الكسندر سولجنتسين روائي ومؤرخ روسي، حاز على جائزة نوبل للآداب العام 1970. عاش الاعتقال والمنفى القسري خلال الحقبة الستالينية فانعكست صور ذلك في الكثير من أعماله مثل "يوم في حياة إيفان دينسوفيتش" و"مضايق الأرخبيل" وغيرها. نفي العام 1974 من الاتحاد السوفياتي السابق بعد نشر الجزء الأول من رواية "مضايق الأرخبيل" في باريس، واتهم بالخيانة العظمى لأن روايته تصف تعسف السلطة السوفياتية على مدى عقود من الزمن. العام 1990 أعيد إليه الاعتبار، واعيدت إليه جنسيته الروسية وتم نشر أغلب أعماله. في هذه القطع النثرية الصغيرة، يتأكد ان سولجنتسين كاتب ينتمي إلى التقاليد الكلاسيكية العتيدة في الادب الروسي. وهذا النثر هو نتاج أفكار قصصية عميقة تحمل ملامح حكم وعبر مؤثرة، وهي تكشف عن موهبته غير المعروفة حتى الآن في هذا الجنس الأدبي. حرية التنفس مطر كثير تساقط أثناء الليل، والآن غيوم داكنة تندفع عبر السماء، وبين الحين والحين يتناثر شريط ناعم من المطر. ها أنذا اقف في العراء، تحت شجرة تفاح وأتنفس الهواء الطلق. ليس شجرة التفاح وحدها، بل والحشائش من حولها أيضاً تتلألأ بالندى. تعجز اللغة ان تصف الاريج الجميل الذي يعطر الجو. استنشق وعيناي مفتوحتان، استنشق وهما مغلقتان. لا أدري أي الحالتين تمنحني بهجة أعظم. إن هذا باعتقادي أثمن وأندر حرية سلبها منا السجن: الحرية للتنفس بحرية، كما أفعل الآن. ليس هناك من طعام على الأرض ولا شراب ولا حتى قبلة امرأة أحلى لي من هذا الهواء المضمخ بشذى الأزهار والندى والعذوبة. لا يهم ان تكون هذه الحديقة مجرد حديقة معلبة، محصورة بين خمس من البنايات الجاهزة وتبدو مثل قفص في حديقة حيوانات. توقفت لسماع صوت ارتداد محرك دراجة نارية وطنين راديو وطقطقة مكبر صوت. ما دام هناك هواء عليل نستنشقه تحت شجرة تفاح، بعد زخة مطر، فربما نستطيع ان نعيش فترة أطول. انعكاسات دائماً ما تبدو انعكاسات الأشياء - إن كانت قريبة أو بعيدة - على سطح تيار نهر سريع الجريان غير واضحة، حتى وان كان الماء نظيفاً وليست فيه انعكاسات رغوة النهر المستقر، كما وان المشهد المتغير الألوان للنهر يبقى غير واضح وغامضاً ويصعب سبر أغواره. فقط حينما ينحدر النهر إلى الأسفل، كتلة إثر كتلة، ويأخذ بالاتساع ويصبح مصباً هادئاً أو يستقر على شكل مياه راكدة أو بحيرة صغيرة، عندئذ نستطيع ان نرى في صفحته الشبيهة بالمرآة نعومة كل ورقة شجرة وكل قطعة سحاب ونرى السماء الشاسعة المنبسطة العميقة الزرقة. إنه الشيء ذاته الذي يحصل مع حياتنا. فإذا كنا إلى ذلك الحد غير قادرين على أن نرى بوضوح أو لنعكس الملامح الأبدية للحقيقة، فإن ذلك ليس لأننا لا زالنا أيضاً نتحرك صوب نهاية ما، بل لأننا لا زلنا نعيش. في ريف يسنين أربع قرى متشابهة، متناثر، تقع الواحدة منها بعد الأخرى على امتداد الطريق. غبار. لا وجود لحدائق أو غابات في القرب. أسيجة متداعية. هنا وهناك بعض الأبواب والنوافذ المطلية بألوان صارخة. خنزير يتمرغ أمام مضخة ماء في وسط الطريق. وحينما يمرق ظل دراجة هوائية من أمام رتل من الأوز يسير على شكل طابور تلتفت إليها جميعاً باتساق وتطلقب أصوات عدائية لكنها مرحة. الدجاج ينبش مسروراً في أرض الممر والساحة بحثاً عن الطعام. حتى متجر القرية الرئيسي في كونستانتينوفو يبدو مثل بيت دجاج متداع. سمك مجفف. أصناف مختلفة من الفودكا. معجنات دبقة مغلية، من النوع الذي توقف الناس عن تناوله قبل خمسة عشر عاماً. أقراص خبز سوداء وزنها ضعفا وزن خبز المدينة، تقطيعها بالفأس أسهل مما بواسطة السكين. في الداخل، كوخ يسنين، أجزاء بائسة تكاد لا تصل إلى السقف مقسمة إلى ما يشبه الخزائن المكعبة أو العلب المفتوحة مما إلى غرف حقيقية. في الخارج باحة مسيجة، قديماً كان مقاماً هنا حمام البيت حيث سرغيه اطلق على نفسه الرصاص في الظلام وكتب أول أشعاره. خلف السياج هناك الاسطبل الصغير الاعتيادي. تجولت حول هذه القرية التي هي تماماً مثل كل القرى الأخرى حيث اهتمامات القرويين الأساسية لم تزل المحاصيل الزراعية وجمع المال وكيفية الحفاظ على حسن الجوار. ثم تمشيت: ان النار المقدسة التي أشعلت ذات مرة هذه القطعة الريفية استطيع أن أشعر بها حتى الآن تلفح وجنتي، تمشيت على طول منحدرات أوكا، حدقت في البعد متأملاً: أحقاً ان هذا المدى الأجرد من غابات كفورستوف هو الذي استحضر إلى المخيلة هذا البيت: "صخب الغابة ذو الشكوى المتذمرة..."؟ وهل ان هذا المكان هو المكان نفسه من اوكا الذي يتموج خلال الأعشاب المائية التي كتب عنها يقول: "بيدر من الشمس ينتصب في عمق الماء"؟ أية شرارة من الموهبة قذفها الخالق في هذا الكوخ، في قلب هذا الصبي القروي السريع الاشتعال، الذي كان عليه، لقوة صدقها، ان يفتح عينيه على كثير من الاشياء الجميلة: الموقد، الزريبة، ماكنة درس الحنطة، الحقول، أشياء جميلة داس عليها الآخرون قبل آلاف السنين وأهملوها. الموقد والنمل رميت بجذع شجرة قديم في النار من دون أن الحظ أنه كان يمتلئ بنمل حيّ. بدأت قطعة الخشب تحدث فرقعة أثناء اشتعالها وأخذ النمل يهوى ويتساقط مضطرباً ويندفع يائساً في جميع الاتجاهات. اتجه إلى قمة الخشبة متلوياً حين لفحة اللهب. أمسكت بقطعة الخشب وأزحتها جانباً. كثير من النمل تدبر أمره للهرب نحو الرمل أو أوراق الصنوبر البرية. المدهش في الأمر ان النمل لم يهرب بعيداً عن النار. فما كاد يتغلب على رعبه حتى عاد وتجمع ثانية مع شيء من القوة يجذبه للذهاب إلى مواطنه الأصلية التي هجره منذ قليل. عدد كبير تسلق الجذع المشتعل مرة أخرى، واندفع صوبه وهلك هناك. الجرو في باحة بيتنا الخلفية كان هناك صبي يقيّد على الدوام جروه "شاريك" بكرة من الفرو منذ كان صغيراً. ذات يوم أتيت له ببعض عظام دجاج ساخنة، تفوح منها رائحة شهية. كان الصبي اطلق الكلب المسكين من قيده وتركه يجول في الباحة. كان الثلج سميكاً وهشاً و"شاريك" يقفز هنا وهناك مثل أرنب: مرة بطرفيه الخلفين وأخرى بالأماميين، قاطعاً الباحة من الخلف إلى الأمام، داساً بوزه في الثلج. اندفع ناحيتي، كان جلده خشناً، وثب إليّ، تشمم العظام ثم ارتد مبتعداً وأخذ ينبح بقوة في الثلج: لا أريد عظامك، قال، اعطني حريتي لا غير. كيس الظهر إذا كنت في باص الضواحي وتلقيت فيه دفعات مؤلمة على الصدر أو الظهر بواسطة حافاته الحادة فلا تشتم أو تلعن، بل الق نظرة متفحصة على تلك السلة المتينة المصنوعة من القش وحبلها الواسع البالي المصنوع من القنب. إن صاحبتها تحمل الحليب والجبن والطماطم إلى المدينة لأجلها واثنين من جاراتها لكي تعود ومعها خمسون قطعة من الخبز تكفي لعائلتين. إنه خشن وواسع ورخيص كيس ظهر الفلاحات هذا، ان هذه السلة تستوعب مقداراً من الحمل يصعب حتى على الاكتاف المتحركة لفلاح من تحمل جذب حبله خلال الجاكيت السميكة المبطنة بالقطن. هذا ما تفعله الفلاحات: يلقين السلة على منتصف ظهورهن ثم يضعن الحبل حول رؤوسهن مثل لجام الفرس حتى يتوزع الوزن بالتساوي بين الكتفين والصدر. انني لا اقترح، يا رفاقي في الكتابة، ان تضعوا مرة هذه السلة على رؤوسكم، ولكن إذا ما تلقيتم دفعة أو لطمة في باص الضواحي فما عليكم إلا أن تستقلوا سيارة أجرة. المدينة التي على نهر نيفا الملائكة تمسك بالشمعدانات ساجدة حول القبّة البيزنطية لكاتدرائية القديس اسحق. ثلاثة أبراج مكسوة بالذهب، كل واحد يحاكي الآخر بروعته تطل على النيفا. السباع في كل مكان، الكلاب البلجيكية والثيران المجنحة تقف حارسة فوق بيوت الكنوز، أو هي مضطجعة. النصر انتزعته جيادها الستة التي تعدو فوق أقواس من المرمر الروسي الخالص. أروقة قائمة على مئات، بل ألوف من الأعمدة، جياد جامحة تشدها الثيران... وما يبعث على الثناء هو عدم سماح إقامة أبنية جديدة هنا. لا ناطحات سحاب تستطيع أن تشق طريقها وتطل على منزل نفسكي ولا علبة أحذية مؤلفة من خمس طوابق تستطيع ان تشوّه منظر قناة غريبويدوف، ولا يعيش هنا أي مهندس معماري. كم هو جميل أن تنحدر ماشياً في هذه الشوارع. وكم هو مريب هذا الجلال الذي بناه الروس. رجال سحقتهم الأيام، تعذبوا وتعفنوا في هذا الوحل الموحش. إن عظام اسلافنا كبست، تحجرت، ذابت في هذه القصور وتلونت بألوان الغراء الأصفر والبني والأخضر. ثم ماذا عن كوارثنا، حياتنا المضطربة؟ ماذا عن تفجر احتجاجاتنا، تأوهات رجالنا الذين اطلق عليهم الرصاص من قبل فرق الموت؟ وماذا عن وقوع نسائنا، أينبغي أن يُنسى كل هذا؟ أو هل بمقدوره ان يمنح رفعة أكثر لهذا الجمال الخالد؟