ها قد ضبطني عماد نداف متلبساً في أمرين معا "الحياة" 5/9، أولهما زياراتي لعبدالوهاب رشواني في مكتبه في دمشق، والثاني انني امتدحت كتاب نداف المعنون "خالد بكداش يتذكر"، والأمران صحيحان، ويبررهما أن رشواني مناضل، وصديق أعتز به وأحترمه، فيما لا تعني زيارتي له إدانتي لرياض الترك والظاهرة التي ارتبطت باسمه، أما كتاب نداف المومأ اليه، فقد نال إعجابي، فعلا، من زوايا عدة، لعل أهمها ان قادتنا العرب يعزفون عن كتابة مذكراتهم، واذا كتبوها، فإنهم يحشونها ببطولاتهم، ووجهات نظرهم الصائبة، مما يبرئهم من كل ما اصاب الشعب والوطن من كوارث، وتحمل المسؤولية في هذه الكوارث لما عداهم من القادة. لذا فإن ما فعله نداف هو ارغامه احد اولئك القادة على التذكر. الامر الذي كرره نداف، مشاركاً زميلين، لاحقاً، مع الامين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، نايف حواتمه. بيد ان اعجابي هذا لا يمنعني من إبداء ملاحظات على محتوى هذا الكتاب او ذاك، على رغم اهميتهما التاريخية، والفكرية، والسياسية. على أنني دهشت لأن نداف لم يتمكن من معرفة الهدف من ردي "الحياة" 21/8 على مقال له "الحياة" 8/8 عن رياض الترك، ما جعله يصف ردي بأنه "دفاع غير ضروري عن رياض الترك"، حسب العنوان . ويرى نداف انني أبني وجهة نظري - لكنه يستدرك: "ان كانت هناك وجهة نظر" - "على مرتكزات واهية"، "فكيف لا يتضمن ردي وجهة نظر، وتقوم لا وجهة النظر هذه على مرتكزات، سواء كانت واهية أو قوية؟!. الا اذا كان قصد نداف التهجم على شخصي فحسب. باختصار شديد، مقال نداف الاول كان استقبالا غير ودي لمناضل جسور، صان قناعاته السياسية والفكرية، فدفع الثمن غاليا، وهذا هو مضمون ردي الاول 28/8. اما ان مقال نداف المومأ اليه حمل مفردات كتابه "خالد بكداش يتذكر" نفسها، فأمر محير، فعلا، اذ لم أقرأ في هذا الكتاب ما يشي بتشكيك نداف في امر ثبات الترك على الماركسية - اللينينية، كما أنني لا أذكر بأن نداف ربط تشككه هذا بالإشارة المستهجنة... بعد ان حفظ الترك - كما قيل - القرآن الكريم، عن ظهر قلب "في هذا الصدد لا أنسى علامة التعجب التي ألحقها نداف بعلامة الاستفهام، في غمز ملحوظ على ما يمكن أن يكون آل اليه وضع الترك، الأمر الذي دفعني - قبل غيره - الى كتابة ردي الأول. يستمر نداف في تهجمه على شخصي، فيرى أنني وقعت في اكثر من مغالطة، من دون أن "آتي بجديد على ارض الواقع"، اذ أنفي- تارة- حدوث انشقاق، وتارة اخرى أصفه بأنه "انشطار"، فضلاً عن أنني أعيد التريث في الخروج الى البحث عن الشرعية الاممية. على انني لا ارى مغالطة في اي من هذه التوصيفات، فنداف نفسه يصف من يتهم الترك ومن معه بالانشقاق عنهم، بأنهم "جناح بكداش"، كيف يكون الانشقاق عن "الجناح"، ناهيك عن أن الجناح يكون داخل حزب، اما وقد شكل جسماً مستقلاً، فقد غدا حزباً، وكف عن أن يكون تياراً او جناحاً. لذا فإن المنظمات الشيوعية الأربع، القائمة الآن، هي أحزاب، يمتلك كل منها مبررات وجوده المستقل، وليس لنا ان نتهم أيا منها بأنه "انشقاق"، ومن باب اولى فهذه الأحزاب ليست "أجنحة". اما الظاهرة التي حملت اسم رياض الترك، بالذات، فأمرها يعود الى سنوات بعيدة من حياة سورية وحزبها الشيوعي. فحين حث العسكر السوريون الخطى لانجاز الوحدة مع مصر، مطلع 1958، تحفظ الحزب الشيوعي من الوحدة الاندامجية الفورية، وبنى تحفظه هذا على امرين اثنين، اولهما تفاوت النمو الاقتصادي في القطرين الشقيقين، سورية ومصر، اما الأمر الثاني فكان الحريات الديموقراطية، التي كانت ترفل فيها سورية، آنذاك، دون مصر، ما جعل "الشيوعي السوري" يصر على الأخذ بصيغة "الاتحاد"، بديلا عن "الوحدة"، في سبيل المحافظة على المكاسب الديموقراطية التي حققها الشعب السوري بالدم. وبعد محادثات مع أطراف من التحالف الوطني السوري، ظل "الشيوعي" متمسكاً بأمر الحريات الديموقراطية، وغض النظر عن التفاوت الاقتصادي. لكن عبدالناصر أصر على حل الأحزاب، وإغلاق الصحف... وكان "الشيوعي" الوحيد من بين كل الأحزاب السورية، الذي رفض حل نفسه، بينما حلت كل الأحزاب نفسها، من دون إبداء اي مقاومة، يقول الضابط البعثي الكبير مصطفى حمدون، ان "البعث" حل نفسه، لأن عبدالناصر اكد لقادته بأن "الاتحاد القومي" ليس الا امتداداً لحزب فيما اكد الكاتب السياسي المصري، محمد حسنين هيكل ان "البعث" وزع تعميماً على اعضائه، حينذاك، يؤكد فيه أن الوحدة مع مصر ستخلص سورية من الشيوعيين، الامر الذي اكده ايضا سفيرا الولاياتالمتحدة في كل من دمشق والقاهرة في تقاريرهما السرية الى الخارجية الاميركية حينذاك، والتي كُشفت اخيرا. بعد سنة واحدة من صدام عبدالناصر الدامي مع الشيوعيين السوريين والمصريين، تبنى "البعث" شعار "الحريات الديموقراطية" ضماناً لاستمرار الوحدة، بل إن عبدالناصر نفسه ذكر غياب هذه الحريات ضمن اسباب انفصال سورية عن مصر 28/9/1961، مضيفاً اليه إهمال عبدالناصر وحدة القوى التقدمية، وتغاضيه عن أنشطة القوى الرجعية. حتى أن عبدالناصر أعاد ترتيب شعارات البعث وحدة/ حرية/ اشتراكية، فنقل "الوحدة" الى آخر المفردات الثلاث، حتى غدا شعار الناصرية حرية/ اشتراكية/ وحدة. وأكدت الحياة صحة شروط "الشيوعي السوري" لإقامة وحدة سليمة. على ان الامر لم يخل من تجاوزات عند التطبيق. ذاك ان القمع الشرس الذي مارسته اجهزة امن دولة الوحدة ضد الشيوعيين، تسبب في ردود فعل غاضبة للشيوعي. كان من الطبيعي ان تخرج عن حدود "الحريات الديموقراطية"، وكلنا يذكر ان عشرين شيوعياً قضوا نحبهم تحت التعذيب 2 من سورية و18 من مصر، عدا آلاف من اعضاء "الشيوعي" الذين غيبتهم السجون والمعتقلات، واذكر ان عبدالناصر قال، في احدى خطبه، في نيسان ابريل 1959: "اين هم الشيوعيون العملاء؟ لقد تبخروا، او ذهبوا للقاء ربهم". على ان ردود الفعل الغاضبة "للشيوعي السوري" على ممارسات أجهزة امن الوحدة، لم تسلم من انتقادات كوادر وقيادات شيوعية سورية. ووصلت هذه الانتقادات مداها، حين لم تعارض قيادة "الشيوعي السوري" الانفصال، برغم كل الانتهاكات التي حفل بها عن الوحدة. ولعل اللافت ان الترك كان من أهم المنتقدين، رغم ما لاقاه من تعذيب وحشي في معتقله، افقده السمع. بعد قضية الوحدة العربية، جاءت هزيمة حزيران يونيو 1967 المدوية، التي ادخلت سورية في ازمة عامة، لم ينأَ عنها الحزب الشيوعي، فأضيف عامل آخر الى مكونات ازمة هذا الحزب المستفحلة، في إطراد. لقد عجزت قيادة "الشيوعي" عن الاستجابة لاحتياجات المرحلة، ولم ترتق تلك القيادة بأدائها الى مستوى التحديات الجديدة، التي امدت نار الصراع داخل "الشيوعي" بحطب جديد، فزادتها اشتعالاً. فيما كانت هذه النار في امس الحاجة الى ديموقراطية داخلية رحبة، كي تحتوي تلك النار، قبل ان تخمدها، لترشد استخدام الحطب، لحساب قضية الحزب، وليس ضدها. هكذا تمحور الصراع داخل "الشيوعي" حول اداء هذا الحزب ازاء فلسطين، والوحدة العربية، وحدود الوحدة والصراع مع "البعث" الحاكم. وكان طبيعياً ان يفضي الصراع الى تبلور تيارين رئيسيين داخل الحزب، كان يمكن ان يتعايشا تحت مظلة الحزب نفسه، لكن ارضية الديموقراطية الداخلية كانت مفتقدة، والا لشرعت التعددية الفكرية والسياسية داخل الحزب. مما طور التمايز داخل الحزب الى انشطار الحزب نفسه الى شطرين، على النحو الذي اشار اليه نداف الحياة 8/8، ومن قبله محمد جمال باروت الحياة 5/6/1998. الخلاصة ان الأحزاب الشيوعية الاربعة في سورية، هي احزاب متوازية، لكل منها مبررات وجوده، الفكرية والسياسية، اما القول بحزب شيوعي سوري واحد، وما تبقى انشقاقات، فأمر يتعارض مع الواقع، وإن كان النضال من اجل حزب واحد، امراً مشروعاً ومنطقياً، بعد ما تأكد مدى عقم الانشطار الذي يفقد الحزب الكثير من هيبته ونفوذه الادبي لدى الشعب، فيما يسلم الانشطار عدداً غير قليل من اعضاء الحزب الى القنوط، فيعتزلون الحياة السياسية، ويتأزم اعضاء آخرون، ناهيك عما يستفيده العدو الطبقي من اسرار ثمينة، ما كان ليصل اليها، لولا الانشطار، وذيوله، وتداعياته. اما الموقف من رياض الترك، فيكفي ان اذكر كيف ان نساء مدينتنا، يافا، كن يرفضن غسل الملابس، يوم الاثنين، وحين استفسرت من جدتي، ردت بأن الحسين بن علي رضي الله عنه ومن معه في كربلاء ماتوا من العطش، لذلك من الظلم ان نهدر الماء، في اي من ايام الاثنين. لاحظوا أن نساء مدينتنا سُنيات، ولسن شيعيات، لكنه الحس الشعبي الذي يمجد البطولة، ويعجب بمن كان يمكنه مواصلة الحياة في هناء ورغد، لو انه أمال رأس ناقته، وعاد من حيث أتى.. لكنه لم يفعل. * كاتب فلسطيني مقيم في مصر.