تعيش السلطة الفلسطينية حالة خطرة من الجمود السياسي، وقد حذر الرئيس عرفات نفسه من خطر هذا الجمود في الاجتماع الاخير الذي حضره مع القيادة الفلسطينية. بدا الجمود لفترة وكأنه نابع فقط من موقف رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي قرر تجميد تنفيذ اتفاق واي بلانتيشين، بسبب قرار التوجه نحو الانتخابات في 17 ايار مايو القادم، ولكن المنطقة العربية نفسها قدمت اسبابا اخرى للجمود، فبسبب الانشغال العربي بالأزمة العراقية غاب الموضوع الفلسطيني عن مناقشات السياسة العربية، وبسبب التغييرات الدستورية المتعلقة بولاية العهد في الاردن، غاب عن الساحة الاهتمام الاردني بالموضوع، حتى ان اللقاء الثلاثي التنسيقي الذي كان من المفترض ان يعقد بين مصر والاردن وفلسطين، تحول الى لقاءات ثنائية بين الرئيس مبارك والرئيس عرفات في شرم الشيخ، وبين الرئيس مبارك والملك حسين في عمان. والجمود لا يتعلق فقط بوقف تنفيذ اتفاق واي بلانتيشين، بل ان له مظاهر اخرى لا تقل خطورة عن وقف التنفيذ . ان وقف التنفيذ قرار اعلنه نتنياهو، ومن هذا المنطلق، وبسبب سياساته المعروفة، انصبت عليه اللعنات، ولكن القادة الاسرائيليين بمجموعهم، ومن اليمين واليسار، يتشاركون في حمل وزر هذه المسؤولية، إذ لم يبرزحتى الآن اي موقف سياسي اسرائيلي ينتقد قرار نتنياهو بوقف التنفيذ في فترة الانتخابات، اذ يعتبر الكل ان وقف التنفيذ مناسب لهم في الاجواء التي يعيشونها، وهكذا لم نسمع لا من باراك اليساري، ولا من شاحاك الوسطي، ولا من بني بيغن اليميني، اية دعوة جادة لضرورة الالتزام بالتنفيذ اثناء فترة الانتخابات، وكأن الكل يعتبر الدعوة للتنفيذ ورقة انتخابية خاسرة، فيدعمون بذلك موقف نتنياهو، ثم يختلفون معه حول قضايا تخصهم. وبعد وقف التنفيذ للاتفاقات، تأتي قضية موعد الرابع من ايار مايو 1999، لقد كان من المفترض ان يكون هذا اليوم نقطة حاسمة في مسيرة التسوية السياسية، كان من المفترض ان يشهد انجاز تجربة الحكم الذاتي الفلسطيني، وكان من المفترض ان يشهد انتهاء التفاوض حول الحل النهائي والدائم، وكان من المفترض ان يشهد بعد ذلك كله تتويج هذا النهج باعلان الدولة الفلسطينية، ومن وجهة نظر فلسطينيي اوسلو على الاقل، ولكن شيئا من ذلك لم يتحقق. الحكم الذاتي على كل اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة لم ينجز، والتفاوض حول قضايا الحل النهائي لم يبدأ، واعلان الدولة الفلسطينية ووجه بضغوط كبيرة، وبصدٍ اسرائيلي واسع. وفي ظل هذا الفشل الشامل، برز الاصرار الفلسطيني على اعلان قيام الدولة يوم 1999/5/4 وكأنه المخرج الوحيد الممكن من الازمة، ومن حالة الفشل التي انتهت اليها عملية التسوية، ولكن هذا التوجه الفلسطيني يلقى "حاليا معارضة كبيرة، تبدأ في اسرائيل، وتمتد الى الولاياتالمتحدة، وتشارك فيها حتى اوروبا الاقرب الى الفلسطينيين، وكأن الكل يعمل لابقاء الفلسطينيين داخل المأزق الذي يعيشون فيه. داخل عملية الضغوط هذه، تتفاوت المواقف، بين طرف لا يعترف للفلسطينيين بحقهم في الانفراد بالاعلان عن قيام الدولة، وبين من يطلب منهم ذلك لاسباب عملية. الاميركيون مثلا، وعلى لسان الرئيس بيل كلينتون، يعتبرون الانفراد الفلسطيني كارثة، ويعتبرونه اخلالا بالاتفاقات، ويكادون ان يقارنوه وان يساووه بالانفراد الاسرائيلي في قضايا مثل الاستيطان او التخلي عن تنفيذ الاتفاقات، وجوهر موقفهم ربط قضية الدولة الفلسطينية بالتفاوض مع اسرائيل، وبالرغم من ان اتفاق اوسلو لا ينص على ذلك .أما الاوروبيون وبخاصة الآن، فانهم يحذرون الرئيس عرفات، من ان اعلان الدولة الفلسطينية قبل اسبوعين من موعد الانتخات الاسرائيلية، سيعني تقديم ورقة سياسية فعالة لضمان نجاح نتنياهو في الانتخابات، ويطلبون منه التأجيل لتجنب هذا الاحتمال، او لضمان سقوط نتنياهو وقدوم وجه اسرائيلي جديد. والاسرائيليون من جانبهم يهددون ويتوعدون بأن اقدام الفلسطينيين على هذا الموقف سيدفعم الى اعلان ضم بقية الاراضي الفلسطينية الى دولة اسرائيل. كيف يتصرف الفلسطينيون ازاء هذه التهديدات؟ انهم يطلقون التصريحات المتوالية، والتي تؤكد الاصرار على اعلان قيام الدولة الفلسطينية في الموعد المحدد ، موعد انتهاء فترة السنوات الخمس الانتقالية المحددة في اتفاق اوسلو. ولكنهم سرا، يفاوضون ويساومون. قال مسؤول كبير في السلطة الفلسطينية رفض الكشف عن اسمه يوم 99/1/19 "ان عرفات مستعد للبحث في ارجاء الاعلان، ولكن الثمن يجب ان يكون اعتراف الولاياتالمتحدة واوروبا بدولة فلسطينية. وقال صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين يوم 99/1/20 "اذا اجتمعت الدول الراعية للاتفاقات، وقدمت مقترحات محددة، فاننا مستعدون لدراستها، فيوم 99/5/4 يوم تاريخي ولا نقبل التعامل معه بتسريبات من هنا وهناك"، وفي اليوم نفسه قالت مصادر اسرائيلية مطلعة ان عرفات "لن يرجىء الاعلان في 99/5/4 اذا لم يتلق تعهدا اميركيا بتاريخ جديد"، وهي صيغة تعني الموافقة على تمديد اجل المرحلة الانتقالية فقط، بحيث يكون له بعد ذلك الحق في اعلان الدولة. وفي هذا السياق جاءت وثيقة "يوسي بيلين" التي سميت "وثيقة فرانكفورت"، والتي اقترحها كما يبدو على بعض القادة في الاتحاد الاوروبي، وفيها تتولى اوروبا دعوة عرفات الى تمديد اجل اتفاق اوسلو حتى مطلع العام 2000 0 وهنا لا نستطيع ان نقلل من اثر هذه الضغوط الدولية على السلطة الفلسطينية، ولا نستطيع ان نقلل ايضا من قيمة المساومة التي يسعى اليها عرفات، بقبول التمديد مقابل الحصول علي اعتراف اميركي واوروبي بالحق في اعلان دولة فلسطينية، ولكن ماذا لو كان ذلك مشروطا بالتفاوض حولها مع اسرائيل؟ هنا تكون القيادة الفلسطينية قد وقعت في الفخ مرة اخرى، فقرار الدولة هو قرار فلسطيني وليس منحة اسرائيلية تباركها بالموافقة عليها، وقرار الدولة الفلسطينية يجمع من حوله تأييد الكثيرين حين يكون بداية النهاية لاتفاقات اوسلو ، وبداية عمل مستقل من خارجها، وقبول منطق التفاوض مع اسرائيل حول هذه المسألة يعني قبول نهج الارتباط بها بصورة نهائية ومطلقة، ويعني في النتيجة قبول الصيغة التي تطرحها اسرائيل للدولة الفلسطينية، صيغة الدولة التابعة، والتخلي عن صيغة الدولة المستقلة. والدلائل هنا كثيرة، من اليمين ومن اليسار على السواء. آرييل شارون وزير الخارجية الليكودي، طرح في اسرائيل وفي فرنسا وفي موسكو مشروعا للدولة الفلسطينية كيان دولة حسب تسميته، يقوم على : اقتطاع جزء كبير من اراضي الضفة الغربية بحجة الامن. الاحتفاظ بالقدس. سيادة على السكان من دون الارض. بقاء المستوطنات تحت السيطرة الاسرائيلية. واعتبر مشكلة عودة اللاجئين قضية مفتعلة ولا تحل الا بالتوطين. ويوسي بيلين العمالي، والمسمى نصيرا للسلام وللفلسطينيين، يضيف من عنده الى "وثيقة فرانكفورت" المذكورة اعلاه، اقتراحا بالموافقة على دولة فلسطينية تقوم على 50$ من اراضي الضفة الغربية. وبهذا يلتقي اليمين واليسار الاسرائيليين على تصور للدولة الفلسطينية يفرض عليها التبعية الكاملة لاسرائيل، من خلال الاصرار على انتزاع الجزء الاكبر من الارض، وبشكل لا يجوز معه ان يربط الفلسطينيون سعيهم لاعلان الدولة بالتفاوض مع اسرائيل، وان يصروا بالمقابل على ان اعلان الدولة قرار وطني فلسطيني، وبسيادة فلسطينية كاملة، تبقى فيها ملفات الحل النهائي مفتوحة بالكامل، ما دامت اسرائيل ترفض التفاوض حولها، او انها تغلق التفاوض سلفا بمواقفها المعلنة حولهاالقدس، اللاجئون، المستوطنات. اما الحجة الاساسية الثانية القائلة بأن اقدام الفلسطينيين على اعلان قيام الدولة يوم 99/5/4 سيؤدي الى فوز نتنياهو في الانتخابات الاسرائيلية يوم 99/5/17 فهو قول مردود على اصحابه. ان فوز نتنياهو بالسلطة، سابقا او لا حقا، هو امر تقرره عوامل اسرائيلية داخلية عميقة، وليس وليد حدث سياسي او امني طارىء. لقد فاز نتنياهو بالسلطة عام 1996 في وقت لم تكن فيه قضية اعلان الدولة الفلسطينية مطروحة للبحث، وفاز بالسلطة في وقت كان فيه الشارع الاسرائيلي بمجموعه، يشعل الشموع حدادا على اغتيال اسحق رابين، والذين ربطوا بين فوزه وبين العمليات الفدائية الانتحارية التي حدثت عشية تلك الانتخابات، تجاهلوا ان اليمين سيطر على السلطة الاسرائيلية منذ العام 1977 حتى الآن، باستثناء فترة وجيزة هي فترة حكم اسحق رابين. ثم ماذا يقدم سقوط نتنياهو للفلسطينيين؟ هل سيقدم لهم نجاح حزب العمل، حيث يقول الاكثر اعتدالا بينهم يوسي بيلين بدولة فلسطينية تقوم على 50$ من الارض؟ هل سيقدم لهم نجاح اسحق موردخاي على رأس حزب الوسط اكثر من دولة تقوم على 42$ من الارض ؟ حسب اقتراحاته التي استندت اليها المبادرة الاميركية. ان المراهنة الفلسطينية على نجاح هذا الطرف الاسرائيلي او ذاك هي مراهنة خاسرة، والبديل لها ان يطرح الفلسطينيون تصورهم الواضح للدولة، ولارضها، ولسيادتها، وأن يصروا على تحديد اسس التفاوض مع المسؤول الاسرائيلي ايا كان، وهي اسس بات من الواضح الآن انها يجب ان تستخلص من خارج بنود اتفاق اوسلو، بعد ان شاهدنا تجربة اوسلو على الارض، ورأينا مأساتها بأم اعيننا. لقد نسي الناس ان اتفاق اوسلو لا يتضمن اي قرار من قرارات الشرعية الدولية كأساس للتفاوض، وفي منطق الشرعية الدولية لا يخضع حق تقرير المصير للتفاوض الا من زاوية التوجه للتنفيذ، وهو ما يجب ان يسعى اليه القادة الآن، قبل ان يجدوا انفسهم وقد وقعوا نهائيا في قبضة الاسرائيليين بالكامل. * كاتب من اسرة "الحياة".