نصوص الكلمات التي ألقيت في احتفال افتتاح الجامعة المصرية، في الحادي والعشرين من كانون الأول ديسمبر سنة 1908، من الوثائق التي لا أشعر بالملل من معاودة قراءتها والاطلاع عليها، ليس بوصفها وثائق خاصة بالجامعة المصرية، وإنما بوصفها وثائق لابد من تذكرها في أي حديث عن مفهوم الجامعة، خصوصاً من حيث هي منارة للاستنارة ومركز من مراكز التقدم الذي لا يتحقق إلا بتأكيد المعنى المدني الذي لا يتحقق، بدوره، الا باستقلال الجامعة وحريتها. وهذه النصوص موجودة في أكثر من دورية من دوريات ذلك الزمان، وعلى رأسها مجلة "المقتطف" التي نشرت كلمات الاحتفال في عددها الصادر في كانون الثاني يناير 1909 المجلد الرابع والثلاثين، ص97 وما بعدها تحت عنوان "الجامعة المصرية"، موضحة أنها تنشر الخطب التي تليت في افتتاح الجامعة لأنها تدل على منهاج التدريس فيها. وقد نشر جرجي زيدان -أحد الدعاة الأول إلى إنشاء الجامعة، ومن أكثرهم حماسة لتأسيسها - في عدد كانون الثاني يناير سنة 1909 من مجلته "الهلال" الجزء الرابع من السنة السابعة عشرة تقريراً إخبارياً عن الافتتاح تحت عنوان "احتفال المصريين بالجامعة المصرية". جاء فيه ما نصه: "احتفلت الأمة المصرية في 21 كانون الأول ديسمبر الماضى بافتتاح الجامعة المصرية التي اشتركت الأمة في إنشائها كما ذكرنا في غير هذا المكان، وعقدوا لهذا الاحتفال جلسة عامة في قاعة مجلس شورى القوانين حضرها الجناب العالي ووزراؤه وقناصل الدولة ولفيف من الأعيان والعلماء وكبار الموظفين غصت تلك القاعة بهم... واستغرق ذلك كله نحو ساعة وسمو الأمير حاضر والجلسة مهيبة. ثم خرج سموه وانفض عقد الاجتماع، وأخذت الجامعة منذ ذلك الحين توالي دروسها في البناية التي خصصت لذلك، وتعرف ببناية جناكليس. فنتوسل إليه تعالى أن تأتي بالفائدة المطلوبة، وأن ترتقي وتتكيف إلى ما يلائم حاجات هذا القطر السعيد. وقد وافق افتتاحها أول فصل الشتاء الذي يبدأ نهاره في الطول. فقد التأمت الجلسة في الساعة العاشرة ونصف من 21 كانون الأول ديسمبر، وفي تلك الساعة يبدأ الفصل المشار إليه ويأخذ النهار في الطول. فعسى أن يكون ذلك فألا حسنا لنمو هذا المشروع المفيد فتدخل مصر في عهد جديد يزداد به نور العلم والعرفان فيها عاماً فعام". وقد بدأت كلمات الاحتفال بكلمة رئيس مجلس الإدارة الأمير أحمد فؤاد الملك فؤاد فيما بعد التي ألقاها نيابة عن الجامعة، متوجها بالخطاب إلى ابن أخيه الخديو عباس حلمي الثاني، كي يؤكد له أن هذا العمل الكبير ستطرأ عليه تغيرات كثيرة قبل أن يأخذ شكله النهائي، وأن مجلس الإدارة لم يدخر وسعا في تثبيت قواعده ليكون البناء الآتي قائما علي أساس مكين، يفي بما تدعو إليه الحاجة في مستقبل الأيام. ويمضي فؤاد قائلاً: لقد جاء اليوم الذي تقضى فيه الضرورة على الشبيبة المصرية بورود مناهل التربية العملية المحضة في نفس القاهرة دون أن تتغرب في ربوع العلم التي نالت بفضله مكانة عالية في العمران. ويبتهل إلى الله تعالى أن يجعل الجامعة نافعة لطلاب العلم عموماً وشبيبتنا المصرية خصوصاً، ذلك لأن مجلس الإدارة لم يقدم على هذا العمل الجسيم، ولم يسهر الليالي بسببه في ما يقول، إلا لترقية هذه الشبيبة التي لا يكفينا امتيازها بالذكاء والنشاط والإجتهاد بل نرى أنه يتحتم عليها أيضا أن تتحلى بفضيلتي الصبر والاستمرار لأنهما سر النجاح. ولا ريب في أن هذه الشبيبة ستكسب هاتين الخلتين الحميدتين لتكون جديرة بتحقيق الآمال التي وضعها فيها مجلس إدارة الجامعة والأمة بأسرها. ولا أعرف من الذي كتب هذه الكلمة الموجزة للأمير فؤاد الذي كان لا يحسن الكتابة بالعربية، ولا يتحدثها بالطلاقة التي كان يتحدث بها الفرنسية والإيطالية. المهم أن كلمته كانت تعبر عن سعادته بإنجاز ما أوكل من عمل جليل إلى اللجنة التنفيذية التي ترأسها، وأنه كان على وعي بالمكانة التي تنالها الأمة في العمران بواسطة الجامعة، كما كان على وعي بأن ما تحقق ليس سوى البداية التي يمكن أن يترتب عليها الكثير، أو يضاف إليها المزيد، ما ظلت بداية الأساس المكين الذي يفي بحاجة المستقبل. ولم يكن التفاؤل بمستقبل الجامعة في علاقته بمستقبل الأمة بعيدا عن ذهن فؤاد الذي كان يعبِّر، حقا، عن أمانيها وهي تتطلع إلى الشباب الواعد بما يحقق آمال الأمة بأسرها في التقدم والنهضة. وبعد أن فرغ فؤاد من كلمته التي اختتمها بأن رجا من الجناب العالي افتتاح الجامعة، نهض الخديو عباس وقرأ الكلمة التي يقول المؤرخون أن الذي كتبها له سعد زغلول وزير المعارف العمومية في ذلك الوقت، والذي كان حاضرا الحفل ولم يدع للحديث فيه، ربما بسبب الصراعات بين السياسيين أو بسبب أنه لم يكن عضوا في اللجنة التنفيذية التي تشكل منها مجلس الإدارة، ذلك على الرغم من دوره البارز في تأسيس اللجنة التحضيرية التي اجتمعت للمرة الأولى في منزله بالقاهرة. ويتحدث الخديو عن ارتياحه العظيم إلى مشروع الجامعة منذ توجهت إليه الأفكار، ويرحب بظهوره في عالم الوجود مكملا ومتوجا لنظام التعليم الذي وضع أساسه جده محمد علي، وقوي أركانه أسلافه من أبناء محمد علي. ويشكر الخديو في كلمته - التي توجه بها إلى عمه الأمير فؤاد رئيس مجلس إدارة الجامعة - جميع الذين عاونوا في هذا المشروع بعلمهم وعملهم ومالهم، ويؤكد للجميع أنه وجميع أعضاء حكومته سيوالون المشروع بالعناية والرعاية. ويدعو في الوقت نفسه أغنياء القطر المصري وفضلاءه إلى أن يستمروا على التنافس بمعونتهم في إمداد الجامعة بالعون المالي حتى تبلغ الأمة غايتها من مشروعها. ويتفق الخديو مع عمه الأمير فؤاد في النصائح الحكيمة التي ألقاها على الشبيبة المصرية، مؤكدا أنه على يقين من أن الشباب سيواظب على العمل بما يضمن ثقة الخديو وثقة البلاد. ويختتم كلمته بافتتاح الجامعة المصرية باسم الفتاح العليم، سائلا الله تعالى أن يجعل منها "منهلا عذبا لطلاب العلم والعرفان على اختلاف الأجناس والأديان". ويلفت الانتباه في خاتمة الكلمة تأكيدها الصفة المدنية للجامعة، من حيث هي مدرسة عالية جامعة للعلوم والآداب، تفتح أبوابها لكل طالب علم مهما كان جنسه أو دينه. وهى الصفة نفسها التي أكدها سعد زغلول في البيان الذي أعلنته على جمهور الأمة اللجنة التحضيرية التي اجتمعت في بيته للمرة الأولى. ويبدو أن سعد زغلول الذي تولى أمر هذه اللجنة في بداية أمرها، قبل أن يتركها بسبب تعيينه وزيرا للمعارف، حرص على تأكيد الصفة نفسها التي يتجسد بها المعنى المدني للجامعة في الخطاب الذي توجّه به الخديو إلى عمه فؤاد وإلى الأمة كلها من خلاله. ويبدو أن سعد زغلول حرص على تأكيد أمور مجانسة في كلمات الخطاب نفسه، لكن التعديل الذي وقع في الخطاب أضاع عليه الفرصة، فغضب لذلك غضبا فوق غضبه بسبب عدم دعوته إلى الحديث في ذلك الاحتفال التاريخى على نحو ما يحكى في مذكراته.