الدكتور شكري عياد معروف في الأوساط الأدبية العربية كاستاذ جامعي وناقد كبير له العديد من الكتب النقدية المهمة. وهو مشهور، أيضاً، كمبدع له الكثير من المجموعات القصصية المنشورة، منها "ميلاد جديد" 1958 "طريق الجامعة" 1961، "زوجتي الرقيقة الجميلة" 1977، "رباعيات" 1986، و"كهف الأخيار" 1987. نال تقديراً عربياً، حين حصل على عدد من الجوائز الأدبية المهمة، منها: جائزة الدولة التقديرية في مصر 1989، جائزة الملك فيصل 1992، وجائزة العويس 1998. وبمناسبة صدور روايته الجديدة "الطائر الفردوسي"، وهي أحدث أعماله، كان معه هذا الحوار الخاص ل"الحياة". زمن الرواية التاريخي، الذي تجري فيه وقائعها، أثناء انعقاد مؤتمر ثقافي في دولة شقيقة، هو زمن فترة نهاية الخمسينات وما قبل قيام "الوحدة" بين مصر وسورية.. هل هناك ارتباط بين هذا الزمن، وذلك الزمن الذي حفزك لكتابة هذه الرواية، في أواخر عام 90، في أعقاب الغزو العراقي للكويت، والذي قلت عنه في مقال "قصة القصة" الملحق بالرواية، إنه "من بذرة هذا التناقض ولدت القصة"؟ - طبعاً، من الناحية القومية، الزمن الذي نعيشه - في تقديري - هو زمن حلم بجامعة كبرى، تجمع هذه الشعوب التي تنطق باللغة العربية، والتي تحمل ثقافة نسميها الثقافة العربية الإسلامية. وطبعاً عندما يقال الثقافة العربية الإسلامية، إنما يقصد، في الحقيقة، تجاور العنصرين. فالثقافة العربية ليست منتمية لجنس معين، هو الجنس العربي، بل هي ثقافة شاركت فيها مع العرب شعوبٌ شقيقة أخرى. ومن مجموع هذه الشعوب تكونت الثقافة العربية الإسلامية، لأن معظمها دخل الإسلام. هذه الوحدة التي تتطلع إليها هذه الشعوب، نتيجة لشعورها أنها مهضومة ومحاصرة من نواحٍ كثيرة، لم تتحقق حتى الآن. لم تتحقق على المستوى النظري، بمعنى أنه لا توجد نظرية واضحة عن هذه الوحدة القومية الثقافية. في أول الأمر قلنا إنها وحدة لغة ووحدة ثقافة، وبغير هذا فلا وحدة في الحقيقة. كان الغزو العراقي البائس للكويت فهما متخبطاً وعاجزاً لهذه الوحدة، ومحاولة عنيفة لتحقيقها! المرحلة التي تدور فيها - أو وضعت فيها - أحداث الرواية، مرحلة شبيهة، لأنها أيضاً كانت محاولة مفتعلة وسريعة، الغرض الحقيقي منها كان تحقيق غايات سياسية حزبية ضيقة لبعض التجمعات أو بعض الفئات في قطرين عربيين هما مصر وسورية، وأحداث الرواية يمكن أن يتصور أنها جرت في سوريا، كما يمكن أن يتصور أنها جرت في العراق، والمعالم الجغرافية مطموسة عمداً، بحيث تصلح أن تكون منطبقة على أكثر من بلد عربي واحد! لم يتوقف عدم التحديد عند حدود المكان الذي جرت عليه أحداث الرواية، بل امتد الى شكل الرواية، حين لم تعط مقاطع الرواية أو فصولها العشرة أي اسماء أو عناوين، ثم امتد أيضاً ليشمل بطلي الرواية، اللذين لم يعرفا بالاسم.. هل فعلت ذلك ليسهل إحالة هذه التجربة ككل الى رمز؟! - نعم، أحسنت، بالضبط هو هذا. والرمز، في النهاية، يتلخص في صورة الأجنة التي لم تكتمل، وهو ليس رمزاً قومياً فقط، وإنما هو رمز روحي أيضاً، بمعنى ذاتي، أي ما يخص الفرد مرة أخرى. ينطبق الرمز أيضاً على تحقق الفرد ذاته. ومن أجل ذلك، البطل هنا، يقول عن نفسه "إنه العاشق المصري الذي يبحث عن توأمه، القوة الهائمة التي تبحث عن شكلها، إرادة الحياة التي يبحث عن روحها". والفكرتان تلتقيان في النهاية. وإذا ضممت هذا الفكر، الى فكر السيرة "العيش على الحافة" ستجد الارتباط قائماً. لأن التحقق القومي لا يتم إلا بالتئام روحي، بأن تصبح روح الإنسان الفرد في أي بلد عربي، روحاً ليس فيها شرخ أو صدع بين الأمنية والفعل، أو كما عبرت بين القوة الهائمة والشكل الذي تتخذه هذه القوة. وهذا الكلام يمكن أن يترجم سياسياً، بمعنى أن تحقق وجود قومي للعرب حلم، لكن ليس له شكل، إنه جنين محبط. على المستوى الفردي، حياة الإنسان العربي، الإنسان المصري، حياة مشوهة، بمعنى أنه ليس فيها جمال التكامل بين النزعات، وبين الفكر والواقع، بين هذه العناصر كلها. لم يصنع الإنسان العربي شخصيته بعد، لم يصنع الشيء الجميل، الذي هو الإنسان. فقبل أي فن جميل، لا يوجد فن أجمل من أن يصنع الإنسان نفسه، تلك الشخصية المتناسقة المؤثرة القوية الجميلة. هذا ما أتصوره، وهو غير موجود في الفرد، كما أنه غير موجود على المستوى القومي! تقدّم الرواية استعادة لتجربة حب قديمة لفتى يافع لم تكتمل، حتى بدت كأهزوجة فقدان حزينة. لكن تلك العلاقة لا يمكن فهمها أو تفسيرها، إلا على ضوء شروط العصر التي جرت خلاله، في فترة الثلاثينات من هذا القرن، والذي كانت آليته تحكم مثل تلك العلاقات وتقيدها وتدفع بها، دون أن يدري أطرافها، نحو النهاية الحزينة! ما رأيك في هذا الرأي النقدي؟ - هذا صحيح، وهو من الأفكار الظاهرة الواضحة تقريباً، وبدا في علاقة هذا العجز في ضغط الظروف الاجتماعية! ولكن، من ناحية أخرى، استطيع أن اقول، إن فيها ما في "العيش على الحافة"، من دعوة الى إثبات الذات، بمعنى أنه لا يمكن أن نتغير كمجتمع إذا لم يكن لدى كل فرد من القدرة على أن يرفع رأسه، وأن يتكلم بما يريد. فهنا البطلان كانا أعجز من أن يصنعا هذا، ولذلك فُقدت التجربة أو ابتسرت، أو لم تولد أصل. تدعيماً للتفسير السابق، نجد أن العلاقة الوحيدة، التي أقبل عليها الفتى، بعد فقد محبوبته. كانت مع مثيل مواز: امرأة تدعي بياتريس الأسم نفسه الذي كان الفتى العاشق يكني به محبوبته، كان أبوها شاعراً من عشاق دانتي، سمّاها بياتريس على اسم حبيبة دانتي وقد حُكم عليهما أيضاً بالفقد والفراق أي أن الفتى عشق صورة، أو نموذجاً، أو أمثولة عصر، ولم يهبط الى أرض الواقع. وفي الرواية مشهد بديع معبّر، حدث بعد أن اجتمعا في غرفة بأحد الفنادق. "انتفضت من الفراش واقفة وكأنمّا أصابها مس، واسرعت الى النافذة وفتحتها على مصراعيها، وبسطت ذراعيها كجناحي فراشة: - أريد أن أطير.. أطير الى النجوم. تعال معي. مدت إليه ذراعها اليسرى فتعلق بها وجذبها بقوة فسقطا على الأرض وأخذت تنشج: - لماذا لم تتركني إن كنت لا تريد أن تطير معي؟". لقد حدث التحول، وانقلب الحال. هي ترغب في تحليق مستحيل الى آفاق الخيال، كما كان هو يفعل سابقاً، وحين هبط بها الى الأرض، فهمت أنهما كانا يكذبان، فكان هذا الموقف إيذاناً بمواجهة ذاتها وحياتها بصدق، فقررت أن تنفصل عن زوجها، لأنها كانت ضحية تصرّف الأب، الذي زوجها مبكراً، دون أن يتفهم إمكاناتها، واختارت الاعتزال كمدرسة في أحد الأديرة، طالبة من الفتى ألا يراها أو يبحث عنها. وهو ما انعكس بعد ذلك في الحلم الذي رآها فيه، فهي تصعد وهو يقف هلعا خشية الوحوش المفترسة أو السقوط. ما رأيك في هذا التفسير؟ - هنا محنة أخرى، أو جانب آخر للمحنة بالفعل، هو البحث عن الاكتمال، والجمع بين إشباع الجسد وإشباع الروح، وأن هذا - على الأقل عندي أنا - يكاد يكون مستحيلاً على المستوى نفسه! يعني أن العلاقات بين الرجل والمرأة - في تصوري - إما أن تميل نحو الجسد أو تميل نحو الروح. وقد تكون روحية خالصة مثل عشق قيس بني عامر لليلى وهو مذكور في الرواية ومثل عشق دانتي لبياتريس، حيث يجعلها قرينة لمريم العذراء. هذا هو الجانب الروحي، أما الجانب الجسدي فهو يتحقق كل يوم في حياة كل إنسان! هل يمكن أن يلتقيا؟! - العلاقة الثانية مع بياتريس الشامية أو العراقية، أيا كانت فهي غير مصرية، ومن دين آخر أيضاًَ، كانت محاولة على قدر كبير من الشجاعة، لاختراق هذا الحاجز بين الجسد والروح. ولكن، لأن الظروف الاجتماعية تكرس وتقدِّس علاقات الجسد، حتى دون أن تراعي متطلبات الروح، جعلت العاشقين في هذه الحالة، يشعران أنهما يخدعان نفسيهما، وكانت هذه الحركة العنيفة من المرأة، محاولة لأن تقطع هذه العلاقة في قمة الارتباط بين الجسد والروح في شعورهما، وقد تواصلا جسدياً وروحياً تواصلاً كاملاً. حينما جرّها الى الواقع، شعرت أن هذه التجربة الرائعة العظيمة، لم تكن صادقة كل الصدق. كان فيها نوع من الكذب، حتى تمر. كما تزوّر شيئاً حتى تمرره، ومن هنا كان الانفصال! أيضاً فيها قضية الدفعة الحيوية، غير المسماة وغير المشكلة. والشكل. وقد حاولت في جملة، قرب نهاية الرواية، أن ألخص كل فكرة الرواية، حين كتبت: "إنه العاشق المصري الذي يبحث عن توأمه، القوة الهائمة التي تبحث عن شكلها، إرادة الحياة التي تبحث عن روحها"! قلت في مقال "قصة القصة" عن الرواية "صحيح أن لها أصلاً في الواقع، وقد أشرت الى هذا الأصل في ختام "العيش على الحافة"، ولكن "الواقع" هذا ظل عصياً على الإفضاء أو البوح أو الشهادة".. والآن، وبعد أن نشرت الرواية، وكناقد كبير، هل يمكن أن تحدثنا عن "دائرة الإبداع" لهذه الرواية، ومدى توفيقك في انجازها؟ - أنا لا أدري الى أي حد مرت هذه المحاولة أو مدى تأثيرها. هذه رواية قصيرة جداً، واعتمدت على الإيجاز المطلق.. هل استطاعت في النهاية أن تكون رواية؟! إذا نظرت إليها بعيون القارئ، وقد قرأت عدداً لا يحصى من الروايات، أشعر أن هذه الرواية نحلت كثيراً. أصبحت أقرب الى المثل أو الأمثولة، فهل نجحت؟ لأن مقياس أي عمل أدبي هو نجاحه، بمعنى ما يوجده في نفس قارئه. والرواية - عادة - تقيم عالما. هذا عمل الرواية، وهكذا أقول عندما أنقد روايات الآخرين. أنا - هنا - أدري جيداً، أنني لم أقم عالما. هناك شذرات من عالم. عندما نكون في القرية، فهناك منظر أو منظران، وضعا لغاية الاختصار. عندما نكون في باريس، فهناك بضعة أسماء لأمكنة وأشياء قليلة ولا يوجد عالم باريس، ولا يوجد عالم القرية المصرية إطلاقاً! هذا شيء يقلقني جداً ككاتب، ولا تنس أني قلت في مقال "قصة القصة"، أني "لم أكن حين أمسكت بالقلم لأخط السطور الأولى فيه مستعداً لتقبل أي شيء يقوله النقاد عن "القصة" أو "الرواية" أو غيرهما، "ولكني كنت استمع لأصوات مختلطة في داخلي، وأحاول أن أفهم معناها بوضعها على الورق". ففي هذا العمل، فعلت شيئاً شعرت أنه يجسم ما في داخلي، ولم أنظر اطلاقاً الى الشكل الفني.. سميته رواية..