حتى قبل أن يسمع المصريون بالموقف "الجديد" و"الطريف" الذي وقفه الزعيم الاشتراكي الفرنسي غاستون ديفير من مسألة الخلاف الذي استحكم في ذلك الحين بين مصر من ناحية وفرنساوبريطانيا من ناحية أخرى كان الفرنسيون أنفسهم بدأوا يسخرون من ذلك الموقف ويعلقون عليه. وكان أطرف تعليق ذاك الذي قاله وزير فرنسي في الحكومة الاشتراكية نفسها التي ينتمي اليها ديفير، لكنه رفض أن يذكر اسمه، وفيه: فكرة السيد ديفير في الحقيقة فكرة قوية ورائعة، لكن عيبها الوحيد يكمن في أن مبتدعها نسي، أو ربما لم يتناه الى علمه، أن السودان دولة نالت استقلالها منذ الأول من كانون الثاني يناير المنصرم! ما دخل السودان في الأمر؟ بكل بساطة قدم السيد ديفير اقتراحاً يرمي من خلاله الى "تركيع عبدالناصر" حسبما جاء في الصحافة الفرنسية في ذلك الحين، فهو - أي ديفير - في رسالة بعث بها الى رئيس الحكومة، وصاغها بوصفه وزيراً في حكومة هذا الأخير لشؤون ما وراء البحار، اقترح ان يتم تجويع المصريين عبر حرمانهم من مياه النهر الذي يغذيهم ويغذي تربتهم، وذلك "بفضل غارة تشن انطلاقاً من تشاد أو من اوبانغي - شاري، وغايتها نسف روافد نهر النيل التي تمر في أراضي السودان الانكليزي - المصري المشترك". والغريب في الأمر ان ذلك الوزير الفرنسي الحصيف ذكر السودان بذلك الاسم من دون أن يخطر في باله أن السودان كف عن أن يكون انكليزياً أو مصرياً، منذ ما لا يقل عن تسعة أشهر. فالحال أن تلك الرسالة وصلت الى الصحافة يوم 22 أيلول 1956، أي بعد أقل من شهرين من اعلان الرئيس جمال عبدالناصر تأميم شركة قناة السويس، كرد على توقف الأميركيين والغرب عموماً عن مشروع تمويل بناء السد العالي في مصر. يومها شعرت لندنوباريس معاً، بأن في الأمر لطمة لهما، وبدأتا تحركان الضغوط في كل اتجاه في سبيل منع عبدالناصر من استكمال خطوات التأميم، لكن الأمر - بالنسبة الى الرئيس المصري - انقضى وصارت القناة مصرية. نعرف طبعاً أن بريطانياوفرنسا ردتا على خطوة عبدالناصر بتلك الحرب التي شنتاها بالتواطؤ مع اسرائيل ويطلق عليها الغرب اسم "أزمة القناة" أما العرب فيطلقون عليها اسم "العدوان الثلاثي". ولكن، في تلك الأيام من شهر أيلول، لم يكن ثمة بعد حديث جدي عن عدوان أو عن حرب. كان الأمر مجرد تهويل، أو هذا ما خيل الى العالم. ومن هنا فإن رسالة ديفير، حين اذيعت على الملأ، لم تثر الضحك والسخرية لمجرد أنها اخطأت بالنسبة الى الوضعية السياسية لدولة السودان، بل كذلك لأنها كانت تتحدث، باكراً، عن تجويع الشعب المصري، وعن "تركيع عبدالناصر". وتبين لاحقاً، على أي حال، ان غاستون ديفير لا يمزح، بل كان يعبر في تلك الرسالة، ولو بشكل مضخم، عما تفكر به الحكومة الفرنسية وحليفتها الحكومة البريطانية. اذ في الوقت الذي كانت فيه الصحافة والرأي العام يعتادان على أن ما يقوله ديفير في رسالته تهويل في تهويل، حتى تحركت القوات الاسرائيلية تهاجم مصر، ثم تدخلت قوات باريسولندن بحجة وقف القتال بين الجانبين! مهما يكن فإن الضغوط الدولية بدأت منذ اللحظة التي أعلن فيها عبدالناصر التأميم، لكن هذا الأخير كان يعرف جيداً أن الغاية الأساسية للقوى العظمى، حتى من دون أن تكون متطابقة تماماً مع رغابات فرنساوبريطانيا، كانت دفعه الى الاستسلام والتراجع. وهو كان يعرف أن أي تراجع أو استسلام من ناحيته سيكون فيه القضاء عليه، لذلك صمد في وجه الضغوط، لا سيما من ضغوط مجلس الأمن التي كان رئيس الحكومة الاسترالية روبرت منزيس نقلها الى مصر، يومها أجاب عبدالناصر منزيس يبدوان معاً في الصورة ووسطهما محمود فوزي وزير الخارجية المصري: "اننا لعلى اقتناع بأن أي شخص يدرس هذه الوثيقة بطريقة موضوعية، لن يكون أمامه إلا يقين واحد وهو أن هدفها الوحيد هو سحب القناة من أيدي المصريين واعطاؤها للآخرين. وأنه لمن الصعب علينا أن نتصور ما هو أكثر استفزازاً للشعب المصري من هذا".