أمير تبوك يواسي في وفاة الشيخ أحمد الخريصي    محافظ رابغ يدشّن مبادرة زراعة 400 ألف شجرة مانجروف    فرنسا تندد بقرار أمريكا حظر منح تأشيرات دخول لمفوض أوروبي سابق    كوريا الجنوبية وأمريكا تبرمان اتفاقا جديدا للتعاون في مجال الغواصات النووية    مدينة جدة تتوج كأفضل منظم جديد في تاريخ سباقات الزوارق السريعة للفورمولا 1    تعليم الطائف يطلق اللقاء التعريفي لبطولة «عقول» لمديري ومديرات المدارس    تعليم جازان يودِع مكافآت الطلاب والطالبات لشهر ديسمبر 2025م    إدارة التغيير… حين يصبح الوعي مدخلًا للتحول    جمعية أدبي الطائف تقيم أمسية أدبية منوعة احتفاء بيوم اللغة العربية العالمي    البرلمان الجزائري يصوّت على قانون يجرّم الاستعمار الفرنسي    اندلاع حريق بموقع صناعي في تولا الروسية    الذهب يتجاوز 4500 دولار للأونصة    نائب أمير تبوك يؤدي صلاة الميت على الشيخ أحمد الخريصي    مصرع رئيس الأركان العامة للجيش الليبي في حادث تحطم طائرة بتركيا    الإدارة الذاتية: استمرار التوتر تهديد لاتفاق الشرع وعبدي.. ارتفاع قتلى قصف «قسد» في حلب    نائب أمير الشرقية يهنئ مدير تعليم الأحساء    سلطان عُمان يستعرض مع ابن فرحان المستجدات الإقليمية والدولية    جدة تستضيف نهائيات «نخبة» آسيا    نخبة آسيا.. بن زيما يقود الاتحاد لتجاوز ناساف    الجولة 13 بدوري يلو.. الأنوار يستقبل الباطن والبكيرية يواجه العربي    سلطان عُمان يستقبل سمو وزير الخارجية    أمير الباحة يطلع على مستجدات مشروعات المياه    موجز    إحباط تهريب 131 كلغم من القات    دلالات تاريخية    فلكية جدة: النجوم أكثر لمعاناً في فصل الشتاء    أقر القواعد الموحدة لتمكين ذوي الإعاقة بالخليج.. مجلس الوزراء: الموافقة على قواعد ومعايير أسماء المرافق العامة    اطلع على سير العمل في محكمة التنفيذ.. رئيس ديوان المظالم: تفعيل المبادرات الابتكارية في مفاصل «التنفيذ الإداري»    رعى «جائزة مدن للتميز»..الخريف: الصناعة السعودية ترتكز على الابتكار والاستثمارات النوعية    كاتس يكرس سياسة الأمر الواقع.. وحماس تؤكد أنه انتهاك فاضح.. إسرائيل باقية في غزة وتتوسع في الضفة    «الخوص والسعفيات».. تعزز ملامح الهوية المحلية    مشروعات «الشمالية» في جناح «واحة الأمن»    روح وريان    خربشات فكر    بين الكتب والخبز    مسجد القبلتين.. شاهد على التاريخ    استعراض إجراءات حماية عقارات الدولة أمام أمير الشمالية    «الشؤون الدينية» تعزز رسالة الحرمين    «فايزر» تعلن وفاة مريض بعد تلقيه دواء لعلاج سيولة الدم في تجربة    المنظار الأنفي.. تطور علاجي في استئصال الأورام    السعودية تستورد 436 ألف كيلو جرام ذهبا خلال 4 سنوات    في عامه ال100 أبو الشعوف يواصل الزراعة    3095 شخصا تعرضوا للاختناق ثلثهم في مكة    ساخا أبرد بقعة على الأرض    جدة تستضيف نهائيات دوري أبطال آسيا للنخبة 2026    الجولة 13 بدوري يلو.. الأنوار يستقبل الباطن والبكيرية يواجه العربي    كرات ثلج تحطم رقم Guinness    القيسي يناقش التراث الشفهي بثلوثية الحميد    الضحك يعزز صحة القلب والمناعة    المشروبات الساخنة خطر صامت    نجاح أول عملية للعمود الفقري بتقنية OLIF    فلتعل التحية إجلالا وإكبارا لرجال الأمن البواسل    أمير الجوف يرأس اجتماع اللجنة العليا لدعم تنفيذ المشاريع والخدمات للربع الثالث 2025    «نسك حج» المنصة الرسمية لحجاج برنامج الحج المباشر    تخريج دفعة جديدة بمعهد الدراسات للقوات الجوية بالظهران    الكلام    أمير جازان يستقبل رئيس جامعة جازان الدكتور محمد بن حسن أبو راسين    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. وزير الدفاع يقلد قائد الجيش الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين كتابين أو ثلاثة - عشية ذكرى الثورة العشرين . حين كنت خمينيا
نشر في الحياة يوم 24 - 01 - 1999

بين اندلاع التظاهرات في طهران ضد الشاه وسقوط أبو الحسن بني صدر، أُصِبت بالخمينية. فحين وصل آية الله مظفراً من فرنسا، رفعت الجريدة عالياً مُظهراً المانشيت، وهتفت وأنا في وسط الشارع لحسن... الذي كان في بيته في الطابق الثاني: لقد انتصرنا. لقد انتصرنا.
كان السلوك هذا يستحضر الولد فيّ، الولدَ المُصرّ على أن يبقى ولداً.
والحال ان خمينيتي جاءت كأنها رفعٌ لحرارة شخصية رافقتني منذ نعومة الأظافر، وكانت دائماً تقودني إلى الأشد تطرفاً والأكثر راديكالية. والماركسية في أواخر السبعينات اللبنانية كانت بدت باردة وعاجزة عن أن تفسر لغز الحرب المتمادية في بيروت: فهي ناشبة بين الطوائف حول ما خلناه موضوعاً قومياً، فيما الأفكار الآتية من المانيا وروسيا تطيل طريقنا بردّه إلى الطبقات وإكثار المحطات التي تعيق بلوغ الهدف المباشر.
لقد تراءى لنا، أنا وصالح... وشلة من مكتشفي الفجر الجديد، ان الواقع في مكان والنظرية في مكان آخر. هو يشبه اليقظة التي لا نوم بعدها وهي تشبه النوم الذي لا يقظة بعده. هو الجماهير الزاحفة كتلاً، وهي الكتب البطيئة التي تفد كتاباً متعثراً تلو آخر. لهذا تبدت أفكار إيران أشبه بحربنا وأقدر على تقديم النظرية التي تساوي واقع الحرب هذه وتعادله.
هكذا وضعنا يدنا أخيراً على ما كنا نسميه تطابق النظرية والممارسة. وهاهو يأتينا ناصعاً كالبياض، نقياً كالنقاء الأول الذي لا يعوزه الابهام. فإذا كان المطلوب دكّ الموارنة اللبنانيين وتقويضهم، فمدافع آيات الله، لا لغو اليسار العلماني، هي التي تفعل ذلك لأنها نقيض بنادقهم الكامل.
واعتناق الخمينية وجد له أصولاً أخرى في تربية عائلية متزمّتة، وفي بيوريتانية مسيحية شرقية تمعن في انتقاء الكلام وتقتصد في التعبير. فعائلتي، مثل عائلات كثيرة تشبهها، لم تكفّ عن طلب المخلّص. وهي إذا فضّلت اللون الأسود، في الملبس، على الألوان جميعاً، استأصلت من المأكل كل طعم حاد كالثوم والبهار. وفيها ترك "العظماء" من هتلر وموسوليني إلى عبدالناصر بصماتٍ لا تزول، فكانوا أحبّاءنا وضيوف بيتنا الدائمين.
كانت الخمينية، إذاً، تذكيراً بجدٍ لم أره إلا عابساً، وبجدة قضت السنوات الست الأخيرة من عمرها في الحداد والسواد على نجلها الراحل. والجدان كانا ماتا قبيل وصول آية الله إلى طهران. فعندما وصل، أشعرني باستمرارية تلخّصها كلمة "الجذور" العزيزة علينا يومذاك. فجدّاي ما ماتا، وأنا لم انقطع عن طفولة قضيتها في رعايتهما.
لكن الخمينية شابهت أيضاً قريباً آخر لي كان يكثر الكلام عن "الشعب" وحب الشعب، وقد اتخذته لسنوات طويلة مرجع تقليد قرابياً وزمنياً، إلا أنه قضى نتيجة صراعات سياسية دامية في منطقتنا. وها هو الخميني يصعد على عاصفة من الشعب، فكيف أكون أنا خارج هذا الاجماع الذي لم أسع إلا إلى أن أكون ذرة من ذراته؟ وربما عزّز السعي هذا شعورٌ أقلي لاواعٍ في بيروت الغربية عهدذاك. فالأقلي فيّ الذي كبتّه طويلاً عن غير قصد، ساقني إلى حيث تكون الاكثريات، أو حيث يُفترض أنها تقيم، فلا يلوح على مختلفٍ وجه اختلاف أو أثر.
أما "الشعب" الذي كانت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية تنوبان عنه، فكان لا يتمخض إلا عن فساد وإفساد يصعب هضمهما. ولئن تكفل واقعٌ كهذا باستثارة رفض اخلاقي وشعبوي للفساد، فإن الرفض نفسه انطوى على معان أبعد. ذاك ان درجة من العداء القومي للشيوعية كانت لا تزال مقيمة فيّ. فهي ما لم تطوّعه الماركسيات القومية التي اعتنقتها وإن حوّرته بإصرار ريفي المنشأ. والدليل على ان العداء هذا لم يجد تصريفه، اننا، ابان خمينيتنا، لم نساجل "المستكبرين الإيرانيين" ولا "الانعزاليين اللبنانيين"، بل اتجهت حرابنا إلى الشيوعيين على امتداد رقعة لا تقل عن العالم كله.
وفي العداء للشيوعية، وفي الارتداد إلى الخمينية، كمنت تجربة شخصية، ولو بدت بعيدة، هي اقامتي في بريطانيا خلال 1970-1973. آنذاك اقتصرت صداقاتي على العرب وعلى أفراد من شعوب كثيرة ما خلا البريطانيين. والعجز هذا عن اختراق مجتمع يعيش فيه المرء نيفاً وثلاث سنوات، يترك كمّاً من الخرافات عن لااجتماعية الشعب الذي يعاش في وسطه، لكنه يترك أيضاً كمّاً من الاحتقان حيال "الغرب" الذي أجادت الخيمينة شتمه وهجاءه. فعندما اعتنقت الاخيرة حاولت اغلاق نفسي عن كل ما هو "غربي" وافد.
على أن التخفف من الخمينية هو ما شرع يُخرج حرارة التكوين الراديكالي مني فبدأت أشفى، بعدما كانت الحرارة شارفت على ال 42 درجة. أي انني كنت أمام احتمالين، إما الموت من جراء هذه الحرارة التي رفعتُها بالعقيدة إلى الحد الأقصى، أو العد العكسي الذي يُرجعني، مع الزمن، إلى الحياة السوية. وفعلاً باشر قدر من هذه الحياة يرجع، فرحت الاحظ في نفسي اهتماماً أكبر بالتفصيل والوصف والسرد والانتباه إلى "الصغائر" والهوامش والعاديات. وكم لاحقني ذنب السلوك الجلف والاضطهادي الذي سلكته حيال يسري... وبعض الضالين الآخرين أو الذين آثروا التمسك بألوانهم. هؤلاء فضّلوا عدم الأخذ باللون الواحد الذي قدمناه لهم، أنا و"اخواني" الخمينيون، أسود كالليل، لافحاً كالصحراء. وكم لاحقني الخجل من فتاوى متعجلة كنت أصدرها، أنا وأولئك "الاخوان"، حتى أننا دعونا إلى كتابة الشعر الفصيح والتخلي عن شعر الحداثة "الغربي".
لقد بدت المسافة معدومة عهدذاك بين الواقعة والاستنتاج. فلئن احتلّ ثوريو إيران السفارة الأميركية واحتجزوا رهائنها، قلنا في اليوم الثاني إنها خصوصيتنا في فهم الديبلوماسية. ذاك ان الأخيرة التي صنعها "الغرب" مفروضة علينا فرضاً، وها هي ثورة الخميني تحررنا من ديبلوماسية مفروضة على "أهلنا" وبلداننا، لتأتينا بديبلوماسية تشبه الأهل والبلدان المذكورين.
كنا نحلل بسرعة لا سابق لها، فنتكهّن ونتوقع ثم نجزم. وكنا كمن يزيل الغشاوة عن تاريخ إنساني فاته إدراك ما ندركه بإفراط لا يزعمه إلا مؤسسو الدعوات والرسالات، وبدأ يتشكّل لدينا رأيٌ في الصغيرة والكبيرة ليس مصدره النصّ الديني، بل التناقض مع "الغرب". فمن الذي قال، في الجماليات مثلاً، إن الرشاقة خير من السمنة. ومن الذي قال، في السلوكيات، إن الرقة خير من الجلافة!؟
وبمبارحة الخمينية باشرت الخروج من الملحمة الشعرية إلى النثر المشوب بقدر من التروّي. وأحسب أن ما ساعدني على مغادرة الايديولوجيا، ولو ان الرحلة لم تكتمل حتى اليوم، كان عوامل عدة. فمن مفارقات الحروب أنها بينما تحرق البشر، تحرق الايديولوجيات أيضاً. وبالفعل احترقت هذه كلها في الحروب اللبنانية، فيما النار المتأججة التي أحاطت بولادة الخمينية شرعت منذ بداياتها تأكل أطرافها، فتنبعث من الدعوة الجديدة رائحة شيءٍ تعرض للشواء وهو لا يزال في شبابه الغض.
وبين كتب وكتابات، لعب عمل قرأته آنذاك لتلمون عن جذور الاستبداد من خلال التجربة الثورية الفرنسية، دوره في تنبيهي إلى الوعي التوتاليتاري والايديولوجي على أصنافه. كذلك كان لكتاب حنه أرندت "في الثورة" ان علمني أن الثورات مسكونة بطاقة رجعية ومحافظة لا حدود لها. أو لم تكن الخمينية بالتحديد مثالاً وتجسيداً حيين على هذا؟ ولعبت صداقتي المستجدة مع وضاح... دورها كذلك. فهو كان أبكرنا في التعرف إلى عناصر نقد ليبرالي للماركسية وسائر الدعوات العقائدية، وما لبث بنفسه أن غدا مساهماً نشطاً في ترويج النقد المذكور وإشاعته، كتابةً وكلاماً. وأحسب، أيضاً، ان ما ساعدني على مغالبة المرض والتغلب عليه هو لبنان نفسه الذي لم تكن الحروب والثورات والانتفاضات قد طوّحت ألوانه الكثيرة. فعندما اطيح بني صدر تيقّنت من سخافة ما أنا فيه بجملته وتفصيله. ولم يكن بني صدر هذا غير قشة تقصم ظهر بعير...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.