صادف قدومنا الى مصر لحضور الاجتماع في مقر الجامعة العربية، الاحتفال بذكرى ثورة 25 يناير2011م. كنا نسمع من سائق الاجرة وعدد من المارة عن اعمال العنف التي شهدتها بعض احياء القاهرة، والتي راح ضحيتها مجموعة من الاشخاص. وكان هناك انطباع عام لدى الناس ان جماعة الاخوان المسلمين وبعض الحركات المتطرفة استغلت الاحتفال بالذكرى للقيام بأعمال تخريبية لتعكير صفو االاحتفال بالذكرى، وعملت على إثارة الفوضى بالبلاد من خلال قطع الطرق وسكك الحديد وحرق مقار حكومية وأمنية، بالإضافة إلى استهداف عدد من رجال الامن. وانا امشي في اروقة مبنى الجامعة، لم يكن يدور في خلدي ان شرفات الجامعة كانت شاهدا على واحدة من أهم حقب التاريخ المصري بإطلالتها على ميدان التحرير أكبر ميادين القاهرة، الذي يحاكي في تصميمه ميدان نجمة باريس او قوس النصر او شارل ديجول في العاصمة الفرنسية باريس. كان الخديو إسماعيل، خامس حكام مصر من الأسرة العلوية يعشق باريس، وكان يريد ان ينقل هذا العشق الباريسي الى قلب العاصمة القاهرة، ويقال: ان سبب هذا العشق الباريسي هي امرأة فرنسية ارستقراطية تدعى اوجيني، احبها الخديوي لما كان شابا يدرس في باريس، وتمر السنون ويصبح هو خديوي مصر وتصبح هي امبراطورة فرنسا، كما تروي بذلك الاميرة فاطمة، والدة الخديوي. لكن تلك قصة أخرى لعلي أرويها لاحقا. وبالفعل حاكى الخديوي كثيرا من معالم باريس ومن ذلك انشاء ميدان يشبه ميدان شارل ديجول سماه ميدان اسماعيل باشا او ميدان الاسماعلية، والذى أصبح اسمه بعد ذلك ميدان التحرير نسبة إلى التحرر من الاستعمار في ثورة 1919، تخترقها الشوارع كأشعة الشمس من عدة اتجاهات. كان هذا الميدان ولا يزال شاهدا على أحداث عظام لن تنسى في التاريخ المصري الحديث، ومسرحا للاحتجاجات والتجمعات السلمية ضد الظلم والاستعمار. فقد كان شاهدا على اول ثورة قومية ضد الاحتلال الانجليزي بقيادة سعد زغلول فيما عرفت بثورة 1919م. وكذلك مظاهرات 1935م التي خرجت من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) إلى ميدان الخديوي إسماعيل (ميدان التحرير الآن)، للمطالبة بعودة دستور عام 1923م. وكذلك انتفاضة يناير 1977م التي خرجت ضد «السادات» وعرفت بانتفاضة الخبز، والتى وصفها السادات بانها ثورة الحرامية، كانت انتفاضة شعبية سلمية خرجت في معظم مدن مصر احتجاجا على رفع أسعار الخبز. واخيرا توج هذا الميدان بثورة 25 يناير التي اجبرت الرئيس حسني مبارك على التنحي عن السلطة. كانت نفسي تتوق لرؤية ميدان التحرير يوم ذكرى الاحتفال بالثورة، الا أنني لم أتمكن فقد أغلقت جميع منافذه الستة كما قال لنا سائق الاجرة، بالأسلاك الشائكة والمدرعات وسيارات الأمن المركزي وشهد ذلك اليوم تأهبا أمنيا شديدا على مستوى قوات الجيش والشرطة. بعد ان انتهينا من تناول وجبة الغداء، في فندق سميراميس انتركونتيننتال القاهرة، ما هي الا دقائق حتى حضر الشاي الكُشري المصري الثقيل، وبدأت السيدة منال نصر الدين، مدير إدارة المنظمات الدولية بالجامعة، تحكي لنا قصصا وحكايات عن اللحظات الصعبة التي عاشها موظفو الجامعة ايام الثورة، وكيف أن الانفلات الامني زاد من الخوف والهلع لدى موظفي الجامعة، فقد تم الاعتداء على مقر الجامعة عدة مرات وأُحرق جزء من مبناه، وحاولت مجموعات مسلحة عدة مرات ان تقتحم المبنى إلا أنه يتم التصدي لها. وقفت أنظر من شرفات الفندق التي تطل على ضفاف نهر النيل وعلى القاهرة الساحرة، قلت في نفسي ستبقى شعارات وصيحات الشباب في ميدان التحرير الذين غيروا وجه مصر يتردد صداها في مسامعنا لفترة طويلة. نعم نريد سلاما وامانا واستقرارا لمصر الحبيبة، لكن بحرية وكرامة إنسانية تحت ظل العدالة الاجتماعية، وهو ما نأمل ان يتحقق قريبا من خلال إرادة الشعب المصري الصلبة التي تتوافق مع إمكاناته وعمق حضارته وإنجازاته. هذا المقال هو استكمال لمقالي الأسبوع الماضي عن "زيارة إلى القاهرة" حاولت ان اروي بعض ما سمعت او شاهدت او مما اختلج في صدري في تلك الزيارة. * محلل سياسي