القضايا الاسرائيلية الداخلية الرئيسية، تماماً كما صارت الاوضاع الاسرائيلية الداخلية قضية فلسطينية وعربية. ولا بد من زج ثقلهم السياسي والمعنوي فيها، من اجل: اشعار نتانياهو وكل مرشحي اليمين بأن مغامراتهم العدوانية في الضفة والقطاع وجنوبلبنان لن تكون رابحة. وافهام الشارع الاسرائيلي بأن التصويت لليمين وعودة نتانياهو لرئاسة الوزراء يجلبان الكوارث للجميع بلا استثناء. * كاتب سياسي فلسطيني.