منذ فترة ليست بالبسيطة والوسط المهتم بالعمارة والبناء بكافة فئاته يعيش هاجس الهوية بين متحمس ومتنكر لها. يعتبر مصطلح الهوية في العمارة من أوسع المصطلحات انتشاراً حالياً وأكثرها اثارة للجدل على رغم الغموض واللبس اللذين يحيطان به. تختلف التعريفات والتصورات لهذا المفهوم من شخص لآخر تبعاً للخلفيات والاهتمامات التي يعتقد صاحبها بأنها هي - حصراً - التي تمثل الهوية. وبالإمكان في هذا السياق سرد الكثير من الحجج والحجج المضادة التي تنظر لهذا المفهوم أو تلغيه. وبالإمكان أيضاً الخروج بعدد كبير من الهويات والتي فيما لو تحققت على أرض الواقع لأدركنا مدى الفرق الشاسع بين كل هوية وأخرى ومدى صواب أو شطط كل منها فيما تدعيه كما أثبت الواقع ذلك أحياناً. يعود السبب في ذلك جزئياً - على المستوى المعرفي - الى غياب نظرية شاملة ومفسرة لعمارة المجتمعات العربية والإسلامية. ومن دون التوصل الى هذه النظرية والتي تأخذ في اعتبارها كافة النواحي المتعلقة بالعمارة تظل الأسس التي يبني عليها مصطلح الهوية مشروعيته منتقاه وجزئيه. العمارة كظاهرة معقدة تحتاج الى نظرية معقدة تأخذ في اعتباراتها كل العوامل المسؤولة عن ظاهرة التعقد هذه. من هذه العوامل يأتي علم الإنسان بمعناه الروحي وانتماءاته العرقية وسلوكه الاجتماعي، وبنفس الأهمية يبرز العامل الاقتصادي ودوره في أنماط الحياة والاستيطان والاستمرارية التاريخية أو عدمها للمجتمعات العربية والإسلامية في تطوير أنماطها الحياتية والسلوكية والاقتصادية كذلك ومن ثم المعمارية الخاصة بها. كما أن التاريخ كعامل زمني والتبادلات الثقافية بين هذه الشعوب من الأهمية بمكان. وتبقى العلاقة الجدلية بين أهل الوبر وأهل المدر على قدر كبير من الأهمية في تطور ونشوء العمارة على رغم أن هذا الجانب لم ينل نصيبه من الاهتمام الكافي. وبالطبع فإن الأخذ بالعوامل البيئية والجيولوجيا والجغرافيا وموارد المياه والرعي وغير ذلك هي من المسلمات المأخوذ بها دوماً في بناء أي نظرية مشابهة. هذه فقط عينة من العوامل التي يجب النظر اليها للخروج بنظرية يستند اليها أملاً في اضفاء مفردات واضحة لما يقصد بمفهوم الهوية. ومن الواضح أن هذه النظرية تستلزم الإلمام بكل الجوانب المتعلقة بالعمارة. لقد دأب مؤرخو العمارة الإسلامية على اختلاف انتماءاتهم المعرفية الى توثيق هذه العمارة وقد أنجز في ذلك الشيء الكثير ولكن مسألة الاستفادة من هذا الإنجاز في بناء النظرية المأمولة لا تزال بحاجة الى الكثير من العمل الدؤوب. وهو أمر شاق وقد يخرج عن طاقة الفرد الواحد. وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية ومراكز البحوث والنشر العربية منها والأجنبية في تمكين أصحاب هذه المجالات المعرفية المختلفة من صهر كافة المعطيات الثقافية لإنجاز هذا المشروع. انه ومن دون هذا البناء المعرفي ستظل قراءات تاريخ العمارة الإسلامية مبتورة وناقصة على رغم مما قد يحالف بعضها من وقت لآخر من نجاح جزئي. هذا على مستوى المعرفة أما على مستوى الممارسة العملية والى أن يتم الانتهاء من هذا المشروع المعرفي فإنه بالإمكان الاستناد الى مجموعة من الثوابت التي لعبت دوراً في تشكيل الهوية المعمارية للمجتمعات العربية والإسلامية ولا تزال تمارس نفس الدور الذي كانت تلعبه في الماضي. يأتي المناخ في مقدمة هذه العوامل. والعمارة الإسلامية ككثير من عمائر المجتمعات التقليدية في شتى أنحاء العالم هي تعبير مباشر بصورة أو بأخرى عن المناخ. وبطبيعة الحال فإن تعامل العمارة التقليدية مع عناصر المناخ المختلفة تتعدد صوره وفي هذا مدعاة لتعدد أنماط الحلول المبتكرة فيما لو تم التعامل معها بطريقة مبتكرة وخلاقة. وعلى رغم انتقائية هذا الطرح إلا أنه في الواقع يستند الى أسس علمية لا سبيل الى انكارها بينما يبقى كثير من الأطروحات الخاصة بالعمارة الإسلامية مزيج من الإسقاطات الإيديولوجية والقراءات الجزئية لبعض المعارف أو كنتيجة لانبهار لحظي بها وبالتالي فإن هذه الأطروحات يعوزها البناء المعرفي ذي الصبغة العلمية. كما أن حصر الهوية المعمارية في المناخ فقط لا يعني بالضرورة الغاء القراءات الثقافية الأخرى التي تسمح للناس فرادى وجماعات ببناء عمائر يرون فيها امتداداً لشخوصهم الثقافية التي تميزهم عن غيرهم لأن التعامل مع المناخ ينطوي حتماً على فروقات ثقافية. فإذا كانت كثير من العناصر المعمارية المتداولة اليوم قد أصبحت رموزاً للهوية ذات مدلول ثقافي انساني بحت فلأنها في الأساس نشأت لأسباب مناخية بحتة تعمل على كسر حدة تأثير العوامل المناخية على اختلاف أنواعها كالحوائط الصماء والمشربيات وأبراج التبريد والفناءات الداخلية وكاسرات المطر والضوء والشمس وغير ذلك من العناصر المحلية التي تزخر بها كافة المناطق العربية والسلامية على حد سواء. وبعد أن أثبتت التجربة فعالية هذه العناصر مناخياً تحولت بمرور الزمن الى رموز ثقافية. ولذلك فإن اعادة انتاج هذه العناصر بأسلوب مبتكر وخلاق لتواكب استخداماً جديداً ليس بالضرورة أن يكون مناخياً للدلالة على الذات الثقافية هو بالضرورة اشارة غير مباشرة الى دور المناخ في رسم هوية البناء. يمثل الغلاف خط التماس بين الداخل حيث يريد الإنسان الاستمتاع بعالمه الداخلي والخارج حيث المناخ شديد القسوة. وبناء على ذلك فإن الغلاف الخارجي للبناء ذو أهمية قصوى في التعبير عن علاقة البناء بالمناخ. تتراوح هذه العلاقة بين انفتاح كامل أو انغلاق كامل كما هي الحال عليه في البيئة العربية أو هي حالة بين هذا وذاك تبعاً لنوع المناخ السائد. من هنا فإن التعامل الخلاق من قبل المعماريين المعاصرين مع الغلاف من شأنه أن يولد عمارة حديثة ذات استمرارية تاريخية مع التراث. يتساوى في ذلك الغلاف الأفقي كالأسقف والأرضيات والغلاف العمودي المتمثل في حوائط البناء. ان من شأن البناء بأغلفة حديثة تعزل الحرارة والصوت وترشح الضوء تعمل عمل الأغلفة التقليدية وليس تقليداً لها أن يعطي انطباعاً بصرياً بالتواصل مع الماضي وبمعايشة فعالة لعصر التقنية الحديثة الذي نعيشه وبالتالي تكتسب العمارة أهم مقوماتها ألا وهو التعبير عن العصر الذي أنشئت فيه. أما على المستوى البصري فإن الغلاف هو أكثر عناصر البناء استحواذاً على الانتباه وبالتالي فهو أكثرها أهمية في رسم ملامح هوية البناء. ان القاء نظرة سريعة على التقنيات المتبعة في بناء الحوائط في العمائر التقليدية في الدول العربية والإسلامية بل وفي الدولة الواحدة تظهر مدى التنوع البصري لكيفية بناء هذه الحوائط وتترك الباب مفتوحاً أمام استنباط أساليب تغليف جديدة كلية تضفي نوعية مبتكرة على البناء ككل. وإذا ما أخذ في الاعتبار التطور التقني متسارع الوتيرة في مواد البناء الحديثة التي حررت الغلاف من أن يكون عنصراً انشائياً كما كان عليه الحال في الماضي فإنه سيصبح بالإمكان تصور أغلفة لا حصر لها يمكن للمعماري أن يكيفها كما يشاء في بحثه الدائم عن الهوية المفقودة. بطبيعة الحال فإن أزمة الهوية في العمارة تأتي مصاحبة لكافة أشكال فقدان الهوية التي تعيشها معظم المجتمعات العربية والإسلامية كما عاشتها معظم المجتمعات الغربية إبان الثورة الصناعية وكما تعيشها الكثير من دول العالم الأخرى الباحثة عن الهوية في خضم تيار العولمة المتسارع. وتبقى الحلول الناجعة لها مرتبطة بحركة تطور المجتمع والاقتصاد ككل. وفي هذا المجال وفيما يخص الطرح المناخي تحديداً فإن هناك أوجه شبه بين عمارة المجتمعات العربية والإسلامية - حيث يسود المناخ الصحراوي بصورة أو بأخرى - وعمارة الدول الاسكندنافية. إذ أن العمارة وفي كلا البيئتين تتعاملان مع مناخ قاس في برودته أو حرارته. وهذا ما يفسر أهمية السقف في العمارة الاسكندنافية كعنصر معماري يحمي البناء من وطأة الثلوج المتراكمة عليه لفترات طويلة من السنة. ان تعدد أشكال الأسقف في العمارة الاسكندنافية هو بحد ذاته مقياساً للتباينات المحلية في أنماط العمارة الاسكندنافية. وما يقال عن السقف في العمارة الاسكندنافية وطرق التعامل معه يقال عن الحوائط الخارجية وطرق معالجتها في عمارة المجتمعات الصحراوية العربية والإسلامية للتقليل من أثر الحر اللافح. لقد وعى المعماريون الاسكندنافيون المعاصرون هذا الجانب وتعاملوا معه بواقعية في عمارتهم المعاصرة. يذكر في هذا السياق الأعمال المبكرة للمعماري الفنلندي الفرا ألتوا ومن أتى من بعده من أبناء جلدته كالمعماري هيننغ لارسون الذي قام بتصميم مبنى وزارة الخارجية بالرياض. يعتبر هذا البناء الحائز على جائزة الاغاخان للعمارة الإسلامية القائم في أساسه على فكرة الغلاف الخارجي الأصم ذو الفناءات الداخلية واحداً من أبرز الأمثلة على كيفية توظيف المناخ كمصدر مهم للهوية. ان العمارة الاسكندنافية الحديثة في أسلوبها الواقعي - مع بعض الإستثناءات - بأسقفها الضخمة المسيطرة على البناء وأغلفتها الزجاجية المستمرة في بحثها الدائم عن ضوء النهار وسط ساعات الليل القطبي الطويل هي في تواصل مستمر مع بيئتها. انها ذات هوية اسكندنافية. وفي السياق المحلي نفسه في المملكة العربية السعودية والخليج كما في بعض الدول العربية والإسلامية الأخرى هناك عدد من الأمثلة ترتقي الى مستوى عال من الوعي بالذات. فهناك على سبيل المثال قصر طويق في الحي الديبلوماسي بالرياض حاز أخيراً جائزة الاغاخان للعمارة حيث يحوي الغلاف الأصم المبهم والخشن والمبني من الحجر الكلسي الجميل من الخارج عالماً من الرفاهية بالداخل. هذا الغلاف هو عبارة عن نقلة نوعية للحائط التقليدي للمباني الصحراوية الطابع والقلاع في قلب الجزيرة العربية. هناك أيضاً مبنى الإدارة الرئيسية للبنك الأهلي التجاري بجدة وقد أتى شكل البناء كبرج مستوحى من عمائر جدة التقليدية بجداره الرخامي الصلد الذي يحتوي على بهوين كبيرين بالداخل في اشارة مباشرة الى الحلول المناخية التقليدية في الجزيرة العربية التي تعتمد على البهو كعنصر تبريد فعال. أليس في تميز هذه الأعمال وحصدها للجوائز المعمارية تأكيداً على أن التعامل الخلاق مع المناخ بأسلوب مبتكر - مع عدم اهمال الجوانب الثقافية بالطبع - هو مصدر متجدد للهوية التي طال البحث عنها. * معماري وأكاديمي سعودي.